الثلاثاء، 4 سبتمبر 2018

غرفة رقم 12 (قصة قصيرة)

صديقتي ر.ح، طَموحة و..
هاجمها صوتٌ:"إنتي ليش ما تتركي تلفونك.. وتحكي معنا"..وهي تُحَرج من أي نقاش او تأنيب او زجر.. بس ما يطوّل هالاحراج.. 

اليوم كانت صديقتي مع.. مجموعة زميلاتٍ لها، وَجدت نفسها، "مرميّةً" بينهنّ، لأنه من "الضروري" أن تكون بينهنّ..
لا توجد "موضوعات مُحددة" للنقاش بين المجموعة، حتى تستطيعُ المُشاركة وإبداء رأيها ولو من قَبيل المُجاملة..! من المجموعة لا تعرف سوى صديقتها ن.ع.. واثنتان تعرفهما بشكل سطحيّ..

الهاتف هو "المُخلّص" بالنسبة لها، يُخلصها من الشعور بالمسؤولية.. مسؤولية الوجود وواجباته في هكذا جَلسات.. من الواجبات مثلاً: المُشاركة والتفاعل مع المُتحدثين.. على هاتفها تتصفح بلا تركيز او هدف.. تتنقلُ ما بين التطبيقات.. وفي أثناء ذلك تقوم ببعض الحركات اللازمة، حتى تظهر كمشغولة او مُنهمكة.. وتشعر في أثناء ذلك بالذنب والاحراج(لابدَّ من الإحراج!) مِن ماذا ؟لأنها لا تُشارك.. 

تتسائلُ كُلّ حين:"شو اللي مقعدني.."، وتبقى جالسة!
الإحراج "ينبجسُ" عادةً، عندما ينقطع الحديث.. وكأنها مسؤولةٌ عن ذلك الإنقطاع!
عندما تعود للبيت، بعد تلك الجلسات، يعتريها إنهاكٌ شديد، وكأنها قد قامت للتو بحفر خندق، او تحطيم حجارة بازلتية ضخمة..!

تُحدّث نفسها بتأنيب وعِتاب:"ليش أقعد معهنّ..؟ ليش ما أغادر او.."، لا تجدُّ جواباً، لطالما فكّرت بهذا الأمر (الامتناع عن تلك الجلسات)، لكنها في كلّ مرةٍ تشعر وكأنها للمرة الاولى تُفكر في الأمر؟! واستأنفت حديثها:"طيب.. المرات الجاية راح أشارك واحكي و.. لازم لأني.. هيك ما راح أقدر، يا أغادر يا أشارك.. بلاش تظلّ سعدية تتخوث عليّ.. وبلاش تظلّ رجوى تهاجمني وتبهدلني.."، هي مُوقنةٌ بأن زميلاتها يتهمنها بالتكبر.. والحُزن والتعاسة، وبأنها حتما تُعاني.. وذلك ما يزيد جُهدها العصبيّ جُهديّن.. تلك هي جلسات إستراحة لمُمرضات مستشفى ح.ن الخاص.

منذُ أسبوع تم تعيينها، في يومها الأول كانت كمن يُطالب بأمرٍ ما لا يُعرفه بمعنى الكلمة... من رأسها طارت كل دراستها وتدريباتها العمليّة! نسيّت كل شيء يتعلّق بكليّة التمريض، سوى سقوطها من أعلى درج الكلية للأسفل! في أول أيام دوامها هُناك!

عادةً في الأوقات غير المُناسبة، تحدثُ الأمور، فقد تذكرت ذلك الموقف "المُضحك"، وهي تقفُ بجانب سرير أحد المرضى برفقة أحد الأطباء، ولم تستطع الإمساك عن الضحك الذي ظَهر جلياً في حضرة الصمت المُطبق.. الدكتور أُحرج وأحسَّ بأنه "مُضحك جداً" لسبب يجهله طبعاً ! والمريض أيضا انتابه ذلك الشعور! وصديقتي "إنعجقت" وأحمرَّ وجهها.. بسرعة تداركت الموقف وكحّت واستأنفت عملها.. ما هو بالضبط عملها ؟ هي بدأت بالتظاهر بالانشغال والوقوف بجانب الاسّرة، والتأثر لأحوال المرضى وانتظار حاجة أحدهم للمُساعدة لتُقدمها له.. والذهاب والإياب في الممرات، والتصبّر على آلام واهواء المرضى، وكانت تعود للبيت مُتعبةٌ، مهدودةُ القوى، مدهوشة ومُتسائلة، وكأنها قد خاضت معارك غير مُتكافئة.. تتذكر دخولها للمستشفى ليومين عندما كانت طفلة ، كَرهت كُل تفاصيل غُرف المرضى بعد ذلك، رائحةُ اليود والمَرض والمُعقمات وأنين المُتألمين، ووجوه السائرين في الممرات..!
وهُناك جانب آخر لطالما ارادته وهي طفلةٌ أيضا، وهو العناية بمن يحتاجها، ومُساعدة المُحتاجين، ومُواساةُ الموجوعين..!

"راح أتعود واتعلم، هذا هو الشي اللي كنت استناه.. ليش الآن حاسيته صعب.. كل صعب يسهل مع الوقت.."
"يا آنسة.."، إيقظها ذلك النداء البعيد.. إلتفتت وسألت نفسها مَن يُنادي؟ الجميع نائمون!
وقد كانت تُفكر بلحظات تخرجها، وسهرها المتواصل المحموم، تعبها واجتهادها و... حُلمها!لطالما اخفتهُ في أعماقها، وابعدتهُ قدر الإمكان عن وَعيها وتفكيرها وشرودها..
طبيبةٌ.. ذلك هو حُلمها المُستحيل..!

تتذكر لُعبتها التي تتكون من سمّاعة نبض، علبة دواء، حُقن وسريرٌ صغير، وقد كانت كانت تُحاول إيجاد مريض بحجم ذلك السرير.. ولم تجد!.
جاء موعد إختيار الفرع الثانوي؛ "بدي علمي" وراح أجيب (إن شاء الله) مُعدل يسمحلي ادرس طبّ، أنا شاطرة بمواد الفهم، الفيزياء.. الأحياء.. الكيمياء.. الرياضيات أكثر مادة أحبها.. واصطدمت بـ:"ردّي علينا.. إنتي ما تعرفي مصلحتك.. خليّ حلمك وهدفك على قدّك.. لا تشطحي بإهدافك لفووق.. إصحي ولك.." إصحييي يا هاانم.. تفكري نفسك ببيتك..
آهه.. آسفة.. ما انتبهت!
معلشش.. بس روحي شوفي الغرفة "12" بسسسرعة!

صديقي م.ع، تم إخراجه من غرفة العناية المُشددة قبل يومين، قَضى في العناية إسبوعٌ ويوم، أمضى تلك الأيام غائبا عن الوعي.. تتأرجح فُرصُ نجاته بين موتٍ وشيك واسترداد كامل للعافية..! كان يقتربُ من الموت صباحاً ويتعافى كُليّا في المساء والعكس، وبعد مرور الأسبوع واليوم.. إستقرت حالته الصحية على "تمام العافية".. ها هو يرقدُ على السرير، ساكناً يبدو مُعافاً، في غرفة رقم 12، ينامُ مُعظم الأوقات، وعندما يصحو يتفرسّ بما حوله، كأنه لا يُدرك وجوده ويعود بسرعةٍ للسكون..

صديقتي كانت قد سهرت الليلة الماضية على نومه العميق، بقيت قريبةً منه، لتتاكد من إستقرار حالته..
عندما عادت إليه في آخر مرة، كان قد استيقظ للتو، وكان صافناً في اللاشيء.. ندّت منهُ صرخةٌ مكتومة، عندما إنتبه لوجودها قربه.. وهمست له بصوت مُرتجف:"بدك شي ؟ محتاج... شي؟"
بعد لحظات صمت، اجابها:"إنتي..(وحكّ مُقدمة رأسه)، اسمعي لا تحكي.. إلهم إني.." (ضَرب رأسه واعتصر وجهه).. واستأنف حديثه المُفكك.. المُبهم:"انااا.. مين أنا؟... وليش أنا موجود؟ قص.. قصدي بالمكان هاذ ليش أنا هوون؟ شو اسم المكان؟ هي... سيارة كانت.. وصوت قويّ.. أحلم أنا صح؟ إنتي هي صح ؟!" وصمت كأنه لم يتكلم إطلاقاً.
صديقتي معالمٌ وجهها، خُربطت.. تغيّرت 180°.. ومع كل كلمة من كلماته كان خوفها يضطرمُ ويستعرّ.. واسرعت بخُطاها نحو... الطبيب المُناوب، أخبرته بتفاصيل الحالة.. وبأن "شكله.. فقد الذاكرة!".

مثلما خَرج صديقي من العناية مُعافىً.. خَرج من المستشفى.. على ما يبدو مُعافى.
بعد وصوله إلى البيت، نامَ كميّت.. واستيقظ في اليوم التالي (عالساعة: 12:23م).. إستيقاظه كان شَرساً، مسعوراً، وفي اثناء نومه العميق ذاك كانت تُدويّ في رأسه أصواتٌ مُبهمة، كأنها تأتي من بعييد.

أختهُ تُوقظه، تضيقُ من نومه الثقيل، تُنادي أمها لتتفاهم مع هذه الجثة..! يرى وجه أخته ابيضا، شاحبا، شروخٌ مُدماةٌ تتوزع في أنحاء وجهها.. وخيط من الدم لم يجف بعد يسيلُ من زاوية فمها.. لكنها تبدو راضية، ويحملونها ليُصلون عليها، يقفُ بين جموع المُصلين،لا يعي شيئاً، ويتذكر ليلةً تبدو الآن.. في هذه اللحظة كأنها حدثت في الأمس.. خبر وفاة أبوه وأمه بحادث مرور، وهُما عائدين من عرسٌ او عزاء او مُجرد عزومة عائلية.. أحس بالعجز كونه لم يُخمّن ذلك!
كان في الثامنة من عمره، وأخته في العاشرة.. مَن اخبرهما بذلك الخبر؟ ولماذا كانا وحيديّن، لو ذهبا لكانا ميتيّن ؟! ؟، "وين أختي..؟" سَئل نفسهُ، وهو ما زال واقفاً بين جموع المُصلين.. 
"آلوو.. وينك؟ تأخرتي؟ رجعت قبلك اليوم؟ شكلك عالقة بأزمة.. ههه"
"هلااا.. هيني بالطريق.. رااجعة.. أزمة وخنقة.. بس أن شاء الله ما بتأخر.. نصّ ساعة وبكون عندك.. لا تتغدا قبل ما اجي.. يلااا سلام"
إنتظر ساعة.. ساعتيّن.. ضاقَ ذرعاً، وكان إتصل بها مِراراً، ولكن لا جواب! 
أخيراً... جاء الرد:" صوت خشخشة.. صوتٌ خشن.. أنت أخو ع...؟" 
إقشعرَّ بدنة، وفَترت أطرافه، وفي أعلى معدته احسّ بلطمةٍ واحدةٍ.. ماكنةٍ.. 
"آآه... خير شوو صار ؟ وين ع.." 
"البقية بحياتك.. إختك.. توفت بحادث الباص على طريق ج.. قبل حوالي ساعة"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق