خَرج الشاب فاضل وعمّه حسن في شاحنةِ فاضل الكبيرة، للبحث عن أُخت فاضل ذات الثلاثين عاماً، التي تُصنف من فئة "ذوي العقل الخفيف"، بل هي أقرب للجنون المُطلق، لذلك وبعد أن "عنّست"، ورَحل والديّها لدار الحق.. صارت تسكن مع أخوها فاضل وعائلته المُكونة من زوجته التي لا يعلم إلا الله ما هو اسمها، وثلاثة أبناء(بنتين وولد)، يَعيشون في بيت عاديّ، ضيّق(غرفتين للنوم وغرفة للضيوف وواحدة للجلوس ومطبخ وحمامٌ خارجيّ)، في قرية "أم العدس".. المنطقة نائية.. صحراوية.. تتباعد البيوت عن بعضها، وعلى بُعد بضعة كيلو مترات جهةِ الجنوب الغربي توجد مصانع "خطيرة".
فُقدت "الحُرمة" عصراً. في أول الأمر لم تَشعر زوجة فاضل بإختفاء الحُرمة، ولكن مع مرور الوقت بدأ ذهن الزوجة يتوجس حدوث شيء غير عادي.. فظيع.. لا تدري ما هيّتهُ. فزوجها سيعود بعد قليل من عمله (الخاص)، وقد جهزت "غدائه العشائيّ". وأتمّت ترتيب فوضى البيت الأبدية. وغيّرت لبسها الذي عَشقت بهِ رائحة البصل والزيت المقلي.. وجاهدت مع أبنائها كالعادة في إقناعهم بأن الأكل لذيذ.. ألّذُ من شيبس ليز وعصير مُنعش.. ولا خروج للعب الّا بعد حلّ الواجبات، وليتهم يَفهمون بإنها ليست مُعلمة، ليفترضوا منها إجابةً لكلِّ سؤالٍ يطرحونه كـ (125×24÷5)، وقيمة س و ص.
عاد الزوج للمنزل كالعادة، باشّاً.. مُتهلهلاً.. وجهه عندما يكون صافيا بلا ايّ إنفعال، يُثير في النفس شعوراً بالهدوء.. وما أن ينفعل حتى ولو بإبتسامةٍ تجعل الناظر إليه، يُشفقُ عليه. وبعد نصف الساعة كان فاضل يجلس أمام مائدةُ غداءه المُتأخر، وقد اعتاد أن يسأل عن أخته دون أن ينتظر جواباً، ولكن هذه المرة وَجد وجه زوجته يتحول.. لا يبتسم ذلك الوجه، ويقول: "بغرفتها.."، بل صار وجهها "مُستفهماً"..
قامَ الزوج كملسوع وصارَ وجهه الراضي ساخطاً. والزوجة التي كانت تقف أمام مائدة الزوج (كالعادة)، بإنحناء ينمُّ عن خشيةٍ لا بدافع الخوف إنما بدافع حُبّ إبقاء الزوج رائق المزاج كما هو.. بعدما قام الزوج عن مائدته، تراجعت الزوجة خطوتين للوراء، وضمّت يديها لصدرها كأنها خشيت أن تُصفع.. خمسُ دقائق من الجَلبة والتحرك بين الغرف والخروج مرتين لخارج البيت بَحثاً عن المفقودة.. اخيراً إتكأ فاضل ووجهه الذي صار مهموما.. حائراً. إتكأ على حائط "البرندى"، والزوجة واقفةٌ أمامه، تبدو له وهي في ظُلام فسحة الباب، تبدو ككُتلةً كريهة.. جامدة بلا ملامح كأنها تنتظرُ.. لا شيء سوى أن ينتهي الزوج لشيء تخافه دون أن تُدركه، ولأن التوقيت شتويّ، والساعة قد تجاوزت الخامسةُ مساء، سارع فاضل لأن يُبادر بلا إبطاء.. لأيّ أمر ؟ لا يعلم على وجه الدقة ! لكن لا وقت للإنتظار.
وعندما استقرّ في شاحنته، إتصلّ بالشخص الوحيد الذي يُمكن أن لا يخجل منه.. لأن الأمر أشبه بفضيحة. وذلك الشخص هو العم حسن وهو أصغر أعمامه، وهو كفاضل تماما.. مُتدين من ناحية مظهره الخارجيّ، ومُطلقاً لحيته، ومُرتدياً (دائما) ثوب أبيض قصير، وهو أقلُّ بشاشةً من ابن أخيه، ولحسنٌ زوجتين.. يذكر دائما أثناء مُزاحه مع الرفاق، بأن شيب شعره، سببهُ ليس عمره الذي قارب الخمسين بل زوجتيّه وحسب.. ويحمد الله على نعمه التي لا تُعد ولا تُحصى، رغم أنه مُعدمٌ ماديا، كحقيقةٍ يأبى الإعتراف بها حتى لنفسه..
كأن الشفقُ يتضائلُ غرباً، وشاحنةُ فاضل تجوبُ الأرجاء.. أُخبرَ الرجليّن من عمّال أحد المصانع بأنهم رأوا إمرأة كما وصفها فاضلٌ لهم:"حُرمة.. مخمّره.. حركتها مش طبيعية.."، وتسائل فاضل حينذاك، لماذا يُصرّ على أنها مُخمرة ؟ يُمكن لم ترتدي خمارها عندما خرجت؟ وأحسَّ بإختناق يملأ صدره.
رأوها تمشي جهة الشرق، وتُحرك يديها عالياً وفي كل الجهات.. وأغلب الظن بأنها كانت ترتدي خماراً أسود(وهُنا إطمئن صدر أخوها).. كانت وكأنها لا تنتبه لشيء أمامها فقط تسير ولا تنعطف إلّا إذا وجهها حائطٌ ما. قبل ساعة رآها العُمال، ولذلك بدأ الرجليّن بالبحث الميداني بالقرب من ذلك المكان.. وكان فاضل هو الذي يسئل الناس عن أخته.. وكان "يرتبك" ويُكرر لفظ "حُرمة" مرتين او ثلاث.. ويُؤكد بأنها تلبس خمارا أسود كامل.. وبأنها "مش عاقلة"، وعمّه كان كالذي أُلتبسَّ عليه او يكاد ينهار بهدوء.. يسترقُ السمع، وينتبهُ لأقوال الذي يُجيبون عن اسئلة فاضل، وهو جالس في مقعده لا يُبارحهُ.. وقد بارحهُ بعدما خيّم الليل.
آخر الذين سُئلوا بشأن "الحُرمة المفقودة"، كانَ أحد حُراس المصانع، وهو رجلٌ يُقال بأنه تجاوز السبعين من عمره، وهو يُؤكد كُلما سُئل بأن عمره تسعةٌ وستون عاما.. وكان للفظ "حُرمة" من فمِ فاضل وَقعٌ في نفسه.. كأنه يسمعه لأول مرة!
هو لم يرى أي امرأة في الأرجاء منذ ساعة، والساعة كانت التاسعة والنصف عندما جاءه الرجلان.. وعندما أكد الشيخ الشاب بأنها رُؤيت قُرب هذا المكان تقريبا في الساعة السادسة.. أحسَّ الرجل بمرارةٍ وعجز عن طَمئنةِ هذا الشاب الذي يبدو رابط الجأش مع أن الجزع يتقاذف من عينيه، ومن وراءه في كرسي الشاحنة يجلس شبيهه المُستطلع بنهم.. وتذكر بأنه رأى وانتبه لإمراة تضع خمارا اسودا على وجهها وعباءتها ليست سوداء.. كانت تجري بطريقةٍ تبدو بلهاء وراء رجل يتقدمها بضعة خطوات.. مرتين رآها في مكانين مُختلفين، وقد أذهلته سرعتهما في المشي نحو.. كان المشهد عفوي، زوجيّن آثرا المشيّ (في هذا الجو البارد)، على إنتظار باصات لا يعلم إلا الله مواعيدها!. تذكر ذلك المشهد الآن بإنطباع مَهولٌ.. مُرعب.. وتحدث بما رآى للشاب، ولكن تلك المرأة لم تكن ترتدي خماراً أسود كامل؟!، سارع الشاب كأنه -فُهم غلط- يوضّح للحارس.. فلا المكان مُتوقع ولا اللبس مُتطابق.. غادرَ الباحثيّن.. وعاد الرجل الكهلّ لكوخ الحراسة، يُفكر في فظاعة الموقف وقد صار مُؤخراً، يجدُ نفسه حائرا أمام تناقضات هذا العصر.. فمتى صارَ كلّ هذا ؟ وكيف؟؟
ففي زمانٍ بعيد كانَ كُل شيء معقول.. مفهوم.. لأنه لم يكن يُثير الاحتمالات، لم يكن هناك شيء يحمل عدة تفسيرات كلّها صحيحة وتستطيع إن أردت ذلك بأن تجعلها خاطئة ! لأن الموقف في مُجمله بسيط، ولكن هو أعقد مما نتوقع! وتذكر لا يدري لماذا، عمتهُ التي رَفضت خُطّابها وكانت في بعض الأحيان، عندما يكون والدها غائباً عن البيت، كيف كانت تستقبل ضيوف والدها وتُرحب بهم، وتجُلسهم في شِقّ البيت المُخصص لهم.. وتُضيّفهم وتُخاطبهم بصوتٍ عادي، كان جدهُ لا يُناديها بـ "حُرمة" بل بـ "تَرفة".
هاشم عبدالله 2017/11/28
فُقدت "الحُرمة" عصراً. في أول الأمر لم تَشعر زوجة فاضل بإختفاء الحُرمة، ولكن مع مرور الوقت بدأ ذهن الزوجة يتوجس حدوث شيء غير عادي.. فظيع.. لا تدري ما هيّتهُ. فزوجها سيعود بعد قليل من عمله (الخاص)، وقد جهزت "غدائه العشائيّ". وأتمّت ترتيب فوضى البيت الأبدية. وغيّرت لبسها الذي عَشقت بهِ رائحة البصل والزيت المقلي.. وجاهدت مع أبنائها كالعادة في إقناعهم بأن الأكل لذيذ.. ألّذُ من شيبس ليز وعصير مُنعش.. ولا خروج للعب الّا بعد حلّ الواجبات، وليتهم يَفهمون بإنها ليست مُعلمة، ليفترضوا منها إجابةً لكلِّ سؤالٍ يطرحونه كـ (125×24÷5)، وقيمة س و ص.
عاد الزوج للمنزل كالعادة، باشّاً.. مُتهلهلاً.. وجهه عندما يكون صافيا بلا ايّ إنفعال، يُثير في النفس شعوراً بالهدوء.. وما أن ينفعل حتى ولو بإبتسامةٍ تجعل الناظر إليه، يُشفقُ عليه. وبعد نصف الساعة كان فاضل يجلس أمام مائدةُ غداءه المُتأخر، وقد اعتاد أن يسأل عن أخته دون أن ينتظر جواباً، ولكن هذه المرة وَجد وجه زوجته يتحول.. لا يبتسم ذلك الوجه، ويقول: "بغرفتها.."، بل صار وجهها "مُستفهماً"..
قامَ الزوج كملسوع وصارَ وجهه الراضي ساخطاً. والزوجة التي كانت تقف أمام مائدة الزوج (كالعادة)، بإنحناء ينمُّ عن خشيةٍ لا بدافع الخوف إنما بدافع حُبّ إبقاء الزوج رائق المزاج كما هو.. بعدما قام الزوج عن مائدته، تراجعت الزوجة خطوتين للوراء، وضمّت يديها لصدرها كأنها خشيت أن تُصفع.. خمسُ دقائق من الجَلبة والتحرك بين الغرف والخروج مرتين لخارج البيت بَحثاً عن المفقودة.. اخيراً إتكأ فاضل ووجهه الذي صار مهموما.. حائراً. إتكأ على حائط "البرندى"، والزوجة واقفةٌ أمامه، تبدو له وهي في ظُلام فسحة الباب، تبدو ككُتلةً كريهة.. جامدة بلا ملامح كأنها تنتظرُ.. لا شيء سوى أن ينتهي الزوج لشيء تخافه دون أن تُدركه، ولأن التوقيت شتويّ، والساعة قد تجاوزت الخامسةُ مساء، سارع فاضل لأن يُبادر بلا إبطاء.. لأيّ أمر ؟ لا يعلم على وجه الدقة ! لكن لا وقت للإنتظار.
وعندما استقرّ في شاحنته، إتصلّ بالشخص الوحيد الذي يُمكن أن لا يخجل منه.. لأن الأمر أشبه بفضيحة. وذلك الشخص هو العم حسن وهو أصغر أعمامه، وهو كفاضل تماما.. مُتدين من ناحية مظهره الخارجيّ، ومُطلقاً لحيته، ومُرتدياً (دائما) ثوب أبيض قصير، وهو أقلُّ بشاشةً من ابن أخيه، ولحسنٌ زوجتين.. يذكر دائما أثناء مُزاحه مع الرفاق، بأن شيب شعره، سببهُ ليس عمره الذي قارب الخمسين بل زوجتيّه وحسب.. ويحمد الله على نعمه التي لا تُعد ولا تُحصى، رغم أنه مُعدمٌ ماديا، كحقيقةٍ يأبى الإعتراف بها حتى لنفسه..
كأن الشفقُ يتضائلُ غرباً، وشاحنةُ فاضل تجوبُ الأرجاء.. أُخبرَ الرجليّن من عمّال أحد المصانع بأنهم رأوا إمرأة كما وصفها فاضلٌ لهم:"حُرمة.. مخمّره.. حركتها مش طبيعية.."، وتسائل فاضل حينذاك، لماذا يُصرّ على أنها مُخمرة ؟ يُمكن لم ترتدي خمارها عندما خرجت؟ وأحسَّ بإختناق يملأ صدره.
رأوها تمشي جهة الشرق، وتُحرك يديها عالياً وفي كل الجهات.. وأغلب الظن بأنها كانت ترتدي خماراً أسود(وهُنا إطمئن صدر أخوها).. كانت وكأنها لا تنتبه لشيء أمامها فقط تسير ولا تنعطف إلّا إذا وجهها حائطٌ ما. قبل ساعة رآها العُمال، ولذلك بدأ الرجليّن بالبحث الميداني بالقرب من ذلك المكان.. وكان فاضل هو الذي يسئل الناس عن أخته.. وكان "يرتبك" ويُكرر لفظ "حُرمة" مرتين او ثلاث.. ويُؤكد بأنها تلبس خمارا أسود كامل.. وبأنها "مش عاقلة"، وعمّه كان كالذي أُلتبسَّ عليه او يكاد ينهار بهدوء.. يسترقُ السمع، وينتبهُ لأقوال الذي يُجيبون عن اسئلة فاضل، وهو جالس في مقعده لا يُبارحهُ.. وقد بارحهُ بعدما خيّم الليل.
آخر الذين سُئلوا بشأن "الحُرمة المفقودة"، كانَ أحد حُراس المصانع، وهو رجلٌ يُقال بأنه تجاوز السبعين من عمره، وهو يُؤكد كُلما سُئل بأن عمره تسعةٌ وستون عاما.. وكان للفظ "حُرمة" من فمِ فاضل وَقعٌ في نفسه.. كأنه يسمعه لأول مرة!
هو لم يرى أي امرأة في الأرجاء منذ ساعة، والساعة كانت التاسعة والنصف عندما جاءه الرجلان.. وعندما أكد الشيخ الشاب بأنها رُؤيت قُرب هذا المكان تقريبا في الساعة السادسة.. أحسَّ الرجل بمرارةٍ وعجز عن طَمئنةِ هذا الشاب الذي يبدو رابط الجأش مع أن الجزع يتقاذف من عينيه، ومن وراءه في كرسي الشاحنة يجلس شبيهه المُستطلع بنهم.. وتذكر بأنه رأى وانتبه لإمراة تضع خمارا اسودا على وجهها وعباءتها ليست سوداء.. كانت تجري بطريقةٍ تبدو بلهاء وراء رجل يتقدمها بضعة خطوات.. مرتين رآها في مكانين مُختلفين، وقد أذهلته سرعتهما في المشي نحو.. كان المشهد عفوي، زوجيّن آثرا المشيّ (في هذا الجو البارد)، على إنتظار باصات لا يعلم إلا الله مواعيدها!. تذكر ذلك المشهد الآن بإنطباع مَهولٌ.. مُرعب.. وتحدث بما رآى للشاب، ولكن تلك المرأة لم تكن ترتدي خماراً أسود كامل؟!، سارع الشاب كأنه -فُهم غلط- يوضّح للحارس.. فلا المكان مُتوقع ولا اللبس مُتطابق.. غادرَ الباحثيّن.. وعاد الرجل الكهلّ لكوخ الحراسة، يُفكر في فظاعة الموقف وقد صار مُؤخراً، يجدُ نفسه حائرا أمام تناقضات هذا العصر.. فمتى صارَ كلّ هذا ؟ وكيف؟؟
ففي زمانٍ بعيد كانَ كُل شيء معقول.. مفهوم.. لأنه لم يكن يُثير الاحتمالات، لم يكن هناك شيء يحمل عدة تفسيرات كلّها صحيحة وتستطيع إن أردت ذلك بأن تجعلها خاطئة ! لأن الموقف في مُجمله بسيط، ولكن هو أعقد مما نتوقع! وتذكر لا يدري لماذا، عمتهُ التي رَفضت خُطّابها وكانت في بعض الأحيان، عندما يكون والدها غائباً عن البيت، كيف كانت تستقبل ضيوف والدها وتُرحب بهم، وتجُلسهم في شِقّ البيت المُخصص لهم.. وتُضيّفهم وتُخاطبهم بصوتٍ عادي، كان جدهُ لا يُناديها بـ "حُرمة" بل بـ "تَرفة".
هاشم عبدالله 2017/11/28
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق