حمص، التاسع من حزيران/يونيو عام 2012 م.
المدينة هادئة والشمس ستشرق بعد ساعتين تقريبًا.
محمد لم ينم، طيلة ساعات الليل كان يجلس في فراشه ويقوم ويعود ليتمدد فيه ومن ثم يجلس... وظلام الليل يُخفف من وطأة الإحساس الدائم بالخطر والموت الوشيك، ويزيد الليل من الإحساس الهشّ والخوف والحُزن!
منذ أشهر وهذا الحال مُستمر بل ويزداد حِدةً ووضوحًا، حالةٌ من الخراب... خرابُ البنايات والشوارع وكل البُنى التحتية والفوقية، وخراب يمتدد في الجسد والروح!
وإلى متى؟ وكيف ستنتهي الحكاية؟ ومتى بدأت هذه الحالة ولماذا؟ نعم لماذا حدث كل هذا؟
تبقى التساؤلات مُعلّقة... لا تنتظر، فهي ميّتة أو لا تشعر بشيء!
والليل هذا الضيف اليوميّ الذي يُخفف دائمًا من فظاعة الواقع... نعم، فكل الثقوب في الجدران من جرّاء الرصاص، وكل الدمار الموجود يختفي في الليل... لا تراه العين وأصوات الرصاص والإنفجارات تختفي أيضًا، إلا في حالات إستثنائية طبعاً!
والصباح يبدو وكأنه بداية أو إستمرار لما قد توقف بالأمس قُبيل مغيب الشمس أو بعد غيابها بقليل... كصباح اليوم التاسع من حزيران/يونيو، أشرقت الشمس على الخراب والدمار، وكان محمد الذي يقطن وإثنين من رفاقه في عمارة مهجورة ومُدمرة بعض الشيء، ويستخدمونها كمسكن ومُعسكر، وهي تطل على شارع القاهرة... ومنذ أيام باتت جبهة القتال هُنا، ثمة فُتحات في البناية لإطلاق الرصاص والأربيجي....
كان محمد يقف في وسط الغرفة، وينظر لرفيقية النائمين على الأرائك، كانا ينامان بعمق وهو ينظر ويتسائل: كيف ينامان هكذا وبهذه السهولة؟!
كان يشعر بشعور قويّ وقاسٍ، شعورٌ بالتعب والخوف والحُزن والرغبة بالهرب... ولكن إلى أين؟
لا يدري... منذ أيام لم يذق طعم النوم، وخلال هذه الأيام إستبدّ به شعوره ذاك، حتى صوت الرصاص بات يُثيرُ فيه الشعور باللاجدوى واليأس ويعلم بأن الرصاص إما أن يفشل في إصابة الهدف أو سيقتل أحدهم... وأحدهم هذا مثلهم، ويُشبههم! ويقفز في ذهنه سؤالٌ مُرعب: لماذا نقتلُ بعضنا؟!
ويُشاهد، نعم بات يكتفي بالمُشاهدة والتركيز في تفاصيل كل شيء.
صوتُ الرصاص والإنفجارات لا تُخفف من حِدّة الأفكار التي تتراكم وتنفجر في رأسه كل حين... ويعودُ للوراء لمشاهد قديمة جدًا وقديمة وفي الأمس القريب حدثت!
يراهُ طفلًا في بيتهم بين إخوته ويرى أمه وأبوه، يرى الوجوه تبتسم ويسمع الضحكات والنداءات، ويسمع صوت التلفاز... مُسلسل مرايا وبقعة ضوء، وأخبار المساء عن بغداد وغزة وإقتحام المستوطنين للمسجد الأقصى، وفي حديقة البيت تحت "مُعرش" الدوالي تجلس العائلة الكبيرة الأب والأم والأعمام والعمات وأحاديثهم اليومية عن الحال والأحوال، وهو وأبناء العمومة أطفالٌ يلعبون ويسترقون السمع لأحاديث الكبار التي لا يفهمون مُعظمها... وتغرب الشمس لتشتعل إنارة المساء، والمساء المُنعش مع رائحة المحاصيل الزراعية...!
يرى الطفل يكبر، يراهُ ذاهبًا إلى المدرسة في الصباحات الباردة وعائدًا في نهار حار، ويُسرع في العودة، ليشرب من جرة الفخار التي ترشح بالماء، ويتلذذ بطعم الماء...!
ها هو الطفل يكبر أكثر، تنبت على وجهة علائم البلوغ، شارب وبضعة شُعيرات في الذقن، ويُنهي البكالوريا بإمتياز وتبدأ حياته الجامعية، ويبدأ يتعب من المواصلات العامة ووعي الكبار وإدراكهم، وفي الجامعة يدرس: اللغة العربية، لم يختر هذا التخصص، كان يرغب بدراسة التاريخ أو علم الاجتماع أو العلوم السياسية... لم يُفكر إطلاقًا بدراسة تخصص اللغة العربية، ولكن ليس كل ما يُريده المرء يُدركه "تجري الرياح بما لا تشتهي السفن"!
يُحب فتاة معه في الجامعة ويعيشُ معها احمل قصة حُب، وتبدأ مُعاناة العشق ترتسم على الملامح الطفولية، ويبدأ مُسلسل الشوق المُستمر والرغبة الجامحة في كل ما هو ممنوع، تبدأ حكايات الهروب والتلصص والمواعدات والمشاكل وكل شيء مُرهق وجميل... وفجأة: يحدث إنفجار!
صراخ وتكبير وغُبار كثيف ورائحة حادّة تزكم الأنوف وتملأ الصدور، سُعال هُنا وكلمات لا مفهومة هُناك!
والخبر العاجل: إستطاعت قوة من الجيش في حمص تدمير وكر للإرهابيين وقتل عدد منهم...!
وقُتل مُحمد عن عمر يُناهز الثلاثين عامًا.... وكذلك قُتل في هذا الصباح أحمد وميلاد ويوسف وجعفر وخالد...!
المدينة هادئة والشمس ستشرق بعد ساعتين تقريبًا.
محمد لم ينم، طيلة ساعات الليل كان يجلس في فراشه ويقوم ويعود ليتمدد فيه ومن ثم يجلس... وظلام الليل يُخفف من وطأة الإحساس الدائم بالخطر والموت الوشيك، ويزيد الليل من الإحساس الهشّ والخوف والحُزن!
منذ أشهر وهذا الحال مُستمر بل ويزداد حِدةً ووضوحًا، حالةٌ من الخراب... خرابُ البنايات والشوارع وكل البُنى التحتية والفوقية، وخراب يمتدد في الجسد والروح!
وإلى متى؟ وكيف ستنتهي الحكاية؟ ومتى بدأت هذه الحالة ولماذا؟ نعم لماذا حدث كل هذا؟
تبقى التساؤلات مُعلّقة... لا تنتظر، فهي ميّتة أو لا تشعر بشيء!
والليل هذا الضيف اليوميّ الذي يُخفف دائمًا من فظاعة الواقع... نعم، فكل الثقوب في الجدران من جرّاء الرصاص، وكل الدمار الموجود يختفي في الليل... لا تراه العين وأصوات الرصاص والإنفجارات تختفي أيضًا، إلا في حالات إستثنائية طبعاً!
والصباح يبدو وكأنه بداية أو إستمرار لما قد توقف بالأمس قُبيل مغيب الشمس أو بعد غيابها بقليل... كصباح اليوم التاسع من حزيران/يونيو، أشرقت الشمس على الخراب والدمار، وكان محمد الذي يقطن وإثنين من رفاقه في عمارة مهجورة ومُدمرة بعض الشيء، ويستخدمونها كمسكن ومُعسكر، وهي تطل على شارع القاهرة... ومنذ أيام باتت جبهة القتال هُنا، ثمة فُتحات في البناية لإطلاق الرصاص والأربيجي....
كان محمد يقف في وسط الغرفة، وينظر لرفيقية النائمين على الأرائك، كانا ينامان بعمق وهو ينظر ويتسائل: كيف ينامان هكذا وبهذه السهولة؟!
كان يشعر بشعور قويّ وقاسٍ، شعورٌ بالتعب والخوف والحُزن والرغبة بالهرب... ولكن إلى أين؟
لا يدري... منذ أيام لم يذق طعم النوم، وخلال هذه الأيام إستبدّ به شعوره ذاك، حتى صوت الرصاص بات يُثيرُ فيه الشعور باللاجدوى واليأس ويعلم بأن الرصاص إما أن يفشل في إصابة الهدف أو سيقتل أحدهم... وأحدهم هذا مثلهم، ويُشبههم! ويقفز في ذهنه سؤالٌ مُرعب: لماذا نقتلُ بعضنا؟!
ويُشاهد، نعم بات يكتفي بالمُشاهدة والتركيز في تفاصيل كل شيء.
صوتُ الرصاص والإنفجارات لا تُخفف من حِدّة الأفكار التي تتراكم وتنفجر في رأسه كل حين... ويعودُ للوراء لمشاهد قديمة جدًا وقديمة وفي الأمس القريب حدثت!
يراهُ طفلًا في بيتهم بين إخوته ويرى أمه وأبوه، يرى الوجوه تبتسم ويسمع الضحكات والنداءات، ويسمع صوت التلفاز... مُسلسل مرايا وبقعة ضوء، وأخبار المساء عن بغداد وغزة وإقتحام المستوطنين للمسجد الأقصى، وفي حديقة البيت تحت "مُعرش" الدوالي تجلس العائلة الكبيرة الأب والأم والأعمام والعمات وأحاديثهم اليومية عن الحال والأحوال، وهو وأبناء العمومة أطفالٌ يلعبون ويسترقون السمع لأحاديث الكبار التي لا يفهمون مُعظمها... وتغرب الشمس لتشتعل إنارة المساء، والمساء المُنعش مع رائحة المحاصيل الزراعية...!
يرى الطفل يكبر، يراهُ ذاهبًا إلى المدرسة في الصباحات الباردة وعائدًا في نهار حار، ويُسرع في العودة، ليشرب من جرة الفخار التي ترشح بالماء، ويتلذذ بطعم الماء...!
ها هو الطفل يكبر أكثر، تنبت على وجهة علائم البلوغ، شارب وبضعة شُعيرات في الذقن، ويُنهي البكالوريا بإمتياز وتبدأ حياته الجامعية، ويبدأ يتعب من المواصلات العامة ووعي الكبار وإدراكهم، وفي الجامعة يدرس: اللغة العربية، لم يختر هذا التخصص، كان يرغب بدراسة التاريخ أو علم الاجتماع أو العلوم السياسية... لم يُفكر إطلاقًا بدراسة تخصص اللغة العربية، ولكن ليس كل ما يُريده المرء يُدركه "تجري الرياح بما لا تشتهي السفن"!
يُحب فتاة معه في الجامعة ويعيشُ معها احمل قصة حُب، وتبدأ مُعاناة العشق ترتسم على الملامح الطفولية، ويبدأ مُسلسل الشوق المُستمر والرغبة الجامحة في كل ما هو ممنوع، تبدأ حكايات الهروب والتلصص والمواعدات والمشاكل وكل شيء مُرهق وجميل... وفجأة: يحدث إنفجار!
صراخ وتكبير وغُبار كثيف ورائحة حادّة تزكم الأنوف وتملأ الصدور، سُعال هُنا وكلمات لا مفهومة هُناك!
والخبر العاجل: إستطاعت قوة من الجيش في حمص تدمير وكر للإرهابيين وقتل عدد منهم...!
وقُتل مُحمد عن عمر يُناهز الثلاثين عامًا.... وكذلك قُتل في هذا الصباح أحمد وميلاد ويوسف وجعفر وخالد...!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق