الأحد، 30 سبتمبر 2018

وجود 8

الليل العاصف. السماء المُمطرة. الخوف الدفين. الصرخة المكتومة. الجفن الرماديّ. التظاهر والتصّنع. الشمس الحارقة. والضباب الكثيف. البرد.. هو البرد.

مَن قالَ ؟ ومَن سَمع ؟ ومن يُطيع ؟ ومن يتمرد ؟ من يثور ؟ 

لماذا لا نعترف بأننا "زائدون" ؟ بأننا "واهمون" ؟

لماذا لا نعترف بأننا "أجبن" من أن نحيا و "أضعف" من أن نموت ؟ 

كان جائعاً ونام. كان خائفاً واستيقظ. كان شُجاعاً وصمت. كان سعيداً وبكى. كان تعيساً/بائساً وضَحك!

صديقي أنا. عقلي إستيقظ، وتكشفت لي وحدتي/جنتي وجحيمي اللطيف/القاسي.
تجاوزتُ الجنون. وأعلم بأنني جاهلٌ. 
بدأتٌ أتبلّد واقسو. 
لم أعد اتأثر (كثيراً).
لم أبكي منذ سنوات وهذا الأمر يُقلقني (جداً) !
هل جفّت دموعي ؟؟
كُل الوجود (بسيط)، لاحظ الأشجار وجُدران البيوت واسراب الطيور وقُطعان الماشية؛ هل لاحظت تعقيداً؟ او ضجيجاً ؟ لا ارتباك ولا قَلق ؟ كل شيء بسيط ؟ الأشجار تنمو ببطئ وتجف وتندثر لتعود مُجرد ذرات تراب قد تُبعث في نباتٍ آخر أوتتحول لغُبار أو حجارة.
****
ليلة السابع والعشرين من أيلول/سبتمبر. ليلةٌ خريفية بإمتياز. هواءٌ عليل يميل للبرودة ورائحة الأرض واضحةٌ من حيث عطشها وجوعها الشديد للماء والبرد.

الأرض صبورةٌ جداً، فهي لا تضجر/تسأم من إنتظار الماء، تغضب أحيانا من خلال عاصفة رمليّة او صدوع تَظهر على سطحها. لكن غضبها نبيل.. غضبها لا يشوبه قَلق ولا ارتباك.






الثلاثاء، 25 سبتمبر 2018

إنهض..

                   



2016/9/25
ما زلتُّ أذكر تفاصيل ذلك اليوم. 

كان الخبر واضح: مقتل الكاتب الأردني ناهض حتّر أمام قصر العدل في عمّان.
 لم أكن اعرف ناهض، ولكنني كنت أعرف بأن أحدهم قُتل بسبب "صورة" يومها تراجعتُ أكثر من مرة وأردت أن لا أدخل إلى الفيسبوك إطلاقاً، لأنني سأرى "المُرحبون.. المُكبرون" لمقتل صاحب الصورة التي أساءت لذات الله، مُستبشرين بالقَصاص ولو في دخيلتهم، ولو أنكروا فعل "القاتل الرسمي"، أيقنت بأن الجميع قَتلةٌ لولا بقيّة الخوف وإدّعاء الاحتكام للقانون.
وبأن القاتل الرسمي ما هو الا مُسدس كان في يدّ "مُعظم الشعب" ورئيس الوزراء ووزير الداخلية آنذاك.. إذ كيف يقوم رئيس وزراء برفع دعوى (اساءة للذات الإلهية وإثارة نعرات طائفية )ضد مواطن ؟ ويُسجن ذلك المواطن بإيعاز من وزير الداخلية لأكثر من شهر بسبب "صورة" شاركها على صفحته الشخصية ؟! 
ترددتُ، لأنني سأعرف -كانت حقيقة صادمة- بأن مُعظمنا نصبّوا أنفسهم وكلاء لله على الأرض، وآمنوا بأن الله لهم فقط، وبأن مُعظم الذين أثارت تلك الصورة حفيظتهم واستحثّت هرمون الداعشية فيهم لا يَرون الله الّا كما بيّنته تلك الصورة..! 
فيما بعد أدركتُ دور الإعلام في شيّطنة الأشخاص، وإثارة "الغوغاء" بمُجرد إنتقاء عنوان "عاطفيّ" لخبر لا يتحرّى أي موضوعية ومهنيّة في الطرح الإعلامي..
وبأن ناهض حتّر كانَ "مُزعجاً" للسُلطات ومُربكاً لحالة الركود الشعبي والصمت الحِراكي. لا أعلم وقتها لماذا تذكرت حادثة ثُريا وجمانة السلطي وقبلهنّ حادثة الشرطي أحمد الصبيحي ؟ 
ولا أعلم ما السر في معرفة قيمة الأشخاص بعد موتهم ؟ أم أننا -رُغماً عنّا- نُقدّس الأموات ولا نعرف قيمة الأحياء ؟!

الاثنين، 17 سبتمبر 2018

ذات يوم..

عامٌ مضى. أوقاتٌ عصيبة/جميلة/صعبة/سهلة ولّت.. وها انا ذا أجلسُ في ذات المكان أرى العالمُ من حولي يسيرُ بسرعةٍ ودقةٍ ونظام، والفوضى/الاسئلة في داخلي تتصارع كالثيران الهائجة.. 
تُرهقني هذه الوجوة بشتّى تعابيرها. أرتعبُ جداً من هذا الواقع المجنون وأرتدُ إليّ ولا أجد سوى الخواء..
ما سرُّ هذا الحِراك البشريّ ؟ كيف لي أن لا أتحول (رُغماً عني) لآلةٍ صمّاء تتحرك وتتحرك..
الطفلُ في داخلي لم يكبر ! 
ما زلتُ إبتسمُ للوجوه العابرة والجُدران وعامود الشارع، 
ما زلتُ إنتظرُ من الآخرين التعاملَ معي على هذا الأساس الطفولي !،
يُرعبني الرفض/الإنكار/الصوت العالي/التكشير/الابتسام، ولو أنني "طفلٌ حقيقيّ" لبكيت ملأ فمي.. لوددت أن أُعطى ما أُريد بسُرعةٍ وامتنان لأنني قبلت الأُعطية!، 
نعم أعلم بأن هذه الحياة لا ترحم الضعفاء والأطفال الذين لم يكبروا بعد.. وعليّ أن اتماهى -ولو بشكل قسريّ- مع حقيقة "يجب أن تكون صَلباً/كبيراً" لكي تحيا..!
لطالما وجدتُ نفسي عالقاً هُناك في كومةٍ من "المِحن" وانتشلتني منها ورجعتُ إلى الطفل في داخلي ووجدتهُ ضاحكاً عليّ.. كان الأولى بي أن لا أُقارنَ بيني وبين الكِبار حتى لا أضيعُ في بحر الظلام وأركب سفين الحياة مُتسلحاً بقواعد الكبار ومخاوفهم..!

وأنا جالسٌ الآن في مكان.. حَسناً هو: موقف انتظار الحافلات. 
لا أنتظرُ أيّ حافلة، وبدأتُ اختنق (حرفياً) من عوادم السيارات ورائحة المدينة الخانقة، ماذا أنتظر ؟ لا أدري بالضبط، ولكن "حركة الحياة" أمامي اوقفتني هُنا.. كأن قيّداً ما شلّ اركاني عن الحركة.. ولستُ قَلقاً من تأخري عن الموعد، ولم أشعر بالاغتراب كوني ثابتا وما حولي يتحرك ولا يهدأ.. أشعر فقط.. هي عدة مشاعر تُحاصرني الآن، كالحزن والسعادة والطمأنينة والخوف واليأس؛ كيف لي أن أحتمل تناقض مشاعري ؟ لا بأس.

الأربعاء، 12 سبتمبر 2018

وجود 7

الحياةُ هي قضيتنا الأولى، وهي المُعاناة والحرب المُستمرة... في الحياة نحن الطرف الأضعف، لذلك عادةً لا نحتملُ قسوتها ونطلبُ دائماً منها ما لا تستطيعُ فعلهُ لنا..
...
نعيشُ في بلاد... الإنسان فيها مُجرد رقم.. مُجرد شيء بلا قيمة.. يُمكن أن يُداس، لا بل يُمكن -بسهولة- قتلة، لأنه أراد أن يُصبح إنساناً..
...
الحادي والثلاثون من آب/أغسطس، في الخارج الجو قائضٌ/خانق.. وأنا في البيت وبُقربي (مُروحةٌ)، ولا أحتمل برد المُكيف اللعين.. وأشعر بالاختناق.. أشعر به وكأني... كيف لمن لا يملك (مُروحة) أن يحتمل ؟
يجب عليّ أن احتمل !!
7/15 - 8/31 2018

قراءة للواقع..

تسودُ حالةٌ من اليأس والقنوط وبذل الجُهد الذاتي الذي يتلخص في السعي وراء المصلحة الشخصية والنظر للأمور بشكل عام بمنظور شخصيّ ضيّق.

"أزمة ثقة"، تفتك في العلاقات، سواء بين الأفراد داخل المُجتمعات او بين الحكومة والشعب. 

الأجيال تتكرر وتتشابة، فجوةٌ عميقة بينها وتكاد تنعدم لغة الحوار ما بين الآباء والأبناء من جهة وبين الأفراد ضمن المجتمع او البلد الواحد، وينتج عن هذا كلّه نتائج (كارثية) مثل:
تفشي الانحراف والجريمة، التعصب والانغلاق وعدم الإنتماء للوطن الكبير بسبب عدم الإنتماء للبيت والأسرة والمجتمع المحلي، زيادة نسبة الأمراض الجسدية/النفسية المُزمنة، وتتحول الحياة بلا قيمة ومعنى سوى مُحاولات للوصول لأقصى حد من الإشباع الذاتي الذي لا يحصل أبداً.

الخوف ينبع من الشعور بعدم الإستقرار، ويُؤدي للقلق وعدم الهدوء والقُدرة على التركيز؛ لماذا نخاف ؟للخوف أسبابٌ كثيرة، منها:
1-التعلّق الشديد بالأشياء، ورغبتنا المُلحة بعدم الفقد والخُسران.
2-التنشئة المُجتمعية/الأُسرية التي تغرس في أعماقنا الشعور بالنقص والحاجة.
3-إنعدام أو قلّة الثقة بالنفس.
4-الأنانية المُفرطة والشعور بعدم الإنتماء....، الأنانية تأتي من تعاملنا مع الحياة خارج بيوتنا على أساس التنافسية والرغبة الدائمة بالانتصار ماديا/معنويا على الآخرين.
الشعور بعدم الإنتماء، ينغرس في النفس كبذرةٍ تبدأ في النمو ببطئ لكنها مُستمرةٌ في النمو، لأنها تحصل على غذائها (الماء) بشكل دائم دون إنقطاع: كالخوف الذي لا أدري ما أُسميه لكنه لا يُشبه الخوف العادي، إنما هو خوفٌ من الحياة..! كيف تموت تلك النبتة وقد نَمت في تُربةٍ خَصبة وهي "الطفولة" ؟ 
"الخوف" يقتلنا بصمت.

الأسلوب التربوي من البيت/العائلة/المجتمع إلى المدرسة ومن ثم الجامعة، في ذلك الأسلوب يوجد خَللٌ فظيع، يُخرج إلى الحياة أُناس مملؤون خوفاً وعُقداً.
وفي واقعنا الحياتيّ (السيء غالباً والمليء بأسباب التراجع والتخاذل والخوف)، أحدنا يجدُ نفسهُ قابعاً في سجن ضخم لا يدري كيف ومتى دخلهُ ؟ وما هي جنايتة ؟ قد تكون الجناية الوحيدة هي: الحياة!

 أنا أعلم الآن بأن الحكمة الوحيدة القريبة من الواقع، تخرج من أفواه  ما نحسبهم "سُذج"، وهي الأمل الوحيد للنجاة. الشجرة تكبر وتنمو ببساطة، وأجدادنا عاشوا حياتهم وماتوا هكذا ببساطة. هذا هو سر الوجود. أكتب لأحيا، لأبقى مُتماسكاً في هذا "الوهم" الصريح والمعقول...
أكتب الألم والفَرح، الموت والحياة. 
أنت تخوضُ حرباً ضَروس إذا ما صحوتَ بين النائمين، لماذا ننامُ هكذا ؟ ولماذا الاستيقاظ هو الغريب/المُستهجن في الأمر ؟
كُلّ ما أحتاجه هو الإنتصار على الفشل (الخاص بي)، نعم إنني أشعر وكأنني بركة ماء بلا روافد وحرارةُ الشمس تُحاول تجفيفها كل يوم.
ما هذه الحياة سوى مُحاولات، فإما أن تنجح او تنجح بعد فشل لا خيار ثالث، قد يكون نجاحنا في تجاوز العَقبات أكثر من تحقيق الأهداف/الطموحات، لكنهُ نجاحٌ حقيقي وخيّر...
نتخيّل ونُصدم من الواقع، لماذا لا نحيا ببساطة ؟
البساطة تتناقض مع واقعنا ونمط حياتنا.
هل نحن أقوياء ام ضعفاء ؟
الوهم... نطمئنُ للوهم ونتبعهُ، مُطأطئي الرؤوس!.
العذاب الحقيقي هو التفكير خارج الصندوق، لا خيار لك سوى الغوص في ظُلماتٍ بعضها فوق بعض....
في الظلام أتخبط... هُنا في هذا العالم (المُظلم)، يُصبح العقلُ قاتلاً..
ستنتصر في كل معاركك، متى ما تجاوزت خوفك وخُذلانك لنفسك..
هذه الحياة بسيطة، وعقلنا يُعقدّها ويجعلها مُخيفة.
2018/6/23

سطرٌ جديد ونُقطة نهاية..!

بعد المُنتصف تقتربُ النهاية أكثر.

وقبل المُنتصف يكونُ كل شيء هادئٌ مُستقر على ما يبدو. عاصفة التساؤلات لا تهدأ، قد تفقد السيطرة على عقلك وتضيع في مُحيط الحياة المُظلم.. لكن ستبدأ شيئا فشيئا بالإدراك والفهم.

ذات يوم أدركتُ ضعفي وبكيتُني بلا دموع..
لم أكن ضعيفاً بمعنى الكلمة، كنتُ منزوع السلاح او واهمٌ وأدركتُ وهمي.. 
وأنا الآن أقرب لشظايا تناثرت وتباعدت.. وهل من قوةٍ تُجمّع شظايايّ ؟

اليوم وغداً وبعد الغد؛ ما الفائدة ؟

هل الحياة مُجرد تقدم نحو العَدم ؟!
ام أن في الأمر خُدعةً أو سرٌ ما ؟
لا أجدُ النور ولا أرى الألوان بوضوح؛ هل أنا الحياة ؟

سطرٌ جديد: قبل قليل رأيتُ الليل وجهاً لوجه، والمُصيبةُ؛ بإنه ما إن لَمحني ولّى هارباً ؟ أيحسبُني الموت !
نحن هاربون، لاجئون، وعبيدٌ في حَضرة الأشياء، الحياةُ أعظم اسيادنا وكذلك المال والجنس والطمع والخوف...
سطرٌ جديد، التاسع من حُزيران هاشمٌ جديد غير الذي كان... 
في داخلي إنقلابٌ وتغيّر، أشعرُ وكأنني وُلدت من جديد. 
نُقطة إنتهى.
5/25 - 6/9 2018

إحتلالي..!

إحتلني وأمتلئتُ به. هكذا وبلا مُناورات؛ دَخلني وأَسقط حُكمي عليَّ وأسرني... وها أنا ذا أنتظرُ حُكم إعدامي. 
هو اللون وأبعاد الصورة، هو الطعم والرائحة..!
لا يُرى ولا يُسمع لحفيف ثوبهِ صوت.. ليسَ واحداً ولا هو مجموع.. لكنهُ كثيرٌ.. مكروهٌ وقاسٍ، في طُغيانه..
يهدأ ويعود.. يعودُ بشدةٍ وقوةٍ لا قَبل لها، ويغيبُ مُجدداً..
هو اللاشيء بعد غيابه وحضوره لا نهائيّ.. كرداء ثقيل يُلبس عنوةً ويُخلع كذلك!
يجعلُ من الليل ضجيجاً صارخاً، ومن النهار بُؤساً وشقاء رقيق..!
يجعلني أستعجل.. النهايةُ والخَلاص، يجعلني لستُ أنا ولا أعرفني.. يُنسيني مَن أكون وأين المسير ولمَ.. كل شيء! هو أنا...!

الثلاثاء، 11 سبتمبر 2018

وجود 6

كل شيء يبدأ ولا ينتهي. تبدأ الأشياء وتبقى.. ما ينتهي حقاً هو الذي لم يبدأ حقاً. لذلك بدأت أنهار عندما بدأتُ أعي بنائي.. فلو أنني لم أعي حقاً بأنني أستطيعُ بنائي وتقويّتي لَما أحسستُ انهياريّ الفظيع!
إنني لم أكن يوماً كما أنا الآن.. لذلك سأبقى كما الآن، لأنني بدأتُ الضياع الحقيقي.. أنا الذي بدأت فعليَّ أن أتحمّل عواقب تلك البداية. سينتهي كل شيء دفعةٌ واحدة، كبداية ما ولعليّ لن أنتظر طويلا.. بسبب طَبعي العجول. قد أُنهي كل شيء بطريقةٍ حتى أنا لم اتوقعها! فالبدايات غير مُتوقعة.. مُفاجئة، وما النهاية الّا بداية لو نعلم ذلك بيقين، لأختصرنا الكثير ولاطمئنت نفوسنا.. لأن كل شيء ينتهي.. ينتهي فعلاً دون أي بداية مُتوقعة، والسبب بسيط وهو: لا يُمكن توقع بدايةً ما ! 2018/1/7 ،، 1:03ص
...
سأطوي الصفحةُ تلو الأخرى. قد أُحرقها/أُمزقها رُغم كل شيء.. مع أنني سأكون يوماً ما حزيناً (جداً) لأنني فعلت. 
المرةُ تلو الأخرى سأفتح صفحاتٍ بيضاء.. لن يُربكني بياضها، لن أضيع فيها.. سأكتب أو أُلّون او أُخربش.. سأفعل فيها ما أُريد.. وبعد ذلك لن أتردد في طيّها دون رجعةٍ إليها وقد أُحرقها او أًمزقها. 
...
كُلّما صعدتُ أيقنت بأن تعثري وإفلاتي يعني شللي الدائم في أقل تقدير.
...
سأبقى رُغم كل شيء.. سأبقى حقيقياً.. لن تُخيفني الحياة.. سأثبت في وجه عاصفتها إن هبّت ولن أرتاح لهدوءها وإستقرارها.
...
أيّها العابرون؛ هل لي ببعضِ سيّركم ؟ هل لي بإنشغال بالكم وقَلقكم وشرودكم ؟2018/3/4،، 11:27ص.
...
في هذا اليوم بدأتُ قصتي او حياتي.. بأن رَكبتُ الموج ووقفتُ بوجه التيار.. هل سأصمد ؟ بالطبع.
لا أُبالغ إذ أعتبر بدايتي في هذا اليوم "مَعركةً وجودية" بل إستكمال لِما بدأتهُ في تلك الليلة من شهر أكتوبر قبل عامٍ ونصف.. واليوم أُطمئنُ نفسي بأنني "أحسنتُ".2018/3/5،، 10:01م.
...
إنني لا أعرفني...
في هذا الخِضم المُتلاطم.. سفيني يكادُ يغرق.. ولا يغرق.
أأستطيعُ الصمود ؟ بلى أستطيع.
لأنني وإن غامت سمائي.. وأظلمَ دربي.. وأسودّ المدى أمامي.. لم أزل أنا.. الذي يعرفُ ما وراء كل ذلك.. يرى الشمس واليابسة في البعيد، ويعلمُ بأن الإسوداد يعقبهُ وضوحٌ جليّ..
ما الذي حَدث ؟ هل للمسافات والظروف كل هذا التأثير ؟! الأمر أشبه بعذاب.. للوهلةِ الأولى تظنُّ أنه لا يُحتمل.
هل هذه الحياة مُناسبة ؟
أحيانا يتأكدُّ لي بأنني أحيا في زمان ليسَ لي !
فأنا لا أنتمي لكُلِّ هذا ! أحيا كغريب.. كشيخ أمضى شبابه في سجن صحراوي وخَرج لعالم لا يعرفه، لم يتأخر ذلك الشيخ في إعدام نفسه في صبيحة ليلةٍ مُظلمة.. عاصفة.. في طرف مدينة سريعة في كل شيء!
إنني الآن مُتأكدٌ من هذا ! وأنا أُمارس جنوني في هذا العالم المجنون.. لا أتأخرُ عن موعد قهوتي ورائحةُ سجائري تُحيي في رأسي ما قد مات.
لا أعلم لماذا أنا "مُتوحد"، أهوى الانعزال والهدوء والظلام.. مع أنني كثيرا ما اقذفُ بنفسي في إزدحاماتٍ شتّى لا تروقني بل وتُؤلمني دائما ! وأخرجُ منها غيّري.. لستُ أنا من يخرج بل شخصاً آخر مُختلف!
مَن يدري فقد أكون أحيا بشكل جيد !
أحيا كطفل يُحاول (جاهدا) إكتشاف العالم من حوله.

وجود 5

في ليلةِ أول الأمس مات العيد. هبّت عاصفةٌ ليلة الأمس، و استيقظ الصبح في هذا اليوم على زخات المطر التي طال إنتظارها. 
كان العيدُ رجلاً لا يتغيّر، كانَ كبيراً ذو لحيةٍ شيباء.. كانَ كالليل.. لكنهُ ليلٌ مُشرق.. يُشبهه الليل، لأن العيد كانَ إلى أن واتتهُ المنيّة، كقلبٍ لا يَجزع.. كنفسٍ لا تَقلق، كجسدٍ لا يندفع ولا تُحركه حماسةً لحظيّة لا تلبث وأن تتحول لخمود.. يا لهذه الحياة ما أقساها، ويا لتلك الأنفس التي تترك فراغاً وراءها ما أسرع رحيلها..
....
كفّوا عن التباكي. وابكوا صادقين.. والبكاء الصادق يجعلنا في أحسن حال.
....
لماذا لا يصمتون ؟ ليُدركوا وليعلموا بأن الصمت (غالبا) أكثر تأثيراً وتغييراً وتواصلاً.
لماذا لا يتركون ؟ لأن الترك حُريةً وإنعتاق! 
لماذا يُغذّون أجسادهم ويتركون وجدانهم خاوياً..فارغاً؟
عبيدٌ وإن إعتقدنا (واهمون) بإننا أحرار، او نتملكُ حرية الإختيار.. الإعتقاد.. التعبير.. في الحقيقة نحن لا نملكُ شيئاً، حتى حياتنا تجردنا منها وصرنا غرباء عن أنفسنا ومن ثم نستغرب تردينا في غياهب البؤس والتعاسة واليأس.
....
نستخدمُ المفاهيم والقواعد الجاهزة التي قرأناها وحفظناها عن ظهر قلب.. دون أن نعيها.. نحنُ لسنا أصيلون/مُبدعون في أفكارنا ورؤانا وانظمتنا الحياتية والفكرية، وبالتالي لا يكون إستخدامنا لتلك المحفوظات ("الدخيلة) الّا إنحرافاً او تطرفاً.
نحنُ عاطلون عن كل شيء، ونُمضي حياتنا نعمل ونكدُّ..
ما نتيجةُ هذا العمل المُتواصل ؟ أعتقد لا شيء.. لا بل هُناك نتائج سلبية، أهمها هدر حياتنا القيّمة وراء سراب.
....
أيّها الليل مَن أنا ؟ وما أنت ؟ 
هل تعرف بأنني سأستيقظ بعد أربع ساعات لأذهب في رحلة لا أدري ما أُسميها... قد تكون فقط إثبات حضور او لأستمعُ (مُجبراً) لدكتور يتفلسف.. او لأصرف دنانيري في رحلتي هذه!
لماذا كُل شيء لا يُعجبني ؟ حتى انت لم تعد تروقُ لي بل أصبحت -مُؤخراً- شيئا كريهاً.. لا عليك، أعذرني فإنني طافي من النُعاس.. لكنَّ رأسي مُضطرب وانفي كذلك وعينايّ ! إلى اللقاء..
...
إنني على خيرْ ما يُرام لولا... كُل شيء! إنني انزف واخوض معاركي!
أنتظر وأنتظر.. ملَّ الإنتظارُ مني، وسأمتُ منه وضُقت به، ما لي هكذا.. كأن الحياة مُجرد كابوس يجثمُ فوقَ كاهلي المُتعب.
...
هذا السكون يُؤذيني.. لا يتناسب إطلاقاً مع ما فيَّ من عاصفةٍ لا تهدأ.
...
لا شيء يُغريني بالحياة سوى الغد..

الاثنين، 10 سبتمبر 2018

إرهابية (قصة قصيرة)

كنت راجعة من المدرسة (صفي ثالث)، وكان الجو "غير مُستقر بمعنى الكلمة"، في الصباح كان الجو غائماً وبارد.. بعد ذلك تحوّل لحار.. والآن مُغبر (عاصفة رملية) مع برد وشوب! 
تاريخ اليوم: 2004/4/5.. وما بعرف ليش حسيت إنه صاير شي مش كويس.. وهالشي ما كنت قادرة أتوقع شو هو؟، إنتابني ذلك الإحساس أول ما شفت باب درانا بآخر الطريق.. قدمايّ "تشنجن" و"ثقلّن" كأنهنّ حجارة.. وصدري إختنق.. وفكرت بأن السبب هو الجو! مَرق من جانبي جارنا، رأيت في عينيّة دموع يُجاهد لحبسها، بس شفتها.. توقعت أنه من الغبرة.. بس فيه جواتي شيء غريب مُبهم.. 
قبل وصولي لباب البيت بأمتار قليلة، سمعت بكاءً وصُراخ وصوتٌ غاضب.. ودخلت للبيت.. ورأيت حوش بيتنا "مليان" ناس.. اعمام وخوال وجيران وغرباء.. كلهم يبدو على وجوههم الكرب والحزن الشديد.. لمّا دخلت كلهم إلتفتوا ناحيتي.. والتقت نظراتي بنظرات عمي.. الذي جائني بعيون دامعة ووجهٌ غاضب.  إحتضنني وحملني.. وخرج بي للشارع.. جلسنا على الرصيف(مجموعة حجارة بجانب الشارع).. بقيّ إحساسي المُبهم سيّد الموقف، لم أستطع استنتاج شيء.  ماما كانت تبكي جوّا غرفة الجلوس.. لمحتها هي وبابا اللي كان جالس على كرسي وماسك رأسه بإيديه.. وأختي الكبيرة تجلس بجانب أمي وتبكي.. واخوي.. ما شفت أخوي؟ اليوم إجازة عنده.. هههه الصبح قبل ما أطلع شمتّ فيَّ.. لأني مداومة وهو مُجاز.. قهرني بصراحة.. بس نسيت أسئلة سؤال مُحرج: إنت معطل صح.. طيب ليش صاحي بكير ؟ روح كمّل نوم واستمتع! ما كان له حق يشمت لأنه صاحي مثلي.. بكير!
"أخوكِ إستشهد"، كلمتين حكاهما عمي، قطعوا حبل أفكاري.. صوته كان ضعيفاً، مُرتجفاً، ولم أستوعب تلكما الكلمتيّن.. واللهِ ما استوعبت! شعرت بأنهما تعويذة.. شيفرة.. أي شي ما له معنى واضح!
بس انتبهت لعمي.. طنشت فيه..كأنه فهم شعوري.. كان ينظر للشارع ويتحاشى النظر لوجهي.. وكل شوي يمسح وجهه بيده.. إلتفت ناحيتي واحتضنني.. 
"لينا حبيبتي.. أحمد أستشهد.. تعرفي شو يعني أستشهد؟ يعني هو هسّا بالجنة.. عند ربنا، وعند الرسول.. لا تفكريه.. مات لا اوعك.. هو ما مات.. هو حيّ ويشوفنا وبسمعنا كمان.. هو بطل يا لينا.. أخوكِ بطل... زلمه وبخافش.."
....
آيةٌ سمعتها في ذلك اليوم.. بَقيت محفورةٌ في جدار رأسي.. مُحفوظةٌ في داخلي.. أسمعها إلى هذه اللحظة..:"ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله امواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون.." وفي المساء.. سمعت رجل كبير يتكلم بعد أن وقف بين الناس على عُكازة..:"هُم الزُلم.. اللي ماتوا.. اللي استشهدوا.. همّ العايشين، واحنا اللي ميتين.. ولكوا يا عالم.. شو فايدة الحياة.. إذا أرضنا مُحتلة؟ إذا شبابنا أولادنا بتكتلوا بالشوارع!.." أنهى كلامه ومضى خارجاً من المنزل.. لحقت به ووقفت على الباب لاراه وهو يبتعد.. كان يمشي في ظلام الشارع وكأنه يحمل اثقالاً فوق ظهره.. في اليوم التالي أُدخل إلى المستشفى وبعد أيام قليلة حُمل على الأكتاف ليُدفن في مثواه الأخير..  هو جدّنا أبو صابر، كان يجمعنا ليُحدثنا بحكايات وقصص.. كُنا نجتمع في بيته ويقصُّ علينا حكايات معارك وادي اللطرون وباب الواد والرباط في المسجد الأقصى.. حدثنا عن النكبة والنكسة وحذرنا من تداول تلك المُصطلحات.. كان يُحدثنا عن الانتصارات اللي ما توثقت وما اكتملت لمليون سبب وسبب! والهزائم التي أصبحت ذكريات سنوية تفتح جروح لم تلتئم!..
...
"ماتت البنت.. نادوا الإسعاف.. إتصلووا معهم.."
-اليوم: 2-8-2015.. صحيت بكير.. لسّى إجازة الجامعة ما خلّصت..
قبل كم يوم صحيت على خبر:" مُستوطنون يُضرمون النار في بيت سعد دوابشة.. واستشهاد علي الرضيع، حرقاً.. تفحماً..".
والعام الماضي، كمان صحيت على خبر استشهاد الطفل محمد أبو خضير.. كمان حرقاً، كان شهر رمضان، وكنت لسّى من كم يوم مخلصة توجيهي.. هالاخبار اوجعتني كثير.. ومع كل خير كنت أشوف اخوي أحمد اللي دايما يخطر على بالي.. أتذكر يوم 5-4..
"خَلص بكفي.. ولكُم لو إنا حجار حسينا.. ولكم عشنا وضلينا عايشين.. شو استفدنا؟ شو هالعيشة اللي خايفين عليها ؟ اللي كلها ذل وموت ونار... أحمد وعلي ومحمد والالاف اللي استشهدوا.. بل الملايين اللي ماتوا واحنا ضلينا عايشين بدون ما نوخذ حقهم..!" هكذا حدّث/صرخت بنفسها عندما قرأت الخبر(إحراق بيت الدوابشة)، وتأكدت من قرارها الذي اتخذته قبل ليالي.. وكانت جاهزة له منذ سنين.
واليوم قبل ما أطلع من البيت.. تأملت وجه أمي.. شفت فيه كل شيء.. رأيت أحمد في عينيها، وهي لم تتأخر يوما في الدخول لغرفته.. لتتأمل كتبه.. وتُرتب ملابسه.. أرى في عينيها أبي الذي مات قبل ست سنوات.. ولم يزل القهر يبدو واضحا عليه.. لم يكن يستطيع النوم.. كان يخرج من البيت ليجلس وحيداً على درج الباب.. لا أدري هل كان يبكي ام كان مُتماسكاً !!
أختي مَرح كبرت بعد 5-4.. هي لم تتجاوز بعد الثلاثين من عمرها وقد شابّ شعرها.. وأنا.. كل يوم أكبر ويكبر معي... سمّوه "ثأري" "حقيّ المسلوب" "غضبي وقهري" مُش مهم الإسم.. 
قبل خروجي من البيت إحتضنت أمي. ما حسستها أنه فيه شي.. وذهبت لبيت أختي مرح لأودعها.. ولم اتمالك دموعي عندما ودعتهم.. لأنني سأشتاقهم كثيرا.. لأني مش عارفه شو رح يصير فيهم لما يسمعوا خبري.. حاولت ما أتخيل وجعهم.. دموعهم.. والله اللي فينا مكفينا، وأنا ماشيه بالشارع كنت أردد يارب يسامحوني.. وكنت اشاهدني وأخي في حوش بيتنا نلعب ونضحك ونتشاجر.. 
في حقيبتي سكين.. كمان شوي أصلُ إلى الحاجز.. قبل الحاجز بعشرة أمتار توقفت حتى أخرج سلاحي، والمهم بأن لا ينتبه الجنود إلي.. بعد ما نزلت الحقيبة عالارض إلتفتت ناحية الجنود ورأيت جندي "مطنشّ" فيّ.. حاولت إني ما احسسه بشيء.. 
إلتفتت مرةً أخرى وجدته قد توقف عن النظر إلي.. فتحت الحقيبة.. بحثت بين الكتب.. وين السكين ؟ وضعتها قبل قليل.. ياا ربي ! صفنت.. وفكرت:" معقول أمي لاقيتها.. لااا.. اااه.. ياا بيّيي!" وشعرت بحمّى تجتاحني.. وانتبهت لـ "بساطير" تقف بالقرب مني.. أقصد عدد من الجنود.. مُدججين بالسلاح.. واحدٌ من هالبساطير.. تحدث معي:" على شو تدوري يا حلوه ؟ سكين صح.. مثل هاي !.." وأبتسم ملأ فمه.. ورمى السكين بقربي.. وأنا كنت لسّى منحنية على حقيبتي.. وخلال لحظات شيء نَفذ في خاصرتي و سمعت صوتٌ مُدويّ.. رماني ذلك الشيء للوراء.. وصوتٌ مُدويّ مرةً أخرى.. ولكن هذه المرة في كتفي نَفذ الشيء..الحار.. قوة الوجع لا تُوصف.. للحظات لا تشعر بشيء سوى شيءٌ فولاذيٌ حار يَنفذُ في اللحم.. وعند استقرار ذلك الشيء يُولدُ ألم لا يُمكن وصفه..
لكنه لا يُشبه تلك الأوجاع والآلام التي عاينتها وقاسيتها منذُ سنوات..!

2017-7-1

عندما رُجمت حياة (قصة قصيرة)

قيّدوني جيداً.. وقبل ذلك تأكدوا بأنني أرتدي "الخمار الأسود" ولا يظهرُ مني شيء.. 
خطيئتي "الزنا"، لن أُبرئ نفسي او أعترف بفعلتي.. إعتقلوني، ووضعوني في مكان مُظلم وموبوء.. عندما إعتقلوني، كانوا لا يُريدون مني شيئا.. لا اعتراف او دفاع، هُم مُتأكدون من كل شيء.. لأنهم.. لا أعلم! الله وحده يعلم! ولكن رأيت في وجوههم فرحٌ وسعادة، كأن خطيئتي هي التي اسعدتهم... استجوبوني لا لشيء سوى لإخباري بأنه قد ثبت عليّ بأنني مارستُ "الزنا" وأنا مُتزوجة! مَن هم شهود خطيئتي؟ لا أسمع الشهود ولم أراهم !ولأنني متزوجة فعقوبتي هي "الرجم" بالحجارة حتى يغفر الله لي خطيئتي ويتم تطهير المجتمع من الرجس الذي ظَهر فيه.! هكذا أخبروني.. وغداً هو يوم التنفيذ مع ساعات الفجر.
عندما أخبروني بذلك.. طبعاً انتابني خوفٌ ورعبٌ شديد.. وتذكرت زماان لمّا كنت ألعب مع أخواني وابناء الجيران قدّام البيت.. إبن الجيران عمره أربعة سنين.. ضربني بحجر صغير على رأسي.. وإلى الآن أتذكر الوجع اللي حسيت فيه آنذاك.
لمّا تقدّم لي زوجي، كنتُ صغيرةً في السن، كان نفسي إني.. ما أتزوج لأني كنت طفلة، صح عمري كان 19 بس ما كنت متخيلة إني أصبح زوجة.. بس مين كان رح يسمعني؟ ما هم يحكوا "الحُرمة" لازم تنستر ببيت زوجها.. زوجها هو سيد راسها وتاجها، لأنه سَتر عليها! 
وهو كذلك صاحب فضل عليها وعلى عائلتها.. لماذا؟ لأنه تزوجها! زوجوني صغيرة حتى اتربى على ايدين زوجي.
لمّا بلشت الازمة بالبلد إختفى زوجي، وتغيّر الحي والبلد. تغيّرت بلدتنا كثيرا... لم أعد أرى الألوان.. صار كل شيء كئيباً.. سوداوياً.. والوجوة الغريبة ذات العيون المُتلصلصة تملأ الشوارع.. لها حقّ المُسائلة والعقاب وكل شيء.. يتشابهون في هيئاتهم ووجوههم القبيحة راياتهم سود والله أكبر من أفواههم تعني الموت والدم.

قُبيل الفجر وضعوني في.. شِبه حافلة، كان أبي معهم، لم أره منذ أمد، وجهة ناحل وعيناه قاسيتان.. ويتحاشى النظر إليّ.. وعندما حاولت التحدث معه أشاح بوجهة عني، ورفع يده، إنتهى الكلام!.
هل أنا خائفة ؟ يجب عليّ أن ارتعب! بعد قليل، ستُسدد عليّ الحجارة، لا بشكل عفويّ او مُزاح لاتحاشاها.. لا بل لقتلي!. 
نظرت إليهم.. ما أكثرهم!؟ مُلثمون.. وتهتز أجسادهم مع اهتزاز المركبة.. ويحملون بندقياتهم على أكتافهم.. هل يُعقل بأنهم خائفون مني ؟ أنا الوحيدة.. الحُرمة.. المُقيدة.. وهم الجماعة.. الذكور.. !!
أعرفُ هذه المنطقة جيداً، لطالما أتيتُ إلى هُنا.. طبعا في الماضي، مع رفيقاتي بعد انتهاء اليوم الدراسي.. من أجل "حفلة غدا جماعي".. هُنا كانت مزارع الزيتون والخُضار والفواكة.. وآبار المياة والقنوات والبرك المائية.. لماذا أصبحت شبه صحراء ام إنني اخطئتُ المكان والتخمين ؟ 
لاا... لن يرجمونني.. هُنا.. ياا رب.. ليبقى هذا المكان ذكرى فرح وسعادة سُرقت او قُتلت لا يهم الآن..  ليبقى ذكرى حياةً كانت.. بسيطة.. سعيدة.. رائعة.. عفوية.. هل الموت هو المُرعب؟ منذ أن دخل هؤلاء الغرباء بلدي، أصبحت الحياة مُرعبة.. ولا أعتقد بأن الموت وهو انتهاء هذا الرعب.. هو الرعب؟! ليش اموت ؟ أعلم بأن الموت هو مصير كل حي، ولكن يختلف الموت الآن.. في حالتي هو.. هم فقط قرروا موتي.. حتى يغفر الله لي !
وصلنا.. كان "المشوار طويل".. والصُبح بدأ يصحو.. لكن الشمس لم تطلع بعد.. قد لا أحيا لأراها!
نزلت بصعوبة.. لأنني مُقيدة بإحكام.. مربوطةٌ بحبل مشدودٌ حول بطني، مُحكم التقييد ولم يسألونني هل يُؤلمني ام لا ؟ وقف أمامي أحدهم.. لحيته سوداء كثيفة وبجانبه أبي.. أبي الذي يستحق كرهي.. أبي الذي كان يجب عليه أن يحميني من هذه الوحوش التي ستتلذذ بألمي وصُراخي! لكن أبي خذلني.. مَن يلومني إن كرهته؟ أنا أكره جُبنه وخُذلانه وضعفه.. الذي غطّاه بكبرياء وقسوة! 
تحدث ذو اللحية، كان صوته قاسياً، لم أعي ما يقول.. وبكل الأحوال فهو يُمثل أمام الكاميرا التي تقف خلفي، وحولنا جمهور من المُسلحين.. يترقبّون البدء بتنفيذ حدّ الله.
طَلبت من أبي أن يُسامحني، ورفض طلبي! مَن مُطالب بأن يُسامح من؟ تناقضت في تلك اللحظة كلماتي مع ما يعتمل في أعماقي.. فبسبب رجائي في أن أرى بعينيه أسف ويأس.. طلبت منه السَماح والعفو.. كُنت مسلوبة الإرادة ومشلولة الأركان.. الله يرى كل شيء ويعلم كذلك! حُفّظت كلمات لقنونني اياها وكان يجب علي قولها لتكتمل الصورة أمام الكاميرا! 
كنت ارتجف رُعباً وهَلعاً.. لن أقدر على تحاشي حجارتهم المُسددة بإحكام.. سأكتفي بأن اتلقاها.. سأتألم كثيرا هكذا حدّثت نفسي.. كانت حفرتي جاهزة والحجارة جاهزة أيضا.  
وضعوني في الحُفرة.  وتجمّعوا أمامي.. نظرت إلى أبي.. كان يقف معهم.. ضدّي.
سألتهُ: ليش ما توقف معي يا أبي؟ كان صوتي واهناً وأنا في الحفرة..أنتظر. 
بدأوا.. اللهُ أكبر، وحجرٌ ارتطمت برأسي.. فوق عيني اليمنى.. وكردّ فعل، ترجّع رأسي إلى الخلف وندّت مني صرخة.. قبل لحظات حدثت نفسي بأن يجب علي أن لا أصرخ او أبكي.. وهل صُراخي سيُغير شيئاً، على العكس سيزيد من سُعارهم وشهوتهم للدماء!
بعد الضربة الأولى، وخلال أجزاء من الثانية، فكرت بأن علي أن اتفادى الحجارة.. عليّ أن أهرب.. وتحركت وكنت ثابتةٌ في الأرض أعجز عن تحريكي قيد أنملة.. وكان قد تسلل إليّ أملٌ بالنجاة !

وتتالت حجارتهم عليّ، لن أقدر على وصف الألم الذي كنت أُقاسيه، فالكلمات تعجز عن الوصف.  أكيد إنتهى كل شيء.. وها أنتم بعد سنوات تقرأون ما حدث لي.. لو أردت أن اعرف شيئا، فقط أريد أن أعرف.. هل أبي بقيّ حياً(يأكل ويشرب.. ينام.. يرى نفسه في المرآة)، وهؤلاء الذين قتلوني، هل يُقبّلون أولادهم ويعيشون بشكل عادي.. أحمد الله بأن الميت لا يعرف ما الذي يفعله الأحياء!!

فرخندة (قصة قصيرة)

-بابا..
-شو يا ولد ؟
-شو اللي يحترق.. هُناك، تحت السور والناس والشرطة متجمعين حواليه؟
-الله أعلم.. يمكن "قُمامة" جمّعوها واحرقوها..
وتسائل الطفل في نفسه: لمَ لا يُحرقون "فيضان" القُمامة النتنة التي تملأ الأزقة والشوارع الضيّقة في الحيّ الذي يسكنون فيه!؟
...
خَرجت من بيتها.. لتنعم بأجواء الصباح المُنعشة والرائعة حول مسجد "م" الكبير، فاليوم إجازة.. وقد إعتادت التنزة في تلك المنطقة القريبة من نهر "س".. الشوارع تمتلأ بالمُتنزهين والمُتسوقين والباعة.. وعندما وصلت صاحبتنا قُرب المسجد، إنتبهت لشيخ يجلس في ظلّ المسجد، تتجمع حوله النساء.. وهي تعلم بأنه يبيعهنّ حُجب وتمائم، ويدعيّ بأنه يُعالج(بإذن الله) المسحورين والمُصابين بالعين، ويملأ جيوبه بأموال تلك النساء!
أرادت صاحبتنا أن تغضّ طرفها كالعادة وتستمر في المشي.. لكنها توقفت وحدّثت نفسها بأنها إن صمتت كما الجميع سيستمر هذا "الدجال" بإستغلال جهل تلك النسوة، اللواتي إن لم يخلعن النقاب ويعلو صوتهن فالمجتمع مازال بخير..
توقفت قُرب الشيخ ومجموعته.. إنتبه لها، هي لا تلبس الخمار.. ترتدي شالاً خفيفاً على رأسها.. نظر إليها وبَدت على وجهة علائمُ الاشمئزاز والاحتقار.. وبعد أن تضائلت المجموعة نادت عليه، وردّ عليها كأنها زبونةٌ له.. أخبرته أنها تريد الحديث جانباً معه.. قامَ، وصَرخ على مجموعة النساء الواقفات بشتائم، لا تتناسب مع ما يُبديه من وقار وحكمة..! لا بأس فهو رجل وهُنّ نساء!
عرّفته بنفسها.. وتخصصها الجامعي.. أخبرته بأن ما يقوم به لا يجوز، فهو إستغلال لحاجة ومُعاناة الناس!
جَحظت عيناه، وكان يستمع لصاحبتنا وهو يتلّفت بكل الاتجاهات.. هي فَهمت بأنه لا يُريد أن يعلو صوتها حتى لا يسمعها أحد خصوصا "زبوناته"..
خَفظت صوتها.. واستمرت في الكلام.. وأكدّت لنفسها بأنه لا يعي ما تقول.. صَمتت! وبقي هو صامتاً وكان يبدو على وجهة بأنه في ذروة كَمد شديد.. وفجأة بدأ يَصرخ ويُنادي بالناس: "هذه المرأة كافرة.. أحرقت القرآن.. و.." لم يُكمل حديثة.. حتى تجمهّر الناس كأنهم كانوا ينتظرون بفارغ الصبر أمر كهذا..
صاحبتنا تراجعت خطوتين.. مع تجمع الناس حولها وتكاثرهم عليها.. رفعت يديها، واحسّت بأن قلبها سيخرج مقذوفاً من بين اضلعها.. حاولت أن تتكلم ولم تعرف بماذا تتكلم.. تعالت التكبيرات والصيحات.. رأت في الوجوه ظمأ لشيء ما.. 
تكاثرت الأيدي عليها، وسَحلوها.. من شَعرها.. وكلٌّ منهم يُحاول جاهدا أن ينال منها ولو برفسة.. حاولت تفادي ضرباتهم والهروب من هرواتهم ورفسهم وحجارتهم.. كانت تصرخ وتستغيث.. توقفت وهي لا ترى شيئا ولا تسمع سوى طنينٌ حاد في اذنها اليسرى.. بكمّها مسحت الدم الذي غسّل وجهها مُتدفقاً من رأسها المفجوج... لمحت وراء الذين.. يحاولون إفتراسها، رجالٌ كُثر يُشاهدون من بعيد ويُصور بعضهم الحدث.. هل للذكرى يُصورون ! عددهم يفوق المئة.. يُحاصرونني، وجميعهم يُريدون.. قتلي!(في لحظات حدثت نفسها بتلك الكلمات).. ولَمحت رجال الشرطة واقفون بعيداً وينتظرون! واحد ضد مئات.. وكيف والواحد "إمرأة" في بلاد "الذكورية"، في بلاد لا تحترم المرأة.. 
وسقطت صاحبتنا أرضا، ومن يلومها على سقوطها؟ يقفُ فوقها من استطاع الوصول ليضربها بحجر.. او لبنات بناء.. وقطع خشب.. واللهُ أكبر تُدوي.. وهم مستمرون بسحلها(جرّها) وقام أحدهم بتغطية شعرها! ورموها أخيرا من فوق السور.. إلى الأسفل حيث شاطئ النهر القذر.. كوموا فوقها القش والنفايات واحرقوها.. وهدأت ثورتهم.. ولعلّ نفوسهم اطمأنت بعد ذلك؟! "أُحرقت.. وقد كانت تُفكر بأنها تأخرت عن بيتها.. فوالديّها بحاجة مُساعدتها لتحضير وجبة الغداء.. وقبل أن تلتف للعودة، رأت شيخ المسجد والتقت نظراتهما.."

الأربعاء، 5 سبتمبر 2018

مُتلازمة ستوكهولم (قصة قصيرة)

ن.ك موظفة تبلغ السادسة والعشرون من العمر.

"ياااه مسرع الأيام! قبل سنة توظفت هون.. ولسّى.. ما حدا خطبني..(وامسكت مرآتها وبدأت تتأمل بوجهها)... متى ؟ ليش طيب؟(وتُبحلّق أكثر في المرآة.ّ وكلّ يوم تسأل نفسها تلك الأسئلة).. شو ناقصني؟ يعني شغلتي أبارك واستنى عريس الغفلة ؟"

تغيبُ تلك التساؤلات في لحظة.. عندما تنهمكُ في عملها.. في بداية مشوارها العملي هُنا، تعرضت صاحبتنا لكمّ هائل من الصعوبات والتحديات.. إذ وجدت نفسها فجأةً، كغريبةٍ في مكان، يستهجن ويرضى على مَضض وجودها فيه، تلك الأمر تسببت لصاحبتنا بما يُشبه شعور أحدهم وهو يقفُ بسيارته في أزمة مرورية خانقة، واللي وراه نازل:"طوووووط"، ولا يقدر هالاحدهم إخبار ذلك "المُطوّط" بأن الذي أمامك كأنهُ أنتْ بالنسبة له!! والسيارة لا يوجد فيها تكييف وحالة الطقس موجةٌ حارّة..!

تصبّرت.. لأن الصبر هو خيارها الوحيد!
وأكثر ما كان يُضايقها، هو مزاجُ مُديرها المُتقلب.. المُتأجج كنارٌ مُوقدة.. خصوصا عندما "ينقذفُ" في القسم الذي تعمل به صاحبتنا.. حينذاك تشعر بالرعب والدمار الوشيك وكل ما هو سلبيٌّ وفظيع!

وهي تعمل في قطاع خاص، فعملها موقوفٌ على رئيسها! و أكيد على "تفانيها" والتزامها بالعمل..!
من خلال إنطباع صديقتنا، يبدو الرئيس كسجّان، يُقيد مساجينه، ويُذيقهم صنوف العذاب والتنكيل (مجازيا)!
(عموماً ما دمنا لم نُعايش ما عايشته صاحبتنا، يجب علينا أن لا نُنكر انطباعها ذاك ويحقُّ لنا بأن لا نُصدق).
...
بعد شهور قليلة من العذاب في حضرة الجلاد الرئيس(أعتقد شهرين)، بطبيعة الحال بدأت صاحبتنا تَألف أجواء الاحتقان والسخط الرئاسي الدائم، وتشعر (لا اراديا) بالرضى وأحيانا باللذة في تلك الأجواء!
..
في إحدى فترات استراحة الموظفين(قبل أيام).. كان نقاش الموظفين، يتمحوّر حول "تعامل الرئيس السيء معهم"، إستمعت صاحبتنا لهم.. لتهمهم وافترئاتهم على الرئيس، وعندما تحدثت دافعت عن رئيسها بثقةٍ وهدوء، (ورئيسها كرئيس أحد الدول المُجاورة، لا يُمكن إطلاقا الترقيع له).. وكانت تعتقد بإيمان راسخ بأنه بريء، وبأن زملائها يفترون عليه، وبأنه "يستاهل كل خير"، وهي تتحدث وحتى بعد انتهائها، كانت تشعر وكان رئيسها يسمعها.. ويعرف(لا يعلم إلا الله كيف؟)بأنها دافعت عنه.. فهي تستحقُ أن.. يُعاملها ويُعامل الموظفين، كبشر لا كآلات وعبيد، وبأن يَخلع عنه "دور السجان فقط"!.

العَصا..

{"قال هي عصايّ اتوكأ عليها واهشُّ بها على غنمي.."} سورة: طه، الآية: 18،

العَصا بشكلٍ عام تُستخدم لإلحاق الأذى بالاخرين، وهي وسيلةُ دفاع وحماية بدائية..
أمسكتُّ عصايّ بيدي، وقد كنتُ أمشي وحدي في فلاةٍ مُوحشة، تعيشُ فيها كائناتٌ هجومية، ولابدّ من وسيلة دفاع/حماية، تلك الوسيلة بالتأكيد ليست "ذاتية"، كون الإنسان صار مدنياً ولم يعد بربرياً ووحشياً، يملكُ انيابا ومخالب!.
عندما فكرت بذلك الأمر (صراع الغابة)، سألتُّ نفسي: لماذا من الطبيعيّ أن أتعرض لهجوم مُفترس ؟ ولماذا تهرب الكائنات الحيةُ منيّ عندما تراني ؟ وتتخذ وضعية الدفاع ؟ ولماذا أتوقع دائماً، بأنني سأتعرض لهجوم لذلك اُبادر في إتخاذ وسائل الدفاع.. كالعصى التي أحملها معي؟!
هل هو مبدأ (إتغدا قبل ما يتعشى بك)، حملي للعصى في أراضي الكائنات الأخرى، هو بمثابة امتلاك لوسائل دفاع/هجوم.. لذلك تختفي مشاعر الوحشة والترقب للهجوم المُحتمل..!
العصا، قد يكون في حياتنا، اكثر من مُجرد قطعة قاسية من الخشب، العصا هو: العلم، والعمل، والاستقلال الإقتصادي، نتائج التجارب والدروس الحياتية، الانتماء للأرض وحبّ الوطن..
{"...ولي فيها مآربُ أُخرى"} هي مُكتسبة، تحملها بيدك، وتمشي بها دون أن تنوءَ بحملها معك..

مُجرد قرصة إذن! (قصة قصيرة)

تركتها لأنها.. خانتني!
صراحةً، أنا مُتأكد بأنها ما تشوف غيري.. بس أنا "غيوور كثيير". ولأني غيور و "زلمه" صرت اراقبها.. مُش مثل اللي بالمُسلسلات والأفلام.. لأني مُش..
يعني.. إمبارح تركنا بعض، وأنا الآن... اخخخ شعوري****.
كُنا طالعين.. لأننا مُشتاقون.. أول ما قعدنا بالمطعم، راحت عالحمام.. راحت من هون ومسكت تلفونها الذي اعرف باسووردة من هون.. دغري فتحت عالواتس، ووجدتُّ (الدليل الصارخ)، وهو مُحادثة من أمس بالليل المُتأخر مع رقم (بدون اسم).. تأكدت بأنه شابٌ، و"إنعجقت"، لدرجة أنني لم أستطع قراءة المُحادثة بالكامل، وهي طبعاً ما تأخرت بالحمام.. بتلك اللحظة أحسستني، كفرخ او فأر او بسّ.. وجهي كان يتحدث بما يعتمل(من سخط) في أعماقي.. ما قدرت أتحمل، عصّبت وقُمت.. وانتهى كل شيء.

بعدها، إتصلت بي (خمسطعش) مرة، حظرتها عالواتس والفيس والانستا.. وقمت بحظر رقمها أخيراً.. قُمتُّ بكُل ذلك وأنا مُتردد وحاس بذنب فظيع.. ولم أستطع النوم في تلك الليلة!
بس كمان إرتحت من قَلق وارتباك لا يُطاق كان يلازمني خلال تلك الفترة.. ما اعرف سببه!
إختفى كل شيء وحسيّت برضى مع إني مُتأكد كثير بأنها لم تخونني..!
إنبجسَّ قَلقي وارتباكي من.. لمّا شفت صاحبتها "أمل"، أرسلت لأمل أكثر من عشرين رسالة ماسنجر، ولم تردُّ عليّ!
أعرف مكان عملها، وذهبت إليها.. ما أدري ليش بالضبط! وطلعت ما تعرف "حبيبتي" الّا من شهر! (أنا كنت مفكرها صديقتها منذ الطفولة)، والعلاقة بينهنّ رسميات، وأنا أخبرتها.. بأن علاقتي بـ"حبيبتي" مُجرد صداقة مش أكثر، واتمنى منها (أمل) أن تتقبلني كصديق.. 
ذهابي لأمل عالشغل، بعد رسائلي لها(التي ندمت على إرسالها في ذلك الحين)، كان فقط للتأكد من صداقتها بحبيبتي وحتى أكون آمناً ولا تعرف حبيبتي تلك المسجات اللي كلها غزل و"رخصنة".. حبيبتي لم تخونني مع أحد، ولكن المهم أن شعوري (القلقي الإرتباكي) خفَّ او.. إختفى. بس أنا مستحيل أتخلى عنها، راح ارجعلها بس لمّا.. تتربى وتعرف بأن حبيبها "غيووور.. وزلمه"، هي مُجرد قرصة إذن لا أكثر!!

الثلاثاء، 4 سبتمبر 2018

غرفة رقم 12 (قصة قصيرة)

صديقتي ر.ح، طَموحة و..
هاجمها صوتٌ:"إنتي ليش ما تتركي تلفونك.. وتحكي معنا"..وهي تُحَرج من أي نقاش او تأنيب او زجر.. بس ما يطوّل هالاحراج.. 

اليوم كانت صديقتي مع.. مجموعة زميلاتٍ لها، وَجدت نفسها، "مرميّةً" بينهنّ، لأنه من "الضروري" أن تكون بينهنّ..
لا توجد "موضوعات مُحددة" للنقاش بين المجموعة، حتى تستطيعُ المُشاركة وإبداء رأيها ولو من قَبيل المُجاملة..! من المجموعة لا تعرف سوى صديقتها ن.ع.. واثنتان تعرفهما بشكل سطحيّ..

الهاتف هو "المُخلّص" بالنسبة لها، يُخلصها من الشعور بالمسؤولية.. مسؤولية الوجود وواجباته في هكذا جَلسات.. من الواجبات مثلاً: المُشاركة والتفاعل مع المُتحدثين.. على هاتفها تتصفح بلا تركيز او هدف.. تتنقلُ ما بين التطبيقات.. وفي أثناء ذلك تقوم ببعض الحركات اللازمة، حتى تظهر كمشغولة او مُنهمكة.. وتشعر في أثناء ذلك بالذنب والاحراج(لابدَّ من الإحراج!) مِن ماذا ؟لأنها لا تُشارك.. 

تتسائلُ كُلّ حين:"شو اللي مقعدني.."، وتبقى جالسة!
الإحراج "ينبجسُ" عادةً، عندما ينقطع الحديث.. وكأنها مسؤولةٌ عن ذلك الإنقطاع!
عندما تعود للبيت، بعد تلك الجلسات، يعتريها إنهاكٌ شديد، وكأنها قد قامت للتو بحفر خندق، او تحطيم حجارة بازلتية ضخمة..!

تُحدّث نفسها بتأنيب وعِتاب:"ليش أقعد معهنّ..؟ ليش ما أغادر او.."، لا تجدُّ جواباً، لطالما فكّرت بهذا الأمر (الامتناع عن تلك الجلسات)، لكنها في كلّ مرةٍ تشعر وكأنها للمرة الاولى تُفكر في الأمر؟! واستأنفت حديثها:"طيب.. المرات الجاية راح أشارك واحكي و.. لازم لأني.. هيك ما راح أقدر، يا أغادر يا أشارك.. بلاش تظلّ سعدية تتخوث عليّ.. وبلاش تظلّ رجوى تهاجمني وتبهدلني.."، هي مُوقنةٌ بأن زميلاتها يتهمنها بالتكبر.. والحُزن والتعاسة، وبأنها حتما تُعاني.. وذلك ما يزيد جُهدها العصبيّ جُهديّن.. تلك هي جلسات إستراحة لمُمرضات مستشفى ح.ن الخاص.

منذُ أسبوع تم تعيينها، في يومها الأول كانت كمن يُطالب بأمرٍ ما لا يُعرفه بمعنى الكلمة... من رأسها طارت كل دراستها وتدريباتها العمليّة! نسيّت كل شيء يتعلّق بكليّة التمريض، سوى سقوطها من أعلى درج الكلية للأسفل! في أول أيام دوامها هُناك!

عادةً في الأوقات غير المُناسبة، تحدثُ الأمور، فقد تذكرت ذلك الموقف "المُضحك"، وهي تقفُ بجانب سرير أحد المرضى برفقة أحد الأطباء، ولم تستطع الإمساك عن الضحك الذي ظَهر جلياً في حضرة الصمت المُطبق.. الدكتور أُحرج وأحسَّ بأنه "مُضحك جداً" لسبب يجهله طبعاً ! والمريض أيضا انتابه ذلك الشعور! وصديقتي "إنعجقت" وأحمرَّ وجهها.. بسرعة تداركت الموقف وكحّت واستأنفت عملها.. ما هو بالضبط عملها ؟ هي بدأت بالتظاهر بالانشغال والوقوف بجانب الاسّرة، والتأثر لأحوال المرضى وانتظار حاجة أحدهم للمُساعدة لتُقدمها له.. والذهاب والإياب في الممرات، والتصبّر على آلام واهواء المرضى، وكانت تعود للبيت مُتعبةٌ، مهدودةُ القوى، مدهوشة ومُتسائلة، وكأنها قد خاضت معارك غير مُتكافئة.. تتذكر دخولها للمستشفى ليومين عندما كانت طفلة ، كَرهت كُل تفاصيل غُرف المرضى بعد ذلك، رائحةُ اليود والمَرض والمُعقمات وأنين المُتألمين، ووجوه السائرين في الممرات..!
وهُناك جانب آخر لطالما ارادته وهي طفلةٌ أيضا، وهو العناية بمن يحتاجها، ومُساعدة المُحتاجين، ومُواساةُ الموجوعين..!

"راح أتعود واتعلم، هذا هو الشي اللي كنت استناه.. ليش الآن حاسيته صعب.. كل صعب يسهل مع الوقت.."
"يا آنسة.."، إيقظها ذلك النداء البعيد.. إلتفتت وسألت نفسها مَن يُنادي؟ الجميع نائمون!
وقد كانت تُفكر بلحظات تخرجها، وسهرها المتواصل المحموم، تعبها واجتهادها و... حُلمها!لطالما اخفتهُ في أعماقها، وابعدتهُ قدر الإمكان عن وَعيها وتفكيرها وشرودها..
طبيبةٌ.. ذلك هو حُلمها المُستحيل..!

تتذكر لُعبتها التي تتكون من سمّاعة نبض، علبة دواء، حُقن وسريرٌ صغير، وقد كانت كانت تُحاول إيجاد مريض بحجم ذلك السرير.. ولم تجد!.
جاء موعد إختيار الفرع الثانوي؛ "بدي علمي" وراح أجيب (إن شاء الله) مُعدل يسمحلي ادرس طبّ، أنا شاطرة بمواد الفهم، الفيزياء.. الأحياء.. الكيمياء.. الرياضيات أكثر مادة أحبها.. واصطدمت بـ:"ردّي علينا.. إنتي ما تعرفي مصلحتك.. خليّ حلمك وهدفك على قدّك.. لا تشطحي بإهدافك لفووق.. إصحي ولك.." إصحييي يا هاانم.. تفكري نفسك ببيتك..
آهه.. آسفة.. ما انتبهت!
معلشش.. بس روحي شوفي الغرفة "12" بسسسرعة!

صديقي م.ع، تم إخراجه من غرفة العناية المُشددة قبل يومين، قَضى في العناية إسبوعٌ ويوم، أمضى تلك الأيام غائبا عن الوعي.. تتأرجح فُرصُ نجاته بين موتٍ وشيك واسترداد كامل للعافية..! كان يقتربُ من الموت صباحاً ويتعافى كُليّا في المساء والعكس، وبعد مرور الأسبوع واليوم.. إستقرت حالته الصحية على "تمام العافية".. ها هو يرقدُ على السرير، ساكناً يبدو مُعافاً، في غرفة رقم 12، ينامُ مُعظم الأوقات، وعندما يصحو يتفرسّ بما حوله، كأنه لا يُدرك وجوده ويعود بسرعةٍ للسكون..

صديقتي كانت قد سهرت الليلة الماضية على نومه العميق، بقيت قريبةً منه، لتتاكد من إستقرار حالته..
عندما عادت إليه في آخر مرة، كان قد استيقظ للتو، وكان صافناً في اللاشيء.. ندّت منهُ صرخةٌ مكتومة، عندما إنتبه لوجودها قربه.. وهمست له بصوت مُرتجف:"بدك شي ؟ محتاج... شي؟"
بعد لحظات صمت، اجابها:"إنتي..(وحكّ مُقدمة رأسه)، اسمعي لا تحكي.. إلهم إني.." (ضَرب رأسه واعتصر وجهه).. واستأنف حديثه المُفكك.. المُبهم:"انااا.. مين أنا؟... وليش أنا موجود؟ قص.. قصدي بالمكان هاذ ليش أنا هوون؟ شو اسم المكان؟ هي... سيارة كانت.. وصوت قويّ.. أحلم أنا صح؟ إنتي هي صح ؟!" وصمت كأنه لم يتكلم إطلاقاً.
صديقتي معالمٌ وجهها، خُربطت.. تغيّرت 180°.. ومع كل كلمة من كلماته كان خوفها يضطرمُ ويستعرّ.. واسرعت بخُطاها نحو... الطبيب المُناوب، أخبرته بتفاصيل الحالة.. وبأن "شكله.. فقد الذاكرة!".

مثلما خَرج صديقي من العناية مُعافىً.. خَرج من المستشفى.. على ما يبدو مُعافى.
بعد وصوله إلى البيت، نامَ كميّت.. واستيقظ في اليوم التالي (عالساعة: 12:23م).. إستيقاظه كان شَرساً، مسعوراً، وفي اثناء نومه العميق ذاك كانت تُدويّ في رأسه أصواتٌ مُبهمة، كأنها تأتي من بعييد.

أختهُ تُوقظه، تضيقُ من نومه الثقيل، تُنادي أمها لتتفاهم مع هذه الجثة..! يرى وجه أخته ابيضا، شاحبا، شروخٌ مُدماةٌ تتوزع في أنحاء وجهها.. وخيط من الدم لم يجف بعد يسيلُ من زاوية فمها.. لكنها تبدو راضية، ويحملونها ليُصلون عليها، يقفُ بين جموع المُصلين،لا يعي شيئاً، ويتذكر ليلةً تبدو الآن.. في هذه اللحظة كأنها حدثت في الأمس.. خبر وفاة أبوه وأمه بحادث مرور، وهُما عائدين من عرسٌ او عزاء او مُجرد عزومة عائلية.. أحس بالعجز كونه لم يُخمّن ذلك!
كان في الثامنة من عمره، وأخته في العاشرة.. مَن اخبرهما بذلك الخبر؟ ولماذا كانا وحيديّن، لو ذهبا لكانا ميتيّن ؟! ؟، "وين أختي..؟" سَئل نفسهُ، وهو ما زال واقفاً بين جموع المُصلين.. 
"آلوو.. وينك؟ تأخرتي؟ رجعت قبلك اليوم؟ شكلك عالقة بأزمة.. ههه"
"هلااا.. هيني بالطريق.. رااجعة.. أزمة وخنقة.. بس أن شاء الله ما بتأخر.. نصّ ساعة وبكون عندك.. لا تتغدا قبل ما اجي.. يلااا سلام"
إنتظر ساعة.. ساعتيّن.. ضاقَ ذرعاً، وكان إتصل بها مِراراً، ولكن لا جواب! 
أخيراً... جاء الرد:" صوت خشخشة.. صوتٌ خشن.. أنت أخو ع...؟" 
إقشعرَّ بدنة، وفَترت أطرافه، وفي أعلى معدته احسّ بلطمةٍ واحدةٍ.. ماكنةٍ.. 
"آآه... خير شوو صار ؟ وين ع.." 
"البقية بحياتك.. إختك.. توفت بحادث الباص على طريق ج.. قبل حوالي ساعة"

ذُهان.. (قصة قصيرة)

كنتُ أمشي بممر مستشفى فارغ، الممر طويـــل ينتهي بباب مُغلق.. شبابيك الممر كانت بيضاء.. كيف أشرح؟ يعني زُجاج الشباك مش أبيض، لأ عادي بس.. اللي ورا الزُجاج يبدو كالثلج والضباب!.
كيف عرفت إنني بمستشفى وكيف دخلت وليش؟ مش عارف!
وقّفت فجأة بدون سبب، عن يميني شُباك غرفة.. عمليات او عناية مُشددة، كنت واقفا انظر مع الشباك.. أرى شخص نايم على السرير داخل الغرفة، وحولهُ طبيب وأربعة أشخاص.. لمّا حدّقت النظر جيداً، رأيتني أنا الشخص النائم على السرير! مع إني واقف عالشباك!
الأشخاص الذين يقفون حول ذلك الشخص، يبدو عليهم القَلق والترقب.. واضح هذا الأمر على وجوههم وحركاتهم.. لم أعرف أيَّ واحد منهم، وهم لم ينتبهوا إليّ عندما "طربقت" على الشُباك، طربقتُ بكلِّ طاقتي وعصبيّتي التي إنبجست مني بشكل مُفاجئ، بعد ما كنت هادئ ورايق! طربقتُ لعلّهم ينتبهون لوجودي!
بعد ما فقدت الأمل، بأنهم سينتبهون لي، تحركت وصرت أبحث عن باب تلك الغرفة.. اللعينة!
وجدت الباب، وقد كان مُقفلاً.. طرقت عليه بلُطف.. طق.. طق..!
إختفى كلّ شيء، أقصد عصبيّتي وحَنقي المسعور، وهدفي في الدخول او لفت انتباههم.. عُدت للسير في ذلك الممر ووصلت للباب المُغلق في آخر الممر.. فتحته، ووجدتني خارج.. المُستشفى! الأمر بهذه السهولة!!
بدأت أبحث عن دلائل/علامات، تدلُّ على إن المكان الذي خرجتُ منه للتو "مُستشفى"، مثلا؛ لافتةٌ، مُمرضين، أطباء، مُراجعين وأُناس يسيرون بإزدحام.. لم أعثر على شيء، فقط فراغ، وهدوء غريب ومُستفز..! رأسي كان فارغٌ/مُمتلئ!
الفراغ كان بمُقدمة الرأس، والامتلاء كان بمُحاذاة الأذنين..!! وكنت أحس كذلك بإنكماش يبدأ من أسفل ذقني نزولاً حتى ساقيّ!!
-أسمع.. هيه.. نسيت شو؟
-شوو؟
-إنت اللي..  أنا وين؟ أقصد هذا المبنى مستشفى؟ 
ضَحك كأنني تحدثت إليه بنُكتة! وتصاغرت عيناه، وأبتسم فمه من جهة. اليمين.. وحرّك فكيّه، ليتحدث.. تحدّث كثيرا.. لم أفهم كلمةً واحدة.. ولا كلمة! الّا:"آآآه مُستشفى، شكلك من المرضى.. هاه.. الله يشفيك ويعافينا".

الاثنين، 3 سبتمبر 2018

عاصفةٌ هادئة..! (قصة قصيرة)

هيَ أعصابها تِلفن، ووجهها ذَبل، وهي تفكر بالكيفية؟
"استناه يُبادر.. يخطو الخطوة الأولى.. يحكي الكلمة الأولى.. أنا الطرف المُتلقي/المُستهدف اللي ما يزبط يُلقي او يَستهدف! وهو عبارة عن "حيط".. ليش مطنشني هيك؟"، هكذا حدّثت نفسها صاحبتنا.. وجاءها صوتٌ مألوف:"لو سمحتي ؟ إنتي مسكّرة الطريق.." "آآهه آسفة.. مش منتبهة"، أصابها الوَهن، وتحولت حرارة جسدها لبرودة.. لصقيع. 
****
قالت:"إنت حيط!!"
سأل الدكتور مُستفهماً:"شو حكيتي؟ ما سمعتك كويس ؟ خلونااا نسمع رأي زميلتكم "رغد" بموضوع العقد الإجتماعي.. إتفضلي!"
حكّت رأسها وهي تتلفت بإتجاه الطلبة الذي صوّبوا (جميعهم) أنظارهم إليها:"دكتور.. أنا.. لا.. قـ..صـ.. قصدي، لو سمحت.. ممكن.. مش.. خلص.. دكتو..ر ضرروووري، ممكن أطلع ضررووري.."، وطلعت بدون ما تستنى جواب الدكتور.. وضعها كان "مُخربط" عالآخر..
وحوارها مع الدكتور أزّم الوضع أشدُّ مما كان عليه.. 
خرجت دون أن تعرف، إلى أين تذهب وماذا عليها أن تفعل؟، وجدته جالساً، على مقعد تحت شجرة قد جفّت منذُ زمن، حدّثت نفسها:"شجرة قاعدة تحت شجرة.. سُبحان الله"، لم ينتبه لوجودها إطلاقاً.. وهي بالطبع لم تقم بأيّ حركة للفت انتباه.. الشجرة!.

بعد أيام، كانت ما زالت تُعاني من.. الحُمّى والصقيع وعدم التركيز.. عبارةً عن "إضطراب" يَهدأ حيناً ويخمد كأنه لم يكن، ومن ثم يعود إليها بشكل مُفاجئ.. عنيف! لا تعرف السبب!! حتى مُحاولاتها للفتِ انتباه الشجرة؟ لم تكن سوى.. شيء لم تُفكر به كثيراً ولم يستحوذ على اهتمامها اصلاً؟ 
قوةٌ وطاقة تدفعها، لفعل، لأمر، وعندما يستعصي الفعل ويبدو الأمر مُستحيلا.. تزدادُ مُحاولاتها واندفاعاتها.. يَعقبُ ذلك خمودٌ شديد، وحزنٌ ينبجسُ من أعماقها.. يُقيّدها عن أقلّ جهد.. وتندثرُ تلك الإندفاعات والافكار وكل شيء تماماً.. لتجد نفسها في فراغ صارخٌ فيها!!
هي فتاةٌ عشرينية، عقلها يضجّ بأفكار ورؤى وانتصارات تترقبها...
ينتابها فرحٌ يطغى شيئا فشيئا، ودائما كنتيجةٍ حتميةٍ لذلك، تجدُ نفسها وقد غرقت تماماً في لُجة الحزن والكئابة المَقيتة!!
ذات يوم إستيقظت، والفرح والسعادة الغامرة تحتلها تماماً... قبل أن تنام ليلتها الفائتة، كانت ترزح تحت وطأة حُزن شديد وتفكير مُضطرب، وساهم في زيادة تلك المشاعر تأخرها في السهر، وعندما دخلت سريرها وهي مُتعبة.. مهدودة الحيل.. طاقةٌ من أعماقها.. ايقظت خلايا رأسها فطارَ النوم بعيداً!
غالبا تلك "الطاقة"، تأتي مع أفكار لا تستطيع كبح جماحها.. فكرةً تتلو الفكرة.. لا تنتهي الأولى لتبدأ الثانية.. وقامت من الفراش.. وكانت قد نسيّت منذ زمن "أمر الشجرة".. 
لكنها في هذا الصباح، خرجت من بيتها، كأنها ترتفعُ عن الأرض.. كأنها محمولةٌ فوق السحاب.. رأسها هادئ.. باتت الآن تُدرك بأن "الخمود" آتٍ بعد هذا الإحساس الجميل، ليرميها مُجدداً في وهدةِ اليأس والكئآبة والإحباط! ولكن ما العمل ؟
دهستها سيارة أثناء عبورها للطريق، وقبل العبور راودتها فكرة "الموت دهساً"، رأت في رأسها، أحداً ما يرتطمُ بسيارة.. تُشاهدها من خلال عينيها!
تذكرت بأنها ما زالت واقفة! يجب عليها أن تعبر للرصيف الآخر! لا وجود لمعبر أو جسر او نفق للمُشاة؟ العبور بحد ذاته مُغامرة.. مَشت كأن قوةً تدفعها للأمام، كأن عقلها فقد سيطرته على حركة أطرافها.. صوتُ إنفجار سَمعت.. ارتطام شيءٍ صُلبٍ بها.. من ثم "إنقذافها" وسائلٌ ساخن يسيلُ على وجهها، وألمٌ من شدته لم تقدر على.. الصراخ، الكلام، النظر، السمع، وصفيرٌ يطنُّ بإذنها اليسرى، وظلامٌ دامس.. يتخلله أصواتٌ مُبهمةٌ.. مُفككة.

الشيء المُهم! (قصة قصيرة)

حدّث نفسه:"هي.. اي والله هي!" 
ونادى:"إنتي.. أنا.. كنت رح أحكيلك شغله مُهمة بس... نسيت! لا تفكريني أخفف دمّ.. صدقيني كنت ودي أحكي.. بس نسيت" ما عبّرته او لعلّها لم تسمعه..
وراحَ يُحدّث نفسهُ:"نسيييت.. صاير معي زهايمر!! يمكن إرتبكت، خَلص المرة الجاية رح احكيلها كل شي.. أنا ترددت.. خفت آه أنا جبان خويف.. واتهمت الزهايمر، عشان ما أعترف بترددي وخوفي.. طيب بلكي ما سمعت ؟ او سمعت وما تقبلّت كلامي(طنشت.. كسحتني.. ما اهتمت لي)، طيب وبعديين؟"
واستأنف حديثه لنفسة مُجدداً:"طيب.. لو فعلاً إتقبلت كلامي.. هل أنا رح أكون قدّ هالكلام؟ قدّ العلاقة؟ ليش لازم أعلّقها بي.. شو يلي جذبني إلها، شكلها، طريقة كلامها، لون بشرتها وجمالها.. ولا تفكيرها.. خلّص أنا لازم أكلّمها بأقرب فرصة..".
ومرّت الأيام والشهور، وخلال تلك الشهور كانَ صاحبنا(كلّ يوم)، يفوت حساباتها.. على الفيسبوك ليقرأ بوستاتها وردودها على التعليقات، حتى الـ"About" مع أنه حافظ معلوماتها الشخصية جيداً.. وعندما يدخل لحسابها "الانستجرامي" يصطدمُ بالفراغ(كون حسابها خاص!).. لم يُحدثها يوماً، وكان أول وآخر لقاء بينهما ذلك الذي ذكرته قبل قليل!.
كان يُراقبها.. يتأملها.. دون أن يجرؤ على الاقتراب منها.. وعندما تجرأ لأول وآخر مرة، ما كان يعرف ما هو الشيء "المُهم" الذي يريدها أن تسمعه منه؟ تحوّل لأبله.. لصنم.. وضاقت به الأرض بما رحبت، وهي تقف أمامه مبهوتة.. مُرتبكة.. مُحمرطة/مُتعرقة الوجه!.
هو كان "يتوّهم" إنها منتبهةٌ لهُ، بأنها تُدرك وجود ذاك العاشق المُتيّم! فكان يتصنع ويبتكر أشكال ومظاهر وحركات يعتقد بأنها تروق لفتاة أحلامه/اوهامه! (بس الظاهر كاينه ما هي داريه عنّه!).
بعد ذلك اللقاء/الهجوم السريع بينهما، هي تصوّرت بأنها قابلت للتو مُتحرش او اهبل او مُتطفل.. كُلما تذكرت ذلك الموقف تبتسم وتتسائل وما تعرف شو هو الشي "المُهم" الذي أراد أن يقوله ذلك الشخص!
*****
كالعادة، صاحبنا يفتح الفيس بوك على صفحتها:"قبل ساعة.. تمّت خطبتها"، ما صدّق طفّا التلفون، ورجع شغله.. تردد من الدخول مُجددا على الفيس.. قَرر اخيراً.. لم يتغيّر شيء! ردد في نفسه "يُمكن أحلم او اتخيّل".

موظف بسيط (قصة قصيرة)

صاحبنا "ت"، موظف بسيط في دائرةٍ حكومية، عُمره 29 عاماً وحالته الإجتماعية أعزب.. وجاهز -تقريباً- للزواج.. جاهز منذُ سنتين، وهو دائماً يشعر عندما يُفكر في الزواج، بأنه كحُلم صعبٌ عليه تحقيقه لكنه ليسَ مُستحيل!.
يعمل في هذه "الدائرة"، منذُ خمسةِ سنوات، ويتذكر بشكلٍ جيّد أيامهُ الأولى هُنا، ويشعر أيضا بأنها -تلك الأيام الأولى- بعيدةً ومُستحيلة، كأن عشرون عاماً مضت عنها..
غالباً يُعلن.. لنفسهِ بأنهُ خَلص قَرف وطفح الكيل.. من ماذا بالضبط ولماذا ؟ لا يعلم.. بل يشعر دائماً بأنه "فسقان"، لأنه -وبحسب إعتقادة- يحيا حياةً يحسدهُ عليها الكثير، فهو يعمل لثمان ساعات يوميا (الجمعة والسبت عطلة).. عملهُ ليس عملاً بل فراغاً يُسمى عمل.. ومع كل هذه الإمتيازات(مع إنها مش امتيازات، بس هو يقنع نفسه دائما بأنها امتيازات)، مع كل ذلك، لا يشعر صاحبنا بالرِضى.. وكلّ يوم -يُجاهد- لكي يُنهيه كما اليوم السابق وهكذا تمضي أيامه.. أيام شبابه العزيزة.
مُؤخراً بدأ ينتابهُ ضيقٌ شديد وإضطراب.. وصار عندما يُجالس اصدقائه/معارفة لا يتحدث الّا عن عمله و"إمتيازاته"، يُخبرهم عن تفاصيل "جميلة" تُثيرهم وتوقظُ في نفوسهم "غِبطة" هذا المحظوظ.. بعد ذلك يتأكد صاحبنا بأنهم يحسدونه ويغارون منه.. يَنتشي لهذا الافتراض او الدليل، ويكرههم لذلك! هو يكره حسدهم لهُ.
وعندما يعلم يقيناً او فرضاً بأن أحدهم او أيّ شخص لا يعرفه حتى.. يستمتع ويُنجز ويُبدع، سواء على الصعيد العملي او الشخصي، يستيقظ في نفسه كُرهٍ مسعور ويُصيبهُ إضطراب مؤقت(قد يستمر لساعات)، ونتيجةً لهذا الاضطراب المؤقت، يستغلّ ايّ فرصة ليُثبت أنه أفضل حال وأكثر إمتيازاً وإنجازاً منهم.. تستمرُ تلك المُحاولات حتى وإن زال ذاك الاضطراب.. مع بقاء حقيقة أنه لا يستمتع، بل يشعر بضيق من عمله وحتى روتين حياته ومُحاولاته والمُنافسة الشديدة لإثبات عكس ذلك(مع أنه ما فيه أحد داري عنه بطبيعة الحال!).
صاحبنا يُصاب بنوبة إكتئاب، أحيانا تستولي عليه لشهور. ذات مساء كان يجلس مع مجموعة أشخاص يعرفهم، وفي تلك الفترة كان صاحبنا يرزح تحت وطأة الاكتئاب اللعين، وفي أثناء الحديث الدائر بين الجالسين، حاصرت بل إستولت على صاحبنا فكرة أنهم يسخرون ويستهزئون به..! لا يعلم إلا الله كيف؟
مع مرور الوقت تأكدّ وأيقن من ذلك، وعندما أُتيحت له فرصة الحديث لأول مرة، زَعل وغضب من أمر ما، وغادر ذلك المجلس مُستعينا بغضبته تلك.. بعد وصوله للبيت، وهدوء أعصابه بعض الشيء، أحسَّ برأسهِ فارغاً الّا من أفكار مبتورةٍ ومُهتاجة. وكان يشعر في أعماقه بأنه إنتصر على مَن يُناصبونه العداء والحسد!، في تلك الأيام كان صاحبنا يُعاني من الانهاك الشديد بلا سبب واضح!، وكان يُعاني أيضا من الأرق والنوم الضَحل المليء بالأحلام المُزعجة بسبب الانهاك حسب اعتقاده.
أحياناً "تنبجسُ" منهُ طاقةً ونشاط مع عدم القدرة على القيام بأيِّ نشاط، وكان يعرف في بعض الأحيان بأنه "مريض"، ما هو مرضه ؟ وما سببهُ وكيف علاجه ؟ لا يعرف ولا يُريد أن يعرف!! او حتى لا نظلمه هو غير مُتأكد تماماً من حالته! فأحيانا كثيرة يتهم نفسه بالفسقنة(عدم معرفة قيمة ما يملك).
في أثناء عمله، ينتابهُ الغضب والتوتر يبلغ مداه الأقصى ومن ثمّ يفتر ويُصيبه خمولٌ وكسل.. ومع ساعات العمل البطيئة، كانت تهجم عليه أفكار لا يدري لماذا يفكرُ بها! ففي شروده المتواصل يتخيّل بأنه في سجن ومحكومٌ عليه بالاعمال الشاقة المُؤبدة.. او بأنه قد يموت في هذا اليوم تحديدا، وهو عائدٌ إلى بيته بحادثٍ يُخفي ويطمس ملامحه.. يُحدّث نفسه "الليله ما رح أنام بدري.. بس أنا تعبان من هسّا.. بس أوصل الدار دغري أنام واسهر بالليل.. طيب ليش اسهر؟ وبلكي ما قدرت أنام بس أرجع؟ رح اسهر بكل الأحوال؟ اوووووف ليش أفكر هيك اناا؟"
ودون أن يشعر يعود ويُفكر في مثل تلك الأمور، دائما يُحاول أن يُشغل نفسه/عقلة بأي شيء.. المُهم الّا يجلس بلا أن يقوم بشيء.. لكنه لا يستطيعُ ذلك، حاولَ كثيراً.. لم ينجح في ايّ محاولة.. بعد لحظات من جلوسه يقوم كممسوس بكهرباء.. في ذلك اليوم أثناء قيادته لسيارته عائداً لبيته، فكّر جدياً بأن يقوم بحادث، لعلّه.. لا أحد يعلم! أنكرَ تفكيرهُ، حاولَ السيطرة على حركته الجسدية، انتابه ارتباكٌ فظيع وقلقٌ رهيب.. لم يقدر على استجماع فكرةً واحدة، أحسَّ بفراغ يملأ ذهنه، فراغٌ مؤلم، كأن اسياخاً هوائية حادّه حارّة، ترتطمُ وتخترقَ رأسه... زاغَ ذهنه، أمسك برأسه، وصرخ صرخةً مُدوية.. كان يسيرُ بإتجاه تجمع سيارات تتوقف أمام إشارة لم تزل حمراء، يسيرُ بسرعةٍ غير معقولة، إنتبه.. أمسكَّ المُقود بكلتا يديه.. وإنحرف جهة اليمين بالسيارة ليتفادى الاصطدام بالسيارات الواقفةُ أمامه، إنحرف نحو وادٍ حجريّ.. يعرف هذا الوادي جيدا، لطالما رآهُ، وتذكر فجأةً بأنه أمس وهو عائدٌ من عمله، بمثل هذا الوقت، فكّر لو أنه بسرعته التي كان يسيرُ بها.. لو أنه إنحرفَ بسيارته وقذف بها في الوادي.. سيكون المشهد مُدهشاً حقاً.. هكذا فكّر في الأمس!

الأحد، 2 سبتمبر 2018

دراما واقعية (قصة طويلة بعض الشيء)

جاوا اُدخلت "مُستشفى الأمراض العقلية" قبل أيام، بسبب إنها تُعاني من عدة مشاكل نفسية/عقلية.. كالاكتئاب الحاد ونوبات من الهوس الشديد وفي بعض الاحيان تُصاب بهستيريا تُفقدها عقلها تماماً.. المُهم تبيّن أنها تُعاني من تلك المشاكل بالطبع بعد عرضها على أطباء وإجراء ما يلزم من فحوصات وتحاليل.. درجة مرضها "خطيرةٌ جداً"، وقد تم إدخالها للمُستشفى الذي يُشبه قلعة او ثَكنة عسكرية، ولا أحد -الّا الله- يستطيع معرفة ما الذي يجري في داخل ذلك المكان.. فالمشهد الخارجي يبدو كئيباً وهادئ.. ومُوحش.. 
منذ عامين تقريبا بدأت جاوا عملها كموظفة مُحاسبة في إحدى الشركات الخاصة.. تم قبولها في تلك الوظيفة، بعد عاميّن من البحث والمُقابلات التي تنتهي دائما بلا شيء سوى الأمل الذي يتضاءل بعد فترة إلى أن يندثر.. ومع كلّ مُقابلة عمل جديدة يشعُّ ذلك الأمل ولا يلبث أن يغيب مُجدداً.. إلى أن تمّ قبولها في شركة م.ب للصناعات التحويلية.. 
كانت قد إستيقظت للتو، ضَجرةً(قرفانه من كل شي)، وكانت الساعة لم تتجاوز بعد الثامنة صباحاً، وكانت قد رأت في منامها حُلماً او كابوس لا يعلم إلا الله ما تصنيفه.. المُهم، كانت ترى نفسها، ولا تعرف نفسها.. وتعرف بأنها هي التي تراها ! وفجأةً رأت ضباباً كثيفاً.. من دون أن تعرف شكل المنطقة التي هي فيها.. فقط ضباب يتكاثف، ورأت نفسها كأنها تشاهد شخصا آخر، وكانت تزحف وتبكي.. لا تستطيع أن تقوم، كأنها رُبطت إلى الأرض.  واستيقظت.
إستيقظت كأنها ما زالت تُحاول القيام، ولا تستطيع ذلك..!، بعد لحظاتٍ من إستيقاظها كانت لا تعي شيئا، فقط ذهول وحُمّى شديدة وخوف، كأنها للتو توقفت عن ركض سريع او حمل أثقال.. وبحركة لا إرادية قفزت عن فراشها.. وإلتوت قدمها، وسقطت أرضا تتلوى وتصرخ! ورنّ هاتفها صارخاً معها.
للحظات لم تنتبه لرنين هاتفها المُزعج، وفجأة وكأنها كانت غائبةً عن الوعي إنتبهت للهاتف فوق سريرها.. و وَثبت فوق السرير.. وزحفت فوقه.. نحو الهاتف في الجهة الأخرى! تذكرت لا تدري لماذا، بأن زحفها الآن يُشبه زحفها في الحُلم/الكابوس قبلَ لحظات!
مدّت يدها، وتلّقفت الهاتف..
:آلوو.. صباح الخير.. حضرتك.. جاوا عبد الرحمن..؟
:آآه.. ماا.. شو ؟؟ (ولعنت تسرعها بالردّ)
:إنتي جاوا.. عبد الرحمن ؟
:ايووه.. معك جاوا.. جاوا عبد الرحمن (ولأول مرةٍ تشعر بأن إسمها غريب.. مُنفّر)
:إحنا شركة م.ن.. إلي عملنا معك مقابلة عمل لوظيفة محاسبة، بتاريخ 5/11.. مبرووك جاوا تمت الموافقة عليكِ.. ومن بكرا شرفينا لنوقع معك العقد وتبلشي بشغلك..
إنخرسَّ لسانها (طبيعي لأنها كانت للتو صاحية من.. ما هو أكثر من مُجرد نوم طبيعي ! ولم تكن تتوقع قبولها.. هيك بهذي السهولة، وقد أصبحت مُؤخراً لا تأمل من المُقابلات بشيء، تذهب كواجب أخلاقي فقط)!
:....يعطيك.. العافـ....يـ..ــه.. شُـكـ....راً.

بقيّت لدقائق ذاهلةً، صافنةً، لكنها بعد ذلك أتمتّ واجباتها البيتية على أكمل وجه، بعد أن أخبرت عائلتها بالنبأ الجميل.. السعيد.. بعد ذلك بدأ يَغزوها شعورٌ غريب.. بالفرح و... القَلق الرهيب!

في اليوم التالي ذهبت لشركة م.ن، وقد كان ينهشها خوفٌ وارتباك لا يعلم به الّا الله.. إضافةً لذلك كانت مُنهكةً تماما، لأنها لم تنم سوى سويّعاتٍ قلائل، وهالسويعات كانت شِبه نوم لا نومٌ حقيقيّ! واستغربت بعد استيقاظها بأنها لم ترى منامات.. كوابيس.. بعكس ما قد اعتادت عليه منذ شهور إن لم يكن عام.

اليوم الأول في العمل..
عرفت في اليوم السابق (يوم توقيع العقد)، مُدير الشركة المُهندس شَريف، وبعض الموظفين التي لم تحفظ ذاكرتها أسمائهم.. إلّا "إحسان" وهو شابٌ عندما رأته إعتقدت بأنه لم يزل صغير.. بأنه لم يتجاوز بعد سن الثلاثين.. بالرغم من شكله العام الذي يُوحي للناظر إليه بأنه تجاوز الخمسين من العُمر..!
وصلت جاوا مُبكراً، قبل أغلبية الموظفين إن لم يكن جميعهم، استقبلها موظف الخدمات بكثيرٍ من الحفاوة والترحيب كأنها تزوره في بيته..! هو رجلٌ مُدوّر، وجهه مُتغضن وعيناه زائغتان.. ذاهلتان.. لم تحزر عمره، لكنها تأكدت -لا يعلم إلا الله كيف- بأنه يتصنّع كل شيء يقوم به..!!
وصلت للقسم حيثُ مكتبها.. معها في القسم مكتبان آخران.. جلّست وتفحصّت بعض الأوراق والمُستندات.. في الليله الماضية أذهب النوم من عينيها (عَجقها).. سؤالٌ: ما هو عملها على وجه الدقة ؟ 
وزجرت نفسها.. بأن توقفي عن طرح مثل تلك الاسئلة الغبيّة.. والواجب عليها أن لا تسئل حتى لا تبدو غبيّةً، الأمور تتسهل مع مرور الوقت.. ككل شيء.
وَصل الموظفون جميعهم في وقتٍ واحد.. بالرغم من أن موعد العمل بدأ.. قبل نصف الساعة !
غداً.. من غداً ستأتي معهم ولن تأتي باكراً ابداً.
وَصل إحسان.. زميلها في القسم.. حيّاها:"صباح الخير.." دون أن ينظر إلى جهتها.. كان عابساً مُقطباً حاحبيّة.. والموظف الآخر لا تعرف أسمه.. دَخل كأنه بلا أقدام يسير عليها، لم يتكلم بشيء ولا حتى أنتبه للتي تجلس معهم في نفس المكتب.. أحسّت صاحبتنا بالإهانة، وحدّثت نفسها:" يمثّل.. واللهِ يمثل.. أنه مش منتبه إلي "
بدأت بالعمل، دون أن تعرف بالتحديد ما العمل الذي يجب عليها القيام به ؟
لكنها إنهمكت كزملائها بالـ... بصراحة، هي تُمثل بأنها مُنهمكة وتسائلت فيما بينها "هل زميليّها كذلك؟"

د.عبد الرحيم الجهوريّ، الحاصل على شهادة الدكتورة في الفلسفة من جامعة..(الله وحده يعلم)، ورئيس قسم المُحاسبة، رأته عَرَضاً بالأمس، وجهه يَنمُّ عن كبرياء مُصطنعة وحقارة نتنه.. هكذا استنتجت عندما رأته في الأمس، أما الآن فهي ترى في وجهه سُخريةً وبلاهةً! ،تَدحرج الجهوريّ في القسم، فقام الزملاء كممسوسين وقامت معهم.. حيّاهم ببرود وقرف.. وبدأ خطبتهُ العصماء.. تتذكرها الى الآن! بدأ كلامه مُتلعثماً، مُمسكاً بطنه(عند قمة الكرش)، (قبل أيام في جلسة تحليل نفسي وفي اللحظات الأولى تذكرت لا تدري لماذا تلك الخُطبة.. ولم تُخبر طبيبها بأنها ظلّت مركزة في طريقة وضع يده على بطنه)، أتمَّ خُطبته.  وانتبهت جاوا بسبب الصمت، رأت وجه الرئيس أحمر.. مُتعرق.. كأنه فرغ للتو من مُشاجرةٍ (صوتية).. وختم كلامه بـ "تمام".. رددوا(الّا جاوا): "تمام".. بعد خروج الرئيس، ودقائق الجلوس بذهول.. سئلت صاحبتنا دون أن تَعي تماما ما تقول:"مين هاد ؟ قصدي.. شو حكى ؟؟" نظر الإثنين إليها، وارتسمت على وجوههم علائمُ التساؤل، والذهول، وبعدها السُخرية.. أنقذ الموقف جَلبة الموظفين.. حان وقت الاستراحة!.

جُهد عصبيّ (ما رح أحدد أيام.. هي أحداث تُلّخص عاميّن تقريباً، وترتبط إرتباط وثيق باليوم الأول).

تَجلس في القسم وراء المكتب.. بعد أن تعرضت لموقف.. هو التالي: كانت تمشي بإتجاه القسم، وكان إحسان واقفاً على الباب يتحدث مع ربيع (اسم زميلها الآخر).. إحسان يسدُّ الباب تماما، ووصلت جاوا.. فيما بعد تذكرت بأن صوت خطواتها تُسمع من آخر الممر.. لكن إحسان لم ينتبه للتي تقف وراءه.. لم تطلب منه الابتعاد لا تعلم لماذا، كأن لسانها إنعقد، وإحمرَّ وجهها.. وبعد لحظات (كانت كساعات بالنسبة لها!)، إنتبه إحسان.. فأنتفض مُبتعداً عن طريقها، مُفسحاً لها المجال لتدخل.. لكنه لم يعتذر.
دَخلت، وهي تشعر بالخزيّ و.. بأن نظراتهما حتماً تخترقانها، وتسخر منها.. والاكيد بأنهما يتبادلان الابتسام.. الضحك.. الاستهزاء، إعتقدت ذلك كأنها رأته وعاينته!
إستبدّ بها غضبٌ وحَنق! لكن بصمت.. هي الآن تُفكر حتى لتشعر بأن دماغها سيسكت كقلب مريض، مُنهك تسددت شرايينه.. حدثّت نفسها:"ليش ما.. تنحنحت.. عطست.. ليش ضليّت متسمّرة.. متحنطة  لا.. متأكدة كان شايفني.. وعارف إني وراه واقفة.. معقول ما سمع صوت مشيي.. إلي بالشارع سمعوه.. هو يتقصّد أنه يهيني، أكيد.. وهاد التاني اللي حتى سلام ما يسلّم! كأني كرسي او قلم مَنسي على طاولة ؟ يا ربيي ليش هيك ؟ شو يعني.. طزّ، إنسي يا جاوا طنشي"، هكذا حدّثت نفسها، بصوتٍ هامس مسموع، مكظومٌ من الغيظ.. بعد أسابيع قليلة من ذلك الموقف، تبدّل موقفُ ربيع، تبدلاً غير معقول.. بعد أن كان كأنه لا يراها، ولا يُلقي لها بالاً.. أصبح يُعاملها.. كأهمّ موظف.. بل أصبح يتملّقها ويُجاملها بعبارات مُبتذلة.. يُحييها بحرارةٍ.. يتنبّه لأقل كلام تتحدث به.. وكأنه إكتشف وجودها للتو!
هي بادلته الإحترام و... المُجاملة، بل وثقت بهِ كأنها تعرفه منذ سنوات!
وقد كانت بعد موقف الباب المُحرج، تُراقب إحسان وتشعر كُلما نظرت إليه بكُرهٍ و.. بشعور آخر مُناقضٍ للكُره تماماً !
هو لا يَزيد كُلما سنحت فرصةً لذلك على.. "إهانتها.. إحراجها.." وهي مُوقنةٌ من أنه يتعمدّ ذلك! إهانات بلا أي دليل على صحتها وواقعيتها! ومع ذلك كُلما مرّ الوقت كُلما زاد اهتمامها (لا اراديا) بإحسان، مُلاحظة: إحسان هو من النوع الذي ينجذب لأغلب النساء.. من أول لقاء. وهو مع ذلك لا يدري لماذا يُعامل صاحبتنا جاوا هكذا.. يستفزها.. ويستلذّ بإهانتها (دون أن يُهينها مُباشرةً) مثلما ذكرت؟!
هو لا يقوم بتلك الأفعال، الّا في القسم وبحضور ربيع.. أما في الخارج، فلا يُلقي لها بالا كأنها غائبة..!
ومع ذلك فهي تستحوذ على تفكيرة أكثر فأكثر مع مرور الوقت! هو كأغلب (الرجال والنساء)، يعتبر نفسه دائما ذا حُسنٍ وجمالٍ باهر، كأيّ مُمثلٍ هوليوودي، ويضع نفسه في هالةٍ عظيمة، كقائد.. مُتحدث.. لا يتلعثم بالحديث ويعرف كيف ينتقي كلماته..الخ، وصاحبتنا كلّ يوم يزداد فيها "خليط المشاعر" تجاه زميلها..مُلاحظة: حاس حالي بمُسلسل خليجي !


 بعد كم شهر بلشت مرحلةٌ جديدة.. أسميتها "مرحلة الاستواء".. في لحظةٍ تبدّل كل شيء، كعادة الزمن وتبدلاته الغير مُتوقعة، كأن ذلك التبدّل الخارق، كانَ رَهناً بخطوة..!
في أحد الأيام، بعد إنقضاء ساعات الدوام الرسمية.. وَجدَ ربيع زميلتهُ جاوا (التي أصبح يشعر تجاهها بمشاعر يجهل ماهيّتها.. تُشبه الشَفقة والرأفة)، كانت جاوا تستند برأسها على راحتيها.. جالسةً خلف مكتبها، شاردةً عن كل شيء.. طَرق ربيعٌ الباب ودَخل، إنتبهت.. أخبرها بأن الدوام خلّص وسألها: "صاير معك شي؟"
أجابت بعد صمت ثقيل:"..اسمع.. ربيع أنا.. رح أترك الشغل!"
"ليشش..؟" (وبَدت على وجهه أمارات الهَلع لا يعلم إلا الله لماذا)
"رح أترك.. لأني.. ربيع أنت أول شخص احكيله.. توعدني ما تحكي لحدا!؟"
"إحكي... شو مالك؟"
"...إمبارح رحت عدكتور.. لأني كنت.. مش عارفه.. بس غيّبت، والدكتور حكى إنو هاي علامات فَشل بالكبد.. بعد ما فحصني.. وأخذ عيّنة دم للتحاليل اللي رح تطلع بعد أسبوع.." إنهالت من عيّنيها دموع.. بعد أن كانت تتكلم بفرح وسرور، يبدو للناظر إلى وجهها بأنه مُصطنع، وتبذل جُهداً شديداً لإظهاره.. صاحبنا ذُعر.. كأنها أخبرته بأنها مُصابة فعلاً بالمرض!..
أصابته قشعريرة، سَرت في جسده، وعندما رجع إلى بيته.. كان قد استبدت بهِ حالةً من.. لا أعرف كيف اصفها ؟ هي حالةً من كلّ المشاعر المُتناقضة!
هو لا ينسى الأيام القليلة والليالي التي تلّت ذلك الخبر. كان لا يعرف سبب كلّ ما ألمَّ بهِ مِن.. 
كانت تلك "المُصارحة"، بعد أسبوع واحد من توثّق علاقتهما العمليّة (اكتشاف وجودها)، وكان لذلك الأمر عظيم السبب في تبدّل تعاملهُ معها..!! أصبح كأنه يعرفها (كأخته)، يُحاول جاهدا أن لا يُكدر صفو مزاجها..! إلتزم ربيعٌ بالوعد ولم يُفشِ السر. 
ومَضت الأيام دون أن يجرؤ على سؤالها او الاستفسار عن نتائج التحاليل..! لا يدري لماذا كان يتعامل مع الأمر وكأنها اخبرته بأنها فعلاً أُصيبت بفشل الكبد وبانها ستموت في يوم كذا.. وهذا الإعتقاد هو سبب حالته تلك التي استولت عليه لأيام وليالي..!
هو الآن يتذكر (جيداً)، وقائع تَلت ذلك الموقف.. ففي يوم دخل المكتب.. ووجدها وحدها تبكي.. من الطبيعي أن يُحاول مُواساتها، أن يقف معها.. إقتربَ منها.. تحدث بضع كلمات إنتقاها ونمّقها جيداً.. لم تردُّ عليه سوى، بـ:"إطلعع براا.. أتركني بحالي.." وطلع براا ولم يغضب او يستاء من لهجتها إطلاقا. فهو يعلم بأنها تُعاني، تتألم.. لم يشعر بالإهانة الّا بعد أشهر!
قد لا تكون إهانة بالمعنى الصحيح، ولكن مُعظم البشر حسّاسون في بعض الأحيان..كثيراً! لا أبالغ إن اخبرتكم بأنها كانت "كالصفعة" على وجهه عندما يتذكرها بعد مرور تلك الأشهر!!
في ذلك الوقت تَكررت "الصفعات"، وصاحبنا لا يتأثر، بل كان يشعر (أحيانا) بأنه سبباً لآلام جاوا! 
وفي تلك الأيام كان (إحسان)، لا يتحدث معها الّا لِماماً(رسميّ كثير)، ولا ينسى همزها ولمزها.. كعادته!
لاحظ ربيع "قوّتها" في مواجهة إهانات صديقة.. قوتها كانت هشةً، تتصنعها بإتقان.. أحيانا تمتلأُ عيّنيها بدموع، تُجاهد في حبسها.. والمواقف في مُجملها "سخيفة"، لولا التاؤيلات.. مع مرور الوقت بدأت تستمتع بما تتعرض لهُ من صنوف الاستهزاء والاهانات المُبطنة.. وهي كذلك تستفزهُ.. وتُهينه بقدر المُستطاع.

الآن استبقُ الأحداث.. واخبركم عن التبدّل الرهيب الذي حدث.. وبعد هذا التبدّل بأشهرٍ قليلة كانت نهاية كل شيء بالمعنى الصحيح.. 
الكلمات على لسان ربيع: بلا سبب واضح، فجأةً أصبحا صديّقين، كأنهما لم يتشاجرا يوماً.. كأنهما لم يُناصبّا بعضهما العداء الذكوريّ/النسويّ يوماً ما..
وأصبحت أنا لا مرئيٌّ تماما، بالنسبة لهما.. كانا يتحدثان وكأنني غائبٌ او جُثة مَرميةً في المكتب!
الأمر كان مُعقد جداً، لماذا استنكرت الإحترام الذي بدأ بينهما ؟ ولماذا أصبحت أكره إحسان واحتقره بهذا الشكل ؟ 
ففي أحد الأيام غضبتُ، عندما رأيتها تتحدث إليه.. رأسي تحوّل لشُعلة نار، وجسدي إقشعرّ من ذلك.. الحديث (الروتيني بينهما). بعدما خرجتُ من المكتب أُجاهد لإخفاء غضبي.. وذُعري.. فكرتُ بأنني أُعاني ما أُعانيه، بسبب خوفي عليها منه.. فأنا اعرفه جيداً وهي لا تعرفه.. ولا أعلم لماذا فكرت بأنه يستدرجها لأمر ما، ما هو الأمر؟ لم أستطع تحديدهُ آنذاك على وجه الدقة! 
بالفعل.. صاحبنا ربيع أصبح لا مرئي في ذلك المكتب.. بل أصبح يُعامل، ككُرسيّ.. كمكبسٍ للورق.. فهم لا يأبهون لوجوده إطلاقاً.
زيادةً على ذلك صارَ، يشعر بإحتقار جاوا لهُ، ففي إحدى المرات وجهت لهُ تُهمةً ما.. وادانته بفعل لم يرتكبه و.. زعلت منه! مما اضطره للإعتذار منها(مُتاثراً بفرضية فقدها القريب).. لا يدري على شو ؟ وهو إلى الآن لا يدري هل كانت جادةً ام تمزح؟! وكان لا اراديا يستحثّها لردّ الجميل، والوقوف معه.. كما وقف معها كثيراً!
مرةً واحدةً فعلها، أخبرها بمُعاناة مُزيفة كان يعيشها آنذاك، وكان لا يرجو سوى مواساتها لهُ.. وأراد أن يخبرها بشكوكه وبحقيقة إحسان.. لكن هيهات، لم يقدر على الكلام بالأمر.. بماذا سيتكلم أصلاً ؟ هو مُتأكد من الأمر(بالفعل حصل ذلك الأمر بعد ذلك!).. لكنه في ذلك اليوم، كان من "الخطأ الفظيع" إن تكلّم!
حتماً سيُفهم كلامه بشتّى التأويلات، كتشويه سُمعة إحسان لأنه حتماً يغارُ منه.. يحسده.. ألخ.
ولكن ما العمل ؟
مَشت الأيام بسرعة، وتوالت الشهور، وقد توثقت علاقة جاوا بإحسان، واصبحا كحبيبيّن او يكادا.. في إحدى الأيام أخبرت جاوا ربيع بما يجولُ في خاطرها، بأنها لم تفهم قصد إحسان من كلامه قبل ساعتين..
"...حكى بدّو يتزوجني..؟؟ سمعتو أنت صح ؟!"
ربيع كأنه كان يعرف هذه النتيجة، ولكنه لم يُجيب سوى بكلمات مُبهمة، وبعد يومين من ذلك الحديث، كان إحسان يُحدث ربيع عن جاوا..: "هالبنت تجنن.. ومُحترمة.. وكويسة.. وما شاء اللهُ عنها" وكذلك استغرب ربيع، بأن إحسان لم يتحدث عن "زواج" قد يحدث بين.. الحبيبيّن. 
وهامت جاوا عشقاً وتعلّقاً.. وبعد شهرين بالتمام، كانوا الثلاثة، يجلسون وراء مكاتبهم في القسم.. وقد اعتاد ربيع أن يراهم يُمازحون بعضهم بلا تكلّفةٍ او إحترام حتى.. وفجأةً حدث ما لم يُتوقع كعادة الأحداث..
جاوا تقول لإحسان:"إنت كلب.. تشبه الكلاب اللي بالشارع.. ها ها ها"
بعد تلك الكلمات هدأ كل شيء، تبدّل وجه إحسان، وتحوّل للون القُرمز الفاتح.. تراجعت جاوا غريزيا.. وبفورة غضبٍ جامح تحدث إحسان: إنتي الكلبة.. يااا*** فعلاً إنك ما.." 
جاوا صُعقت، وتسمّرت لدقائق في مكانها، وخرجت من المكتب مُندفعةً.. وكذلك فعل إحسان، هي توجهت لليمين وهو لليسار.. وأبتسم ربيع بأسىً واضح على مُحياه!

السبت، 1 سبتمبر 2018

الحُرمةُ المُفقودة.. (قصة قصيرة)

خَرج الشاب فاضل وعمّه حسن في شاحنةِ فاضل الكبيرة، للبحث عن أُخت فاضل ذات الثلاثين عاماً، التي تُصنف من فئة "ذوي العقل الخفيف"، بل هي أقرب للجنون المُطلق، لذلك وبعد أن "عنّست"، ورَحل والديّها لدار الحق.. صارت تسكن مع أخوها فاضل وعائلته المُكونة من زوجته التي لا يعلم إلا الله ما هو اسمها، وثلاثة أبناء(بنتين وولد)، يَعيشون في بيت عاديّ، ضيّق(غرفتين للنوم وغرفة للضيوف وواحدة للجلوس ومطبخ وحمامٌ خارجيّ)، في قرية "أم العدس".. المنطقة نائية.. صحراوية.. تتباعد البيوت عن بعضها، وعلى بُعد بضعة كيلو مترات جهةِ الجنوب الغربي توجد مصانع "خطيرة".

فُقدت "الحُرمة" عصراً. في أول الأمر لم تَشعر زوجة فاضل بإختفاء الحُرمة، ولكن مع مرور الوقت بدأ ذهن الزوجة يتوجس حدوث شيء غير عادي.. فظيع.. لا تدري ما هيّتهُ. فزوجها سيعود بعد قليل من عمله (الخاص)، وقد جهزت "غدائه العشائيّ". وأتمّت ترتيب فوضى البيت الأبدية. وغيّرت لبسها الذي عَشقت بهِ رائحة البصل والزيت المقلي.. وجاهدت مع أبنائها كالعادة في إقناعهم بأن الأكل لذيذ.. ألّذُ من شيبس ليز وعصير مُنعش.. ولا خروج للعب الّا بعد حلّ الواجبات، وليتهم يَفهمون بإنها ليست مُعلمة، ليفترضوا منها إجابةً لكلِّ سؤالٍ يطرحونه كـ (125×24÷5)، وقيمة س و ص.

عاد الزوج للمنزل كالعادة، باشّاً.. مُتهلهلاً.. وجهه عندما يكون صافيا بلا ايّ إنفعال، يُثير في النفس شعوراً بالهدوء.. وما أن ينفعل حتى ولو بإبتسامةٍ تجعل الناظر إليه، يُشفقُ عليه. وبعد نصف الساعة كان فاضل يجلس أمام مائدةُ غداءه المُتأخر، وقد اعتاد أن يسأل عن أخته دون أن ينتظر جواباً، ولكن هذه المرة وَجد وجه زوجته يتحول.. لا يبتسم ذلك الوجه، ويقول: "بغرفتها.."، بل صار وجهها "مُستفهماً"..
 قامَ الزوج كملسوع وصارَ وجهه الراضي ساخطاً. والزوجة التي كانت تقف أمام مائدة الزوج (كالعادة)، بإنحناء ينمُّ عن خشيةٍ لا بدافع الخوف إنما بدافع حُبّ إبقاء الزوج رائق المزاج كما هو.. بعدما قام الزوج عن مائدته، تراجعت الزوجة خطوتين للوراء، وضمّت يديها لصدرها كأنها خشيت أن تُصفع.. خمسُ دقائق من الجَلبة والتحرك بين الغرف والخروج مرتين لخارج البيت بَحثاً عن المفقودة..  اخيراً إتكأ فاضل ووجهه الذي صار مهموما.. حائراً. إتكأ على حائط "البرندى"، والزوجة واقفةٌ أمامه، تبدو له وهي في ظُلام فسحة الباب، تبدو ككُتلةً كريهة.. جامدة بلا ملامح كأنها تنتظرُ.. لا شيء سوى أن ينتهي الزوج لشيء تخافه دون أن تُدركه، ولأن التوقيت شتويّ، والساعة قد تجاوزت الخامسةُ مساء، سارع فاضل لأن يُبادر بلا إبطاء.. لأيّ أمر ؟ لا يعلم على وجه الدقة ! لكن لا وقت للإنتظار. 

وعندما استقرّ في شاحنته، إتصلّ بالشخص الوحيد الذي يُمكن أن لا يخجل منه.. لأن الأمر أشبه بفضيحة. وذلك الشخص هو العم حسن وهو أصغر أعمامه، وهو كفاضل تماما.. مُتدين من ناحية مظهره الخارجيّ، ومُطلقاً لحيته، ومُرتدياً (دائما) ثوب أبيض قصير، وهو أقلُّ بشاشةً من ابن أخيه، ولحسنٌ زوجتين.. يذكر دائما أثناء مُزاحه مع الرفاق، بأن شيب شعره، سببهُ ليس عمره الذي قارب الخمسين بل زوجتيّه وحسب.. ويحمد الله على نعمه التي لا تُعد ولا تُحصى، رغم أنه مُعدمٌ ماديا، كحقيقةٍ يأبى الإعتراف بها حتى لنفسه..

كأن الشفقُ يتضائلُ غرباً، وشاحنةُ فاضل تجوبُ الأرجاء.. أُخبرَ الرجليّن من عمّال أحد المصانع بأنهم رأوا إمرأة كما وصفها فاضلٌ لهم:"حُرمة.. مخمّره.. حركتها مش طبيعية.."، وتسائل فاضل حينذاك، لماذا يُصرّ على أنها مُخمرة ؟ يُمكن لم ترتدي خمارها عندما خرجت؟ وأحسَّ بإختناق يملأ صدره.
 رأوها تمشي جهة الشرق، وتُحرك يديها عالياً وفي كل الجهات.. وأغلب الظن بأنها كانت ترتدي خماراً أسود(وهُنا إطمئن صدر أخوها).. كانت وكأنها لا تنتبه لشيء أمامها فقط تسير ولا تنعطف إلّا إذا وجهها حائطٌ ما. قبل ساعة رآها العُمال، ولذلك بدأ الرجليّن بالبحث الميداني بالقرب من ذلك المكان.. وكان فاضل هو الذي يسئل الناس عن أخته.. وكان "يرتبك" ويُكرر لفظ "حُرمة" مرتين او ثلاث.. ويُؤكد بأنها تلبس خمارا أسود كامل.. وبأنها "مش عاقلة"، وعمّه كان كالذي أُلتبسَّ عليه او يكاد ينهار بهدوء.. يسترقُ السمع، وينتبهُ لأقوال الذي يُجيبون عن اسئلة فاضل، وهو جالس في مقعده لا يُبارحهُ.. وقد بارحهُ بعدما خيّم الليل.

آخر الذين سُئلوا بشأن "الحُرمة المفقودة"، كانَ أحد حُراس المصانع، وهو رجلٌ يُقال بأنه تجاوز السبعين من عمره، وهو يُؤكد كُلما سُئل بأن عمره تسعةٌ وستون عاما.. وكان للفظ "حُرمة" من فمِ فاضل وَقعٌ في نفسه.. كأنه يسمعه لأول مرة! 
هو لم يرى أي امرأة في الأرجاء منذ ساعة، والساعة كانت التاسعة والنصف عندما جاءه الرجلان.. وعندما أكد الشيخ الشاب بأنها رُؤيت قُرب هذا المكان تقريبا في الساعة السادسة.. أحسَّ الرجل بمرارةٍ وعجز عن طَمئنةِ هذا الشاب الذي يبدو رابط الجأش مع أن الجزع يتقاذف من عينيه، ومن وراءه في كرسي الشاحنة يجلس شبيهه المُستطلع بنهم.. وتذكر بأنه رأى وانتبه لإمراة تضع خمارا اسودا على وجهها وعباءتها ليست سوداء.. كانت تجري بطريقةٍ تبدو بلهاء وراء رجل يتقدمها بضعة خطوات.. مرتين رآها في مكانين مُختلفين، وقد أذهلته سرعتهما في المشي نحو.. كان المشهد عفوي، زوجيّن آثرا المشيّ (في هذا الجو البارد)، على إنتظار باصات لا يعلم إلا الله مواعيدها!. تذكر ذلك المشهد الآن بإنطباع مَهولٌ.. مُرعب.. وتحدث بما رآى للشاب، ولكن تلك المرأة لم تكن ترتدي خماراً أسود كامل؟!، سارع الشاب كأنه -فُهم غلط- يوضّح للحارس.. فلا المكان مُتوقع ولا اللبس مُتطابق.. غادرَ الباحثيّن.. وعاد الرجل الكهلّ لكوخ الحراسة، يُفكر في فظاعة الموقف وقد صار مُؤخراً، يجدُ نفسه حائرا أمام تناقضات هذا العصر.. فمتى صارَ كلّ هذا ؟ وكيف؟؟
ففي زمانٍ بعيد كانَ كُل شيء معقول.. مفهوم.. لأنه لم يكن يُثير الاحتمالات، لم يكن هناك شيء يحمل عدة تفسيرات كلّها صحيحة وتستطيع إن أردت ذلك بأن تجعلها خاطئة ! لأن الموقف في مُجمله بسيط، ولكن هو أعقد مما نتوقع! وتذكر لا يدري لماذا، عمتهُ التي رَفضت خُطّابها وكانت في بعض الأحيان، عندما يكون والدها غائباً عن البيت، كيف كانت تستقبل ضيوف والدها وتُرحب بهم، وتجُلسهم في شِقّ البيت المُخصص لهم.. وتُضيّفهم وتُخاطبهم بصوتٍ عادي، كان جدهُ لا يُناديها بـ "حُرمة" بل بـ "تَرفة".

هاشم عبدالله 2017/11/28

رسالة لمجهول..



في فبراير جئتُ للحياة، وفي أكتوبر وُلدتّ !

في نوفمبر يومُ عيدي، وفي أغسطس/أيلول لا أنامُ جيداً واغفو على حافة الذاكرة.. ففي الثامن عشر من أغسطس سمعتُ صوتي وعرفتني.. وفي الثالث والعشرين منهُ رأيتني.. وفي أيلول مرضتُ وتعافيتُ.

هذا العالم لا يروقني إطلاقاً، لا أرى فيه/منهُ سوى الزيف واللامنطق والفوضى.. هل نحن مُجرد طُفيليات تعقل، وتُحاول ترتيب/تجميل/تطويع تلك الفوضى الوجودية ؟

أنا هُنا أجلسُ على الأرض، ومن ورائي قمرٌ بيضويّ الشكل يعلو في سماء ليلي شيئاً فشيئاً، وأمامي ظلامٌ دامس، وفي البعيد تتلألئ الأضواء. وأنا في الظلام وحدي، وحدي تماماً ومع ذلك أجدني مُحاطاً بالكثير المُزدحم. 
ليلٌ وقمرٌ برتقالي، وظلامٌُ وأضواء بعيدة وأنا، هل هذا يكفي؟ ربما.
لماذا لا نكفُّ عن... كلّ الأشياء! ونبدأ من جديد لننتهي.. لنتماهى مع بساطة الوجود! 
لماذا (حشرنا) أنفسنا في زوايا ضيّقةٍ/خانقة ؟
لماذا تُراقب أعيننا الساعات والتقاويم ولا نكفُّ عن الإنتظار/الترقب ؟
لماذا نحيا اليوم فقط لنموت في الغد ؟ 

ذلك الصدع في قلبك، وتلك الغضون التي بدأت ترتسم على مُحياك، قلبك الذي بدأ لا ينبضُ وعيناك الذابلتان وروحك التي ماتت ولم تُكرمّها بعزاء يليقُ بها، اطرافك التي بدأت تتيبس، ومشاعرك التي استحالت برداً بعدما كانت تحرقك وتُؤذيك، قدماك ترتجفان وملابسك رثّةً باليه.. وأنت ما زلت تبتسم، لأنك لم تعي بعد شيخوختك وأنت في العشرين من عمرك ! لكنك الآن خُذلت، فما عادت اقدامك تحملك وسقطت مغشيّاً عليك، بعدما رأيتك بمرآتك ذات صدفة..