الجمعة، 27 سبتمبر 2019

أشجان أيلولية... نهايات!

يجب أن أكتب،
ولأن في رأسي "إزدحام" أفكار. أجدني بلا مِداد لغوي... كلماتي مُبعثرة وبعيدة وباردة.

وتُؤلمني الأفكار/الكلمات، لا أتفهمُّ "إزدحامي"، لا أقول لنفسي:"ربما أنا بحاجة أن لا أكتب... وجوب الكتابة ليس إلا عبئ وهمي ثقيل"... لا أقول ذلك، بل أستمر في مُحاولة تخفيف الإزدحام / ترتيب الكلمات... أحيانًا أنجحُ في ترتيبها وصياغة شكل لغوي أعتقد بأنه جميل، ودائمًا أشعرُ بالفشل وبأنني خسرتُ المحاولة... بأن ثمة ملل/سأم شديديّن، بدأ يتسللُ إليّ من ثغرات فشلي المُستمر، ومخاوفي ومواقفي تملأ لحظاتي بقَلق ضائع في ظُلمة داخلي.. وفي ظُلمتي أضيع، وأتيه. أتلمسُ الجدران والظلامُ يُغرقني تمامًا...!

كيف للإنسان أن يتجاوز حدوده؟ أن يقف أمام مرآة، تعكس صورتهُ كما هو، دون أن يخجل/يكره/يهرب منهُ؟
مَن يحتمل أن يكون آثمًا، بلا مُبررات، بلا سبب؟
أن يعترف بالخطأ وأن لا يبحث عن "حُرية الإثم"؟!
نحنُ غارقون تماماً بالمفاهيم والقواعد والصور النمطية. ندّعي غير الحقيقة، لأن الحقيقة عادةً لا تناسبنا... ليست سوى واقع مرفوض، وندّعي الأشياء التي تُحصننا من "خوف عظيم" نعيشُ هاربين منه ولم نُفكر لحظة بأنه ربما غير موجود، ربما كلُّ خوفنا وهمٌ غرقنا به... تدريجيًا أو فجأة غرقنا، المُهم بأن "الغرق" صارَ هو الواقع. 

***

تدارك... أعدّ النظر مُجددًا، وتجاوز حدودك.

 غادر مكانك، لا سقف فوقك إلا السماء، والسماء ليست سقفك، ولا جُدران حولك،

التغيير مرهونٌ بالحركة. لن تتحرك إلا بقوة، والقوة هُنا داخلية... تملأ داخلك، لتُنهي حالة "الخمول" تلك الحالة التي قيّدتك والتي سجنتك تحت سقف واطئ وإن لم يلمس أعلى رأسك، وجُدران... يا رفيقي الجُدران كثيرة منها: الخوف الدفين... والوهم الطاغي!

والسقف، واحد... لونهُ أبيض مثلًا، ويمنع رؤيتك للفضاء فوقك، الفضاء الشاسع... السقف يهبطُ عليك بفكرة مفادها: أنت لا تستطيع الطيران وإن حاولت وأجتهدت، وأنا أحميك؛ من حرارة الشمس... من المطر... من الليل... والبرد...!
إعادة النظر تعني إحتمال وجود خطأ ما... لذلك هي فعل مُرعب،
إعادة النظر تعني إمكانية تحمّل مسؤولية، وتغيير ما نعتقدها:"ثوابت"!

***
مُرعب أن "يُحبّك" أحدهم. أن تكون إحتمال؛ خيبة، جُرح، جبان، مُتردد... أن، ربما تُبادل الحُب، تتقبل محبة أحدهم، وتجد في قلبك حبًا له، يُكبر، يتضاعف، وينمو ويترعرع، ولكن هل أن تكون مَحبوبًا هو أمرٌ مُرعب؟
مُرعبٌ ربما لمن يُدرك الحُب وكيف تكون مُحبًا، مُرعب لأنك أصبحت فجأة؛ فرصة/هدف، يسعى أحدهم لتحقيقها، ملاذه الآمن دون أن تعرف كيف ولماذا، 
وكيف لا تنمو فيك بذرة الغرور والكِبر... كيف ستواجه هذه المحبة دون أن تكون "خيبة ظن"؟؟

لأنها أحبتك، ولأنك الآن أنت محبوبٌ جدًا، ربما هي أحبتك لشهور لأعوام، قبل أن تتجرأ وتعترف لك... ربما كان إعترافها كأنه "إنتحار" هُناك أمل بأنه سيفشل!
أحبتك في أحلامها، وفي أوهامها... أوجدتك في عالم آخر، أنت فيه أميرٌ وهي أميره، أنتما، حبيبيّن عاشقيّن(جدًا)، نحن لسنا مسؤولون عن توقعات الآخرين، نعم... ولكن كيف ستتقبل بأن تكون محبوبًا؟
أن تكون مُحبًا أمر عاديّ/مقبول للنفس أن تُحب... بل ومُريح جدًا، والفاعل لا يُقارن بالمفعول به!

عندما تكون محبوبًا، هو إمتحان مُفاجئ لإنسانيتك وشرفك؛ صدقك وأمانتك وشجاعتك، ومعظم الناس يفشلون في أن يكونون محبوبين، ليس لأنهم سيئون، ولا لأن المُحب أحمق/ساذج... بل لأن المُحَب لا يُمكن إلا أن يكون مَلاكًا ليكون بالفعل يستحق الحُب،  ولعلنا هُنا تجاوزنا إنسانيتنا ووصمنا الإنسان، بالملائكية أو الشيطانية، ولم نُدرك ما هو "الإنسان" حقًا... 
***

2019/9/21

لماذا لا تغضب...؟ أنت غاضب. لماذا تسكت؟ هل تخاف؟ ممَ أنت خائف؟!
إغضب... إغضب يا شعب، هذا زمنُ الغضب، لن تموت بعد الآن إن غضبتْ... سرقوك... سرقوا ماءك ورغيفك... باعوك (أنت الوطن)... داسوا كرامتك وشوّهوك... صرتَ رقمًا في سجلاتهم، مُجرد رقم بلا قيمة إلا قية الضريبة المفروضة عليك عنوةً... لتمت بحادث سير... بجلطة قلب مُرهق أو دماغ مُترع، بتفكيرك الدائم بلقمة عيشك المسروق... مُت أنت-شعب، شعبٌ صيّروك عبدًا صاغرًا ينحني برأسه في حضرة سيّده الأبديّ... ليس سيّدك أبديًا، أنت واهم.. مخدوع... أكفر-ألحد-حطّم صورة الإله... حطّم صورة جلالة الملك/الزعيم الخالد/سيادة الرئيس... لا تسجد/لا تركع/لا تخنع، إن مُتَّ واقفًا... صارخًا في وجه الظُلم... ثائرًا لإسترداد كرامتك، أنت شهيدٌ؛ إن مُتَّ كذلك. أنت خالد، لن تموت.. أنت حيٌ للأبد، لن تُنسى كموت رقم ودفنه في مقبرة جماعية للأرقام.

تجاوز خوفك الدفين-الموروث. موتك اليوميّ، ألم تسأمه؟ ألم تسأم سجنك الأبديّ؟! لم يُؤلمك بعدُ عمودك الفقريّ؟ ألم تتعب من سجودك الدائم... ألم تكره وجهك في المرآة... وجهك المليء بالخوف والخيبة والخُذلان وبقايا أرقكّ المرضيّ، لأنك تُفكر بالغد والأمس ووجودك البائس... وجودك الحتميّ المُفضي للعبودية والهرب المُستمر من سؤال عقلك:"لماذا تعيش؟".
تعيشُ هاربًا من الحُب.. من الحقيقة والبحث عنها... منك... من وجوه أقرانك... من الشوارع المُزدحمة بالأرقام الشمالية... من وجه البناية القديم والمُتهالك، من ساعة يدك المتوقفة منذ ولادتك حتى وفاتك،
لماذا لا تثور؟ كم أمضيت في هذه الحياة صامتًا وخائف؟
عمرك، عشرين أو لم تتجاوزه بعد، مخاوفك تتجسد في لامسؤولية وفراغ وجداني مُؤلم!

عمرك، تسعين، أو أقلَّ من ذلك بقليل، عشتَ حياةً دائرية/دائرة واحدة تدور وتدور، ولا تتحطم من دورانها... لا تغضب من دورانها العبثيّ،
 لماذا لا تثور؟
 تخافُ العبارة، مُرعبة هي الثورة لأنها ثورة... أربعة حروف تُرعب أصنام، تصورت نفسها آلهة... على وقع "ثورة" وبها، تتحطم الأصنام... تُصبح هشيمًا تذروه الرياح، تُنسى لأنها لم تكن، سوى أصنام تظنُّ نفسها آلهة، لنقلّ:"غضبة" بدلًا من "ثورة"... لنقلّ أيُّ كلمة تصف "عدم السكوت... عدم الخوف/تجاوز دوائر الخوف المدفون في الأعماق..." صدقوني لا تهمّ الأسامي، الأسامي عبودية لغوية،
هل الحُرية خطيئة؟
 في كتب السماء والأرض، هل ثمة لعنة/خطيئة إسمها "حرية"؟
تحرر يا سجين... غادر حُجرة سجانك، غادر سقفك اللعين وجدرانك الصمّاء، مُت شهيدًا... مُت غاضبًا، ففي أوطاننا الموتُ حياة! 

***

مللتُ كل شيء... مللتُ هذا العام قبل إنتهاءه ومللت العام القادم، مللت الأمس والغد والآن...! 1:06ص.

الحزن يملأ الأرجاء والزيف أيضًا؟ ما هو "الزيف"؟

صراعٌ مُستمر وتكرار وتداعي للانهاية... صعود وهبوط... تكرار... موت كبير يبتلع حيواتٌ صغار، تكرار... تكرار... اللعنة على التكرار، والدائرة ملعونة والمُربع أيضاً... 
الخوف يمتدُّ كضباب، والشمس ضعيفة لا تستطيع شيء... ولا شيء.

اللهُ في مهب الريح...!

كل شيء هُنا... بلا معنى تمامًا... هُنا ثمة لا معنى كبير!

لماذا الحُب في هذا العالم الرديء؟ 
لأن العالم ليس إلا فوضى رتيبة ومُستمرة، رُغمًا عنك وعن مُحاولاتك ترتيب الفوضى من حَولك... الفوضى حولك حتمية، والحُب إختيار، أن تُحب يعني أن تكون شُجاعًا، أن تتقبل غُربتك وأن تعيك... كأنك تقف أمام مرآة تكشفك، 
ربما الحُب ليس فعلًا واقعيًا، وهو مُجرد وهم أو كذبة تعيشها... شيءٌ من أعماقك يقول، أحيانًا يصرخ أو يبكي: أنت تعيش كذبة كبيرة، أنظر للحقيقة من حولك، ليس ثمة حُب، كل شيء يسير بشكل كريه و... وهُنا تكون "أو لا تكون"، كيف ستخرج من تلك المتاهة دون أن تُصبح عبدًا للفوضى والكراهية، كيف ستستخدم الحُب كوسيلة نجاة من حتمية الموت؛ بحيث تتحول لكائن ميت/حيّ؟!

الحُب هو وسيلتنا الوحيدة للنجاة، إن أردنا النجاة. 
الحُب سيُرتب فوضى الخارج وينعكس ذلك الترتيب على الداخل، وتستتب حالة الترتيب في النهاية... كل شيء مُرتب*هذه الكلمات كتبتها وأنا في حالة نُعاس هذياني، وبعد يوم طويل وشاق إنتهى بوقوفي جوار فتاتي(سارة) وإلى الآن أرى ضحكتها وعيونها المُشتعلة والطفولية... والآن سأنام. 

***

كفكف دموعك وأنهض. إصعد أو إهبط... تقدم وتراجع، حاول... وأستسلم، وعَشْ فقط بلا مُبررات ولا تفسير ولا تعليل، دع الأشياء تتداعى كما الأفكار التي تنهمر ولا تسقط... لا ترتطم الأفكار بالقاع أو بالسقف أو بالجُدران الجانبية. تطير الأفكار وتتكاثر وتتشرذم

لا تضع بعد الكلمة الأخيرة ثلاثة نقاط أو أربعة أو سبعة. ضع نقطة بدل فاصلة، لا تهتم بالترتيب. دع الكلمات تتناثر على الصفحة، دعها تتماسك أو تذوب. دعها تطير للأعلى أو للأسفل، دعك من مُحاولة تجميل القبيح وتقبيح الجميل والحُكم على الأشياء والبحث عن معانيها.

وأغرق لتنجو وتبحث عن أسباب غرقك لتكفَّ عن البحث وتغرق مُجددًا وتنجو، تخيّل نفسك طائر حُر أو شجرة باسقة أو جدار قديم... تخيّل حياةً موازية... حياة وردية أو سوداء، تخيّل وفاتك غريبًا أو مقتولًا لسبب ما، مثلًا: إغتيالك. لأنك مُزعج لمُستبد ما، مصدر إزعاج، كُن كذلك، أو كُن لاشيء، اللاشيء شيء، والإزعاج فعلٌ لهُ وزنه. والوزن رقم، مثلاً 2 كيلو جرام... ونحن أرقام في سجلات الحكومة، ولنا وزننا الغير ثقيل، لأننا هواء... شيءٌ بلا كُتلة ولهُ وزن لا يقل عن 40 كيلو جرام... تخيّل! شيء وزنه 63 وبلا كُتلة، مُجرد لا شيء! 
كم وزن هذه القطعان البشرية؟! 
كم وزن المواطنين؟! 
***

خطيبُ الجُمعة يتحدث، وأسمعهُ مُرغمًا لأنني لستُ أطرش... بدأ خطبته بتلك العبارة المُكررة التي تنتهي بأما بعد.
عن الشُبهات والتغرير بالشباب تحديدًا يتحدث الخطيب، وأنا أراه دون أن أراهُ واقفًا على المنبر، مُمسكًا ورقة ويقرأ "خطبته" المُملة... إسبوعيًا تتكرر الحكاية. يجتمع الناس ليجلسون ويسمعون الخطبة، ويُغادرون... مجموعة بشرية ضمن مجموعات مُتشابهة، تُكوّن أمة السامعين الصامتين... والسامع الصامت، يملُّ ولا يُنصت، بل ينتظر نهاية اللحظة المُملة/المكرورة، بفارغ الصبر... كم نصبر. لأننا نعتقد بأننا لا نملك خيارًا آخر.

حدّثني يا هذا عن غرابة عالمنا ورداءة الواقع... حدّثني عن الغد المجهول والمُرعب، عن فوضى اليوم وأخطاء الأمس المُستمرة، وعن وجودنا العبثيّ، أخبرني بأننا نواجه المُستقبل بلا قوة ولا عتاد... وبأننا نتهيأ لهزيمة حتمية! 

لا تستعجل، أنت الآن تُرتل بصوت واهن آيات قرآنية َوتركع ليركع المُصلون معك وتسجدون، وتهربون من قصر الله للبيوت التي تكرهونها... للأرض المقتولة، ولجثث الأشجار الهزيلة.


الأربعاء، 18 سبتمبر 2019

من قرية الدهيثم/الحلابات إلى كليات جامعية (علّان، عجلون)

أجلسُ على الأريكة في غرفتي وهي مضافة بيتنا أيضًا، جاهز للذهاب للجامعة أقصد الكلية الجامعية... كان حُلمي علم الاجتماع/جامعة اليرموك، ونتيجة القبول التنافسي:"الخدمة الإجتماعية/كلية الأميرة رحمة الجامعية"، ولا بأس... الآن أنا عاطلٌ عن العمل وطالبٌ جامعي، وعندي أمل كبير ولا يحتمل الشك أن أصل الجامعة قبل المحاضرة الأولى "مهارات الاتصال" والتي تبدأ في الساعة التاسعة والنصف، الكلية وليست الجامعة للتصحيح...

الساعةُ أمامي على الحائط تتحرك ببطئ... لا تتحرك، قبل نصف ساعة كانت العقارب تُشير للسادسة وأربعون دقيقة والآن تُشير إلى السادسة وأربعون دقيقة، اللعنة تتنزل وتلتصق بالعقارب كبيرها وصغيرها...
سأذهب إلى السلط تحديداً منطقة علّان مواصلات ولأول مرة في تاريخي، واليوم الإثنين هو اليوم الأول في الجامعة، ولهذا اليوم خصوصيته...
الشمسُ لم تُشرق بعد. وغادرت البيت، لماذا تتأخر الأشياء التي ننتظرها بفارغ الصبر، هل للإنتظار المُضني دورٌ في تأخرها؟ كما هي حالتي الآن في إنتظار باص قريتنا اللعين.

وصلتُ المُجمع القديم، ومن ثم إستخدمتُ باص ليوصلني للمُجمع الجديد، والسؤال الذي يُدمدمُ في رأسي، أين الباصات التي تُوصلُ للجامعة أقصد للكلية....؟
صعدت في باص الزرقاء-صويلح، ولم أجد مقعد. جلستُ على درج الباب، أنظر للخارج، وتملأني الأسئلة والهواجس.
وكما عادتهُ أوتستراد عمان/الزرقاء مُزدحم ومشوار النصف ساعة مثلاً يأخذ ساعتين، ويمشي الوقت بسرعة، وفي منتصف الطريق وعند المدينة الرياضية تقريبًا، أيقنتُ بأنني لن ألحق مُحاضرتي الأولى...
قبل ذلك، وعند جسر البيبسي، توقف الباص وإنفتحت الأبواب الإلكترونية كأنها أنياب حيوان مُفترس، لإنزال راكب، ونهضت فتاة كانت تجلس قُرب الباب الذي أجلس على درجه... بالمُناسبة انا أجلس في منتصف الباص ولم ينتابني سوى شعور بالبلادة والقرف... كان يجلس بجواري شاب ضائع في عالم آخر، نزلت الفتاة وأنغلق الباب على رأسها. دوّى صراخها، ولثوانٍ أحسستُ بأن ما يحدث ليس سوى حُلم... وكل الذي حدث كان لحظة، تحرر رأس الفتاة من الباب، وجلست مُمسكة رأسها، تذكرت بأنني أحمل قنينة ماء، ناولتها القنينة وصمت كل شيء، الركاب ذاهلون، صامتون كفزاعات... كأن طيورًا تقف على رؤوسهم!، نهضت الفتاة وبدأت تشتم السائق... وأنتهت اللحظة،
بقيت عالقًا، في تلك اللحظة. كنت قد جلست في مقعد، وبجانبي النافذة، وكل شيء أراه، كان يبدو غريبًا... لا يعنيني بشيء، نسيت المحاضرة والكلية و... كان المُستحيل يُحاصرني، ولم أتحرر منه إلا عند دوار صويلح،

ووجدتني جالسًا في باص جديد. لم أنتبه للخارج، صعدنا... هبطنا... إلتففنا كثيرًا، وفجأة وجدتني عند الكلية، والساعة تُشير للعاشرة وشيء، وكان الخواء واللاشيء يملؤني، كان النهارُ كأنه إنتهى... وبأنني بحاجة نوم عميق، ولم أنم بل بدأت إكتشاف الكلية، وأين قاعات محاضراتي...

ذلك اليوم الأول كان أبيض ثقيل وواضح، الآن بعد مرور أكثر من عام وأستذكر... لا تفوتني حتى التفاصيل: كيف دخلت إلى الكلية وأستوقفني عند البوابة الرئيسية والوحيدة رجل الأمن، كان بشوشًا وأنا كنت مُستعجل جدًا، أخرجت البطاقة الجامعية ورآها وحيّاني ومضيت... لم أدخل قبل ذلك أيّ جامعة إلا آل البيت دخلتها قبل أيام لحضور تخريج قريبي، وهذه الكلية لا تُشبه آل البيت كونها صورة الجامعة الطبيعية في رأسي، صدمني هذا الأمر مع أنني كنت أدرك بأنها كلية وليست جامعة... في خمسة دقائق كنت قد أنهيت جولتي في الكلية، وبعد ذلك عرفت أماكن محاضراتي(مدخل إلى علم الاجتماع، ومهارات التواصل الآن أتذكر بأنها كانت آخر محاضرة وليست الأولى، وإنجليزي 99 ومادة نسيتها الآن...)
مرّت اللحظات بسرعة، وبعد آخر محاضرة، جلستُ في مكان بين مبنى العمادة والكُلية، لآكل حبات بسكوت وكنت أفكر بالصلاة.. صلاة الظهر على الأقل قبل مُغادرتي، ولكن أين الطلاب؟
فجأة لم غادر الجميع، و عندما نهضت لأدخل الكلية وأجد حمام لأتوضأ... رأيت جموع غفيرة من الطلاب يقفون عند البوابة الوحيدة، وأحسستُ بالوحدة الباردة... وبأنني ربما لو تأخرت خمسة دقائق، سأُنسى هُنا!
غذذتُ الخُطى نحو البوابة، وكان باص يقف بين جموع الطلبة وهو مُمتلأ تمامًا، وناداني:"صويلح يلا صويلح..." ووجدتني في مُنتصف الباص أقف، بين أجساد كثيرة،

وصلتُ صويلح بعد غروب الشمس، ووجدت باص الزرقاء وصعدت وجلست... كان رأسي محموم ومليء، كانت روحي قد تضائلت وأنكمشت، وصار الفراغ داخلي مُؤلمًا... ساعة أو أكثر، حتى وصلت مجمع الزرقاء، كان الليل قد هَبط من زمان... كنت بحاجة الصلاة، ومن المجمع الجديد مشيًا على الأقدام إلى المجمع القديم،
صليت الظهر والعصر والمغرب والعشاء... وغادرتُ فاقدًا للأمل بأن أجد باص "حلابات"، وجدتُ باص قريتي!
أذكر بأنني جلستُ في مقعدي، وشعورٌ باللافهم يلتهمني، كنتُ حزينًا ومُحبطًا ومُرهقًا جدًا، في ذلك النهار لم أجد وقت للتدخين حتى! وها أنا في الباص أنتظر أن يتحرك، وألعن في داخلي كل شيء، خصوصًا المواصلات وقريتي البعيدة ووجوه الناس... وكانت الحيرة من كيف سأستمر بهذا العذاب تطوحني في كل الأماكن وكانت فكرة تنبضُ في رأسي بقوة تتناقض مع تلك الحيرة المُرة:"كل شيء سيكون على ما يُرام"!

إلى عجلون...

اليوم الأربعاء. اليوم الثاني لدوامي بالكلية... لم أذهب مواصلات. فقد كان والدي سيذهب إلى جامعة البلقاء في السلط ليُنجز أوراق المنحة/المكرمة الدراسية،
وصلنا الكلية في الوقت المُناسب، تقريباً الساعة التاسعة وشوي، وكنا قد فكرنا أنا وأبي بكلية عجلون الجامعية، كخيار أفضل من هذه الكلية. لإعتقادنا بأن مواصلاتها أفضل... وبالفعل وأنا في المحاضرة الأولى "مدخل إلى علم الاجتماع" وفي نهايتها، رأيت أبي ينتظرني عند الباب، خرجتُ إليه وبشرني بإمكانية النقل إلى عجلون دون أي تعقيد وإجراءات... غادرنا علّان لعجلون،

وصلنا كلية عجلون بعد مشوار طويل، وكنتُ قد تحررت من شعور تملكني منذ يوم الاثنين، شعور فظيع بالمستحيل والحُزن!
نفس التخصص، الخدمة الإجتماعية، ولكن هذه المرة في كلية عجلون الجامعية...

لم تكن المواصلات مُيسرة،.. كنت لألحق محاضرتي الأولى (رياضة وصحة للجميع، الساعة 9:30)، عليّ أن أخرج من الساعة السادسة صباحًا... باص قريتنا لا يأتي إلا في السابعة، وكان لي إبن عم يعمل مُدرسًا في ماركا ويُغادر القرية بسيارته (البكم) عند السادسة...

بعد أربعاء النقل لعجلون، وإتمام تسجيلي هُناك، تسللت طمأنينة خفيفة إليّ... لن أعود لأركب باص صويلح، والذي يختنق وهو يمشي خببًا، في شارع الاوتستراد، لن أصل لنهاية العالم حيث الكلية... كلية رحمة،

كنتُ أظن، وكم خاب ظننا...؟ لو أننا نتوقف عن الظن ونبحث عن الشيء الحقيقي لجنبنا أنفسنا كثيراً من المصاعب!
كان ظنّي بأن في مُجمع الزرقاء القديم، باصات لعجلون.. أصعد في أحدها ويمضي في شارع بلا أزمات وإختناقات مرورية! 
نزلت من باص قريتنا، والساعة تُشير إلى الثامنة إلا شيء... ورحتُ أبحث عن باصات عجلون، ووجدت باص وحيد يقف خاويًا... كأنه هُنا منذ بدء الخليقة! 
صعدت وجلست، لا يوجد ركاب إلا أنا وثلاثة... بعد دقائق، صعد السائق، ورجاهُ أحد الركاب بأن يمضي نحو عجلون وأعلن السائق بلا مجال للنقاش:" لن أتحرك قبل أن يمتلأ الباص"... لعله سيمتلأ بسرعة... مرت الدقيقة تلو الأخرى، إقتربت أول محاضرة وما زلت في الزرقاء...  لعلّه يمزح... ولم يتحرك... لم يُشغله حتى، وتسلل اليأس القويّ إلى أعماقي.. أحسستُ بأنني سفيه أو غبي لا أدري لماذا..! 

نزلت. وقررتْ:لن أذهب لعجلون. 

عدتُ للمنزل تقريباً بعد الظهر، لم يعرفوا بأنني لم أُغادر مجمع الزرقاء، ولم أخبرهم بشيء، فقد كنت لا أستطيع شرح شيء... نعم عدت الآن من الكلية والدوام لطيف والمواصلات نوعًا ما جيدة، 
بعد غدٍ الأربعاء بدأ دوامي لعجلون... أصلُ مجمع الزرقاء، وعندما رأس المجمع جهة الشارع الرئيسي، يتجمع رجال مترهلون وكئيبون ولا يلفظون إلا: عجلون... جرش.. عجلون، يلا عجلون... راكب واحد"، ويتلقفونك عندما تأتيهم كأنك "أحد أولادهم"... 
مُعظمهم عسكر عائدون لقراهم في الجبال، ويأخذون معهم "حمولة سيارة"، أربعة أشخاص مع السائق، وأجرة الراكب:" من دينارين ونصف إلى دينارين"... 
وهكذا، بدأت في كل يوم اعتاد المسافة الطويلة، تقريبًا، ساعة وثلث بالسيارة... والكلية قبل عجلون وبعد عنجرة، تنتصف على جانبيّ الطريق الرئيسي. 
مشواري لعجلون كان لا يقل عن 80 كم، أجتاز في ذلك المشوار، الوديان والجبال والقُرى ومدينة جرش... من بعد طواحين العدوان قبل جرش، يبدأ الصعود نحو عجلون...! 
وهُناك أمضيت شهرين تقريباً، وبالطبع بعد مرور شهر كأقصى حد، كنت قد أعتدت المشوار وكل شيء، حتى عندما حان موعد وداعي للكلية... في أول أيار/مايو، وددتُ لو أنني لا أرحل عن هذا المكان، الذي لم أعرف فيه أحد إلا الجدران وجموع الطلبة البعيدون دائمًا... 
2019/9/18

أشجان أيلولية (7)

9/16

لستُ مثلهم. لا أُشبههم أنا... إن لي روحًا شاعرية جدًا، وقلبٌ حيّ... قلبٌ ينبض. أسمعهُ يئن/يضحك/يبكي، عندما أكونُ بين الناس، ووحدي قلبي يُحدثني كثيرًا، يُعاتبني... يتوسلُ إلي... يغضبُ مني، ويتعب... كما أتعب، كما تتعب الكلمات وكما تنامُ الأفكار أو تبرد لتموت ببطئ...

بعد مُنتصف الليل، السابع عشر من أيلول:
مليءٌ بالكلمات. 

وحدي أسيرُ. ورائي ظليّ. أسيرُ على طريق مليءٌ بالحُفر، الطريقُ يرتفع ومن ثم يستوي، وأرى أمامي قُرصٌ برتقالي، وسقفي سماء... السماء سوداء... هُناك نجمة ساطعة. نجمةٌ أُخرى أقلُّ سطوعًا، ونجمة ثالثة ورابعة... تتاشبه النجوم، وتختلف، مُبعثرة...

أسيرُ نحو الشرق بخُطىً ثابتة، مع أن الطريق مليءٌ بالحُفر، اللعنة على الطُرق... كل الطُرق تتشابه وتختلف كما النجوم... كما الناس... كما كل شيء،
معي ظلي. ورائي ظلي... وورائي قُرى ومُدن، ورائي ضجيجَ وضحك وبكاء، وكثيرٌ من الزيف الباهت...
ورائي كل شيء، وهُنا أنا وظليّ وحدنا... في نهاية مسيري، جلستُ على حافة الطريق، أمامي أرض واسعة مليئة بحجارة سوداء وضوء القمر الشحيح لوّن الأشياء بلون الرماد والضباب...
المكان مُوحشٌ جدًا، ولا أشعرُ بوحشة، أشعرُ بي جيدًا...
في البعيد أضواء تتلألأ وتلٌّ عليه ضوء يعلو بُرج، لا أرى بُرج... أرى ضوء أحمر، مُعلق فوق التلّ.
لا ضجيج ولا أصوات... فقط ضوء قمر وهواء بارد... الهواء كأنه موجُ بحر، موجٌ هادئ، وأنا أسبح... لا أُتقن السباحة في الماء، أنا أسبح هكذا... وأنا جالسٌ هُنا،
اليوم السادس عشر من أيلول. وأيلول شهر نهاية وبداية، بعد أيام يبدأ الإعتدال الخريفي، وهُنا في هذه الصحراء، لا يوجد إعتدال... سيبدأ البرد يفرضُ وجوده، يبدأ في آخر الليل وينتهي عند الضُحى، وقد يُغافل النهار ويمتدُ إليه... أيلول، شهرُ ولادة جديدة وموتْ.
وهُناك في كل الإتجهات، بعيدًا عن هُنا... يحدث كل شيء بشكل عادي، ثمة ولادة وموت...
الآن أسيرُ وظلي أمامي. قُرص القمر صارأصفر/ أصغر وأرتفع.

أعودُ للأشياء التي تركتها ورائي... هاتفي، دخاني، مكاني، خوفي... قَلقي، يجب علي أن أتخلى عن ملابسي في المرة القادمة. 

أيلول وأرضٌ عطشى... وجائعة، وأمواج الهواء تهدرُ بصوت العواصف البعيدة والتي تقترب في كل يوم... رائحة مطر، وبرد يتسلل خفية من تحت ستائر القيظ، 
في بالي حكايات كثيرة، مللتُ مكوثها، ولا أعرف كيف أبعثها من رقادها؟ مع أنها تستيقظ في كل يوم، تعبثُ بي... تستنجدني، تبكي... تصرخ ،وتنامُ مُجددًا، سيأتي يومٌ فيه تُبعث، وتحيا خارجي، ولا تموت... 
ثقيلٌ أنا...

 جسدي هو الثقيل، كيف سأتحرر من جسدي هذا؟ كيف أطير فوق الأرض، وأعلو لأرى الأشياء العظيمة مثلًا، بالفعل صغيرة وحقيرة...؟ 

====

حكايتي بدأت من زمان... وفي كل يوم أعيشُ حكاية تستحق أن تُروى/تُقرأ،
 الناس جميعاً حكايات يومية، ولطالما إستحوذت عليّ هذه الفكرة... فكرة إنسان/حكاية، وأرى الناس من هذه الزواية، أراهم حكايات، ستنتهي ويا للأسف ستطويها الأيام التي لا تقف وتُنسى...!
تُنسى الحكايات. يرحل أبطالها، كل الناس أبطالٌ في النهاية، وتستمر الحكايات تبدأ وتنتهي... تنتهي حكاية لتبدأ أُخرى، دولاب يدور... فصول لا تتشابه في الجوهر وتتشابه تمامًا في شكلها العام.
مُقدمة مُوجزة أو مُطوّلة... فصل أول... ثاني... ثالث، وهكذا، والفصل الأخير ليس له رقم، تلك الفصول مع مقدمتها تجتمع بعد النهاية في كتاب... إسمه مثلًا "راحل".
صفحةٌ بيضاء تمامًا... وصفحة ربما في آخر فصل، تمتلأ بالخطوط والأحرف، حتى لكأنها تعرف بأن الصفحات إنتهت، ليس هنالك مجال لصفحة جديدة، والكلمات في تلك الصفحة مرصوصة تماماً، بلا فراغات، بلا ترتيب... 

÷÷÷

كنت دائمًا، في حالة مزاجية خاصة تتسم بالفوضى واللافهم، كانت تراودني رغبة الهرب... الهرب من الآن، للماضي أو المُستقبل، المُهم هو أن لا أبقى هُنا... اليوم، أعلم بأن هذه الرغبة هي من بقايا الطفولة وتنبع من جُبن وإستسلام، اليوم لا تراودني هذه الرغبة. أشعر بأن الحاضر والآن أجمل من أمس وغدًا، لأن الأمس ليس إلا ذكرى/فكرة والغد كذلك بأن تُصبح الذكرى هُنا: خيال وردي، والواقع دائمًا مُختلف. 3:07ص

إجلس في الحوش... دع هاتفك، في المنزل، إذهب للحنفية وغسّل وجهك... إدعكهُ أمسح رأسك، تبوّل بجانب الحوش، وإمشي في الحديقة البائسة، ستفرح... عندما تتوقف عند أماكن ذكرياتك الطفولية، وتشعر بأنك غادرت سجنًا، لم تكن تدركه.

يسخرُ الإنسانُ من وجعهُ، حين يكون الوجع حولهُ... فهو لم يشعر بالوجع، إنما رآهُ... سمع عنه... لأن الموجوع يئن أو يصرخ أو يبكي، الموجوع بشكل ملموس وحقيقي لا يسخر! 

أشجان أيلولية (6)

منذ ساعتين أو أكثر، تُداعبني... لا، بل تحترق في داخلي كلمات. فوضى من الكلمات التي تصرخُ بي: رتبني أرجوك. بالفعل هي مُبعثرة بل تبدو وكأنها أشباح لا تراها حقًا، لكنك تراها...

حسنًا، ها أنا ذا أستجيبُ لرجائها. لم أعد أحتمل إحتراقي الداخلي. الكلمات تحترق أو تضيع. تبتعد مُتناثرة أمامي في المدى الواسع والضبابيّ،
يجب أن أكتب عن فكرة... عن ألف فكرة وألف معنى،
وعندما أشرعُ في عملي هذا، أجدني خالي الوفاض فارغ تمامًا، وفراغي هذا مؤلم جدًا،

تعالي يا كلماتي التائه. إقتربي...
 وتبتعد. تتناثر، وتنسابُ مني، كماء في يد... كقطرات النَدى على زجاج، وكسيل ماء من قمة، يسيلُ للأسفل، حيث يستقر ويختفي،

لماذا أكتب؟
لأنني أفتقد تجاهل اللحظة، وغياب الوعي اللحظي، نعم أنا أمتلك عدسة مُكبرة أمام عيني وأرى من خلالها الوجود،
ولأنني لم أعد طفلًا، والطفولة ليست فقط مرحلة عمرية، بل هي حالة عقلية تتسم بالسذاجة واللافهم واللاقلق والإلمام بسطحية الأشياء،

في ذهني نصٌ مُشتت. أجزاءهُ ضائعة هُناك وهُنا، ولم/لن أستطيع "لملمة" شتاته/أجزاءه، مع إحتمالية أن أستطيع، لو أبذلُ جهدًا أو جُهدًا مُضاعفًا،
لا أدري... يجب أن أكتب، هذا الواجب لا أقدر على رفضه، من باب الحُرية الشخصية التي أعتقد بأنني أمتلكها، 
سأنامُ الآن... 
كنت سأكتب عن: كيف الأماكن تأخذُ منا أجزاء ونُغادرها ناقصين منّا نتحسس النُقصان، كفقدان يد من جسد... وعن مُستنقع وقمة، تنجو من مستنقع وتهبط من قمة... وعن الخارج الذي يمتلأ باللاشيء... وعن تجمعات بشرية شعارها: أنت وحدك... وعني؛ عن عُزلتي وقَلقي وهواجسي اللعينة... 
سأنامْ... ليس هَربًا أو إستعجالًا، بل لأن... لا أدري. 

+++

لا أسمع صوتًا، إلّا صوت "خلل ما" بالمروحة، ودقات قلبي للأسف لا أسمعها، لأُصدق بأنني حيّ... هل أنا حيٌ بالفعل؟
الصمت وأصوات بعيدة تحدث كل حين... صوت حديث ما، وصوت سيارة تعبر الطريق صوت وقع أقدام.. أصوات تُقويّ صمت المكان، وتُعزز فرضية أنني ربما لستُ حيًّا... لا أدري كيف. تمامًا، كما يحدث أن لا تنام وأنت نائم...

أمس الجمعة كان يومًا عاديًا. واليوم السبت وغدًا الأحد، بعد أسبوع يبدأ دوامي في الجامعة، بعد إجازة أربعة شهور وواحد وعشرون يومًا. أربعة شهور وواحد وعشرون يومًا، مَضت بسرعة وببطئ رهيب، قبل عام كان قبل قليل، وأمس.. "حذفت ما كتبته بعد أمس"، لأنني مُثقل بأعباء الأمس... اللعنة على الأمس.

أنا عبئٌ ثقيل. أنا دودةٌ شريطية في جسم إنسان كهل يحتضر ولا يموت، أنا أنينُ ألم لا ينتهي، أنا ضحكةٌ مسروقة وإبتسامة ليست باردة... أنا مُنتصف شعور دائم وينتهي بسرعة، أنا من أكون؟ 
هذه العتمة الضخمة والباهرة. تُثقل كاهلي وأسيلُ منها كدم بارد، على الأرض فوق الأريكة تحت ركام الخردة... جريحٌ وطريد في صحارى شاسعة وضيّقة. 
أختنق وأجرُ نفسي بصعوبة، لا أزفر. أكاد أسقط، وأزفرُ دمًا... أو ماء، ماء مُلوث. 

مؤقتٌ أنا كثانية إنتهت، وأثقلُ كلحظة أبدية، أنا أتوقف عند اللحظات، ولا أجتازها. أجتازها بصعوبة... أقف هُناك، أمام كل شيء، وأنظر للوراء بعين جديدة، وأتمنى لو أنني لم أنظر للوراء، في الوراء ثمة لا شيء مُؤلم. الوراء شيء غير موجود لكنه واضحٌ، كشمس وراء غيوم، أو كقُرصها يهبط وراء تلال أو جبال أو شيء بعيد... 
لا أستسيغُ التكرار، وأرفض عاديّة الأشياء، ليس ثمة شيء عادي، كل شيء مُدهش، لكننا خُدعنا ببساطة، وفَقدنا جوهر وجودنا:"الدهشة والبحث عن المعنى". 
الموت... الفَقد... مرور الوقت... ذكريات بعيدة وقريبة، وجدًا قريبة، وبعيدة جدًا... وأماكن وأفكار وأحلام وطموحات وأسماء... كلّها عاديّة ومُستساغة الإنتهاء، كأنها لم تكن، ثمة ألمٌ شديد يُعاني منه أولئك الذين يُعنون بتلك الأشياء، الذين لا يمرون بالأشياء مرور "الميت الحيّ"! 
كم ننامُ في حياتنا؟ 
وهل نُدرك نهايتنا مُستيقظين؟ 
أم أن الولادة تقترن بغرس فضيلة النوم في ضمير المولود الجديد، إلى أن ينام بشكل أبديّ؟! 
والنهاية الحتمية هل تُحرك بنا، رغبة الإستيقاظ ولو بشكل مُؤقت؟! 
هل بالفعل نُدرك نهايتنا الحتميّة، أم أننا ننام عن إدراك وجودنا وما ينطوي عليه من مجهول دائم ونهاية معلومة/تنتظرنا وتحدث عاجلًا أو آجلًا؟ 
الساعة:*2:27ص، سأنام الآن... واللعنة على النوم والجسد الثقيل. 

،  
صباحًا، الخامس عشر من أيلول...

لن أدع الموت... الخوف من الموت... الموت المجاني... ينتزعني من حُبي للحياة... للصُبح والمساء وآخر الليل، والصباح الباكر... لأغاني فيروز وأم كلثوم... وللشعور بأن الغد واليوم والأمس مِلكي...
إكفروا بالموت... 
بالنهايات... 
ألحدوا بكل شيء إلا الحياة، آمنوا بها... دافعوا عنها... وموتوا لأجلها... لا تسمحوا للموت بإغتيالكم وغدركم... لا تسمحوا له بأن يسرقكم ويضعكم على رفوف الماضي، تذبلون هُناك وتبتهون وتُنسون...
دافعوا عن الحياة أمام طوفان الموت المجاني واليومي والمُعتاد، وأصرخوا للحياة بما تُريدون، ولا تموتوا قبل الأوان... أنا أحبكم جميعاً

الثلاثاء، 17 سبتمبر 2019

صرخة مجنون

لسان حال ماتفي بطل رواية "إعتراف، أين الله؟" لمكسيم غوركي:"ليسَ هذا ما أبغيه"... ولسانُ حالي: ليستُ هذه الحياة صالحة للعيش!
أعي تمامًا بأنني ضئيلٌ جدًا، وأكادُ "لا شيء" مُقابل هذه الحياة الواسعة والعظيمة... لكنني "عظيمٌ جدًا"، والحياةُ هي ما أعي، هذا التناقض هو جوهر الإنسان العظيم والحقير في ذات الوقت!

أُغمضُ عينيّ، وجودي بات ظلامٌ دامس، بلا تفاصيل وملامح وألوان. أفتحهما، لأُعيد للحياة وجودها... وألوانها وأبعادها،
هذا يعني بأن الحياة هي نظرتنا للخارج، وأفكارنا الخاصة والعامة، والتي نستمدها من وعينا الشخصيّ/والجمعيّ، وحواسنا التي نُدرك بها المواد من حولنا... لا شيء موجود لو لم نوجد، والأموات، ماذا عنهم؟ كانت لهم حياة، وإندثرت معهم...
ولكن ماذا عن الأماكن؟ هل هي موجودة لأننا نراها ونُدركها؟! والمكان الذي لا أراهُ/أُدركه هل هو موجود بالفعل؟!

نعيشُ اليوم حياةً "عبثية"... بمعنى: الإنسان يولد ويموت بشكل قسري، وما بين الولادة والموت يحيا الإنسان بعقل محجورٌ عليه، ومليءٌ بالمحفوظات والقواعد والحتميات، وما عليه إلا أن يعيش ليموت كما مات آباءه وأجداده، ويبقى محدودٌ بجسده، وموقنًا بعبوديته لله وللوالدين والمُجتمع والواقع المحترم والنظام السياسي وضعفه ما هو إلا جزء لا يتجزأ من إنسانيته، ولذلك يبقى في دوائر لا يدري كيف ومتى دخلها ومن الذي أوجدها؟ لهذا تتحول الحياة لمُستنقع بُِؤس وشقاء ورعب... الأمس المُرعب واليوم عليّ أن أهرب من رعبي الذي يكبر معي كلما تقدمت بالسن، والغد مُرعب أيضًا لأنه مجهول، وهكذا يصيرُ الإنسان مُجرد كائن مهزوم/ضعيف، وينتظر الخلاص من قوى لا يُدركها لأنه ليس أهلًا لإدراكها. ثمة نعيمٌ ينتظره بعد كل هذا البؤس والشقاء لذلك عليه أن يصبر ويحتسب، ويموتُ راضيًا عن كل شيء...

جموعٌ بشرية لا تستطيع سوى التذمر وإلقاء الكلمات برعب وخوف، جموعٌ غفيرة تخشى... تخشى اللاشيء!
ومن ثم يتسائل البعض، لماذا حياتنا كريهة هكذا؟ لماذا كل شيء يفقد قيمته ويبهت بسرعة، وصار الإنسانُ وحشًا مَدنيًا؟
لماذا المجنون هو من فكّر وكفر بهذا الجحيم الأرضيّ...؟ وليتعافى من جنونه عليه أن ينصهر في هذا المجموع الكليّ والمُشتت، عليه أن يستسيغ ويتبنى الزيف والكراهية والموت المجاني واللاقيمة واللامعنى والعبودية المُقدسة...!
عليه أن يُظهر عكس ما يُبطن، وعليه أن يدّعي كل الفضائل والجماليات، ولسان حاله:" إنظروا إليّ... إنتبهوا... أنا مثلكم ولو دققتم النظر أدركتم بأنني أفضل منكم!.. أنا صادق والكذب هُنا كثير، وأنا شريف وكريم وشجاع وذكي و... أنا تافه أيضًا لا تعنيني التفاصيل والحياة لا تستحق فهي مجرد دار فناء، ولا أؤمن بالمشاعر العاطفية وأنا أملك معلومات قيمة ولم اقرأ إلا بضعة روايات وكم كتاب..."، ذلك هو شكل حياة من عدة أشكال حياتية، ظهرت في ظل التطور والتقدم في شرقنا الأوسط تحديدًا... الثلاثاء، 2019/9/17

الأحد، 15 سبتمبر 2019

{النهاية} صمويل بيكيت

أنهيتُ للتو رواية "النهاية" لصمويل بيكيت. ليست سوى [80] صفحة. صفحات تتناول حكاية رجل بلا إسم.. بلا عُمر... بلا تفاصيل، سوى حكاية "نهاية" محتومة. نهاية إنسان إختار الغرق (الموت) وقبل الغرق... قبل أن يُقدم على سحب سدادة ثقب القارب الذي، ليمتلأ بالماء ويغرق... قبل كل ذلك، كان كل شيء يحدث يُنبئ ببداية النهاية.

لحظة كانت السبعين أو الثمانين أو التسعين سنة التي مَضت، فجأة تغيرت ملامح الوجه وأكتسبت بلادة وبرودة التكرار، لا إبتسامة حقيقية ترتسم على الملامح. لا شيء، الملامح جامدة، ذات شكل واحد، أما الشعور فهو داخلي، الشعور لا يَشيخ، وتلك هي "المُعضلة"، وذلك هو التناقض المُؤلم، ما بين القشرة والمكنون!
قبل فترة، كنت في الخارج، أرتطم بالآخرين وأشعر بغُربة حُزن مُبهم وشديد، ربما يعود ذلك الشعور لغرقي في تفاصيل الأشياء، ولأنني لا أتوقف عند القشور وإنما أنغرس وأجتازها تلك السطوح... ولأن الأمر لا يعدو أنه إحساس داخلي، لذلك ربما هو غرقٌ في وهم وتيه وجودي... لا أدري،
في تلك الليلة أذكر بأنني كنتُ "مُتعبًا" جسدًا وهذا لا يعنيني كثيرًا،
 وجوهرًا... نعم، كنتُ مُتعبًا جدًا من الداخل، وأخيرًا، وجدتني في مقهى يغصُّ باللاهين والسطحيين.. جماعات تتناطح بالكلمات الباردة، وبلعب الورق والكلام المُبتذل والسخيف،
وفي ذلك المكان، بعيدًا عن صخب الشباب والرجال الأقوياء، كان يجلس رجل مُسن، ينظر إلى هذه الجموع الصاخبة، وكأنه "غريبٌ هُنا" لا يدري كيف ولماذا هو هُنا... ربما هو لا يملك وعي شديد بالواقع وربما هو الآن ضائع في ذكرياته البعيدة التي تختلط بهذا الواقع "الغريب"، وددتُ لو أنني هو... لأعرف ماذا يرى وكيف يُفكر؟؟ 

السبت، 14 سبتمبر 2019

أشجان أيلولية (5)


ذات صباح أياريّ(2019)، عمّان، فندق جينيفا


لن يمرّوا... لن يجتازوا الوديان والجبال الوعرة، هُم غُرباء هُنا، والأماكن لا تعرفهم، ولا هم يستطيعون معرفتها. والأرضُ لا تحتمل سيرهم فوقها، ولا تتقبلهم في جوفها.
من أين جائوا؟ ولماذا يُريدون الحرب؟

جائوا من كل الأماكن كأنهم جراد عابر للمسافات. يعبرون وينتشرون. لكنهم هُنا لن يمّروا... لن يعبروا، هُنا سيتوقف إنتشارهم الوبائيّ، لأن هذه الأرض تعرف أصحابها... تعرفهم كأم ولدتهم بمخاضات مُؤلمة وربتّهم بسهرها وتعبها وكدّها اليوميّ، 
قريبًا ستحتدم المواجهة...
 ستكون الأرض الأم والسماء والهواء في صفّ الدفاع وصدّ الهجوم، وحتمًا ستنهزم تلك الجماعات العابرة والقادمة من البعيد... لأن هذه الأرض لن ترضى بهم ولن تتقبلهم.

ولماذا جائوا؟

 لأنهم أوغاد وحمقى، ولأنهم ظنّوا بأن الأرض... كلّ الأرض أمهم الحنون، ولن يعرفوا بأن الأرض أم لأصحابها والأم لا تتخلى... تنتصر لأبنائها أو تموت، وشعارها الأبديّ:"لن يمرّوا". 

،،، 

مَضت 40 ثانية، ثمة من إنتحر الآن!

وكم من صدر يحتوي نارًا تشتعل؟ لا دُخان... لا علامات إحتراق... لكنه يحترق ببطئ، شيء ما يحترق بصمت وبلا وهج... النار تنطفئ، ويبقى الرماد، يبقى أثر النار.

لدُخان النار التي إنطفئت أثر، سهل المسح وأثر عميق، والصدر الذي إحترق جيدًا، باتَ مهجورًا إلا من بقايا الإحتراق الذي حدث،
هل يُمكن إعادة الحياة لذلك الصدر؟ هل يمكن مسح آثار الإحتراق وإعادة ترميم وتلوين المكان...؟
هل يُمكن أن يحترق شيء بشكل تام دون أن يموت بشكل تام؟

والذي إنتحر بعد مُضي أربعين ثانية جديدة، هل كان من المُمكن أن يعيش للغد... أن يعيش ليوم يموت، دون أن يختار الموت وهو حيّ...؟


إدانة واضحة لوجودنا وإنسانيتنا: بحسب منظمة الصحة العالمية، فإن هُناك مُنتحر كل 40 ثانية...! 

،،، 

بين الناس غُربة باردة تقبضُ عليّ وتوجعني بقبضتها إلى أن تتركني عندما أنجو من غرقي ذلك. أعلم بأنني لا أكره الناس، ولا أهربُ منهم لكن وجودهم الدائم يُؤلمني فقط، ربما أحتمل هذا الألم لمدة طويلة، ولكن لماذا عليّ أن أحتمل الألم؟ وهكذا أعيشُ في عالمي الخاص بين الناس، إستطعتُ إيجاد وسيلة عَيش تُرضيني، بحيث لا أتحول لمتوحش وخائف.
أستيقظ في كل يوم لأعيش خارج الدوائر التي لا أدري كيف دخلتها والروتين الحتميّ، أُحاول إبتداع حياة شخصية لا تخضع للخارج ووتلون بألوانه، لا لأجل التميّز ولا لأنني مغرور وأناني وكاره وحاقد للحياة، بل لأنني أحب الحياة، ولأنني أدركت بأنها (الحياة) تتعرض في كل يوم لإغتيال وتشويه وتقبيح، هي ليست جميلة وليست قبيحة أيضًا... بل في أحايين كثيرة أرى جمال الحياة وروعتها في تفاصيل لا تمت للإنسان بصلة،
في كلّ صباح ومنذ ثلاث سنوات تقريباً، إذا لم أستيقظ لعمل ما، فأنا أستيقظ لأنني مُحب وعاشق... بالمُناسبة الإستيقاظ القسريّ شكل من أشكال تشويه الحياة وتقبيحها.
مُحب وعاشق لملامح الصباح، تلك الملامح التي صيّرتني عاشقًا ومُوّلهًا بالحياة... كما لملامح الليل سحرها وأثرها، في عشقي وحُبي الجارف لهذه الملعونة والفاتنة، 

أغاني فيروز... قهوة ثقيلة... كتاب يستفز العقل، رواية عظيمة... فتاة هائمة بعشقي أستيقظ على وجودها وحُبها، هذه الأشياء هي التي تستحق أن أعيشُ هذه الحياة بكل قبحها وجمالها لأجلها... أعيشها حتى آخر رمق، وأعيشُ مُناضلًا في سبيل قضايا شتّى، وكل هذه القضايا تتعلق بالحياة والإنسان، أن تعيش مُناضلًا يعني أن تجد جوابًا لسؤال صعب: لماذا أعيش وأستيقظ في كل صباح؟ 

،،، 

غروب الشمس يُشبه بداية شيء مُؤلم... كإنتهاء علاقة عاطفية. برود تلك العاطفة وتحولها لشعور باهت... كموت غريب وموت شغف. كإنتحار..

وشروق الشمس يُشبه البدايات، بداية حُب جارف... بداية الشغف بشيء ما...

وما بين شروق وغروب، نهارٌ طويلٌ وحار وليل كطمأنينة خفيفة،
وليلٌ طويل بارد ونهار قصير دافئ،
 ولا تتشابه الأيام والليالي. 

،،، 

لا أتخيل حياتي بلا فيروز بلا شعور قويّ وعاصف يهدأ ويثور مُجددًا، بلا مآزق ومُستجدات ومُواجهات وغضب دفين وسعادة غامرة تنفجر فجأة وتُغيّر ملامح الأشياء،
لا أتخيلها حياتي بلا حُب لفتاة طفولية أسمها سارة، أو بلا تدخين الكثير من السكائر وشُرب القهوة الثقيلة وفوق الوسط صُبح ومسا... لا أتخيلها بلا إضطرابي المُستمر وتفكيري العنيف والمُرهق بتفاصيل الأشياء ومعانيها،
نعم، مؤمن بأن الروتين شكل من أشكال العبودية، والعبودية يُمكن وصفها بـ"الحياة"، حياتنا اليومية لابد تنطوي على خضوعنا لأشياء خارجية... لأشياء قد تُفرض علينا وقد نختارها، وهُنا تكمن الحرية، حُرية الإختيار، أن أختار الإستيقاظ باكرًا، لأرتوي من هواء الصُبح وألتمس حرارة الشمس.. وأستمع كعاشق لفيروز، وأثمل من قهوتي، وأقرأ وأكتب وأعيش، نعم هكذا أشعر بأنني أعيش، بأن هذا اليوم أنا حيٌ فيه. حيٌ لأنني لا أكرهه، لا أكره يومي، الكراهية شكلٌ مُقزز للموت...
فأنا حيٌ لإني إستيقظت، لأنني أسهر، وأنام مُثقلًا، بقضيتي الوجودية، قضية وجودي أنا، وأنا كلّ الحياة... وأنا الطفل الذي ينظر بعين الدهشة للأشياء، الطفل الذي لا يكبر، والدهشة الطفولية تعني بأن الحياة لم تزل ذات قيمة ومعنى، الحياة ليست خُطة جاهزة وقواعد حتمية.. ليست مُجرد محطة إنتظار لموت قادم،
بالمُناسبة يشيخ الإنسان. عندما يتوقف عن كونه طفل يندهش... عندما تتحول حياته لأيام باهتة ومُكررة، وبلا معنى، وبلا جديد، سوى تغيّر التاريخ والزمن،
أن تكون أنت في عالم مليء بالأشباه... وأن تكون حقيقيًا في حياة تفرض الزيف والوهم، وبأن تنجو بذاتك، من الغرق في مُستنقع المجتمع الذي كَفر بالجوهر والجمال والتفاصيل وعَبد السطحية والمظاهر والشكليات، أن تتسائل في كل صباح لماذا تعيش؟ ولماذا، هذه الكلمة تسبق كل حَدث.. كل حتمية.. كل شيء تماماً، أن تكون تلك قضيتك التي تُناضل في سبيلها، "قضية الوجود".. وجودك أنت قبل كل شيء. 

،،، 


أرى وجهي في المرآة، هل هذه ملامحي؟ هل هذا أنا؟

المرايا كثيرة، تعكسني... أراني بها، ولا أعرفني، من أنا؟
جدراني وسقفي وكل المدى الواسع من حولي مرايا... مرايا تلك العمارات والسيارات والأجساد السائرة على الأرصفة وكل شيء هو في النهاية مرآة، أراني بها، ولا أعرفني!

لن تعرفني ولن أعرفك، ونحن جميعاً مجهولون تمامًا... وهذه الحقيقة مُؤلمة بقدر أهميتها، ولن تصدقها تمامًا، ستبقى دائمًا تتوهم إهتمام الخارج بك وتفهمهم لك... 
ستدرك وحدتك في لحظة ما، وبأن كلماتك لا تُعبّر وربما لا تستطيع ذلك، 

الهواء يحمل رائحة العواصفُ التي تقترب. والليل صديق. رفيق الحالمين/المُنهكين من النهار والذين أيقظتهم الأفكار والهواجس.، تستيقظ الفكرة ويشتعل الهاجس وينطفأ، والفكرة تنعس وتغفو... تحت الرماد ثمة جمر، والغافي سينهض إن عاجلًا أم آجلًا، إلا إذا مات أو أنطفئ الجمر، هل من المُمكن أن أختلقُ هواء يُزيح/يطرد الرماد من فوق الجمر؟ هل لحنجرتي مقدرة على الصُراخ، لعل النائم يستيقظ؟ 

صوتٌ كثير، بل أصوات تتداعى وتتكاثر، لتكوّن سيمفونية أبدية إسمها: نحن. 

غصن مائل، الشجرة تميلُ للأمام. الشجرة عمرها 100 عام، وليتهم وضعوا لها عصا يقوّم وقوفها المائل. 

لا أدري لماذا أشعر بالخوف العميق من إمكانية إرتكابي خطأ لا يُفضي إلى موت، بل إلى حياة زائفة وكلها مُحاولات حمقاء وسخيفة... أخاف من إمكانية تدجيني وترويضي كحيوان حقير، وبأن أكون أداة طيّعة ومُستكينة، ولا أدري لماذا أنا أخشى جدًا... كل شيء أخشاه. 


،،، 

هل يُمكنني يا ليل، أن أطلب منك لحظة صمت.. موت... لأحظى بذاتي، وأشعر بها، بلا إنعكاسات فوضى وضجيج الخارج، بأن أسمع الصمت الغارق في الظُلمة، وبأن أغرق في أبدية اللحظة تلك.
ترفض يا ليل طلبي؟ 
ويخيبُ رجائي وأصمت في حضرة الخارج الكريه. أصمت. أموت حيًا، أُصبح سجينًا، وأنا (حُر)، أين حُريتي؟ أينها؟ بحثتُ عنها كثيرًا، وضيعتني في تيه.
التيهُ مُظلم، ولا ملامح فيه لنهايات وبدايات... في التيه، لا ملامح، كل شيء واحد، والواحد سجن.. َقبر... مكان لا تستطيع مُغادرته لسبب ما؛ كوطن، كبيت عائليّ، تُغادره كارهًا له وتحنُّ إليه... التيهُ منفى أخير، وجحيمٌ أرضي،

منذ البداية، بَدت ملامح النهاية ترتسمُ على صفحة اللحظات،
لكنها تتخفى، تربض تحت قشور الدهشات، وتخرج، كأن "البَعث" قد حان، تخرج النهاية من موت... تحملُ ملامح الموت والعَفن والتُراب، لكنها حيّةٌ الآن، وُلدتْ من جديد، متى ماتت النهاية؟ ربما قبل ولادة البداية.




الخميس، 12 سبتمبر 2019

أشجان أيلولية ("هذيان")

لا تركع... حتى وإن تحتّمت نهايتك.أُسقط واقفًا. تداعى كما يتداعى جدار. وتحطم كما تتحطم زُجاجة. لكن لا تركع،

إستبقُ الغد. الساعة الآن الحادية عشرة وأكثر من ثلاثون دقيقة بتوقيت ساعتي الميتة، وبتوقيتي "آخر ليل خريفي أعقب نهارًا حار"، لا جديد فيها-هذه الليلة سوى إحساسٌ جوهرهُ حُبْ وحولهُ كراهية نحو الخارج، الإحساس كدائرة، لها رائحة نتنة... رائحة كراهية وغضب وخواء،
هذا العالم يُفقدني كُلما أمعنتُ في النظر إليه.. يُفقدني إنسانيتي، يمسخني لكائن مُشوّه ومرعوب وهارب،
وكلّما وجدتني فيه. كلّما إستيقظَ ثائرًا داخلي غاضبًا من خارجي، أستعجلُ عودتي حيثُ أعتصم، وأحميني من ألوان باهتة، ونشازٌ يرطنُ بالبرود والزيف والسطحية،
نعم، أنتبه لحماقتي، لأنني مريضٌ بالإنتباه لتفاصيل الأشياء والحوادث... إنتبه وأقرأ ما تتحدث به الوجوه الكئيبة والذاهلة، وما تلهجُ به الألسن، تلهجُ بل تتقيأ ما في جوف أصحابها من... من ما قد إمتلأت به،
والعيون... العيون تُتابع الأجساد الأنثوية التي تلتفُ بغطائات كثيرة، العيون تخشى التحديق في الوجوه القريبة والمألوفة. تُحدّق بكامل ذهولها بأرداف النسوة ووجوههن المُلوّنة،
نقاب يسيرُ هُناك وهُنا ومن بعيد ترى شيئًا أسود يتحرك، وترى رأسًا مُحجبًا، وجسدًا عارٍ لولا قشرة قماش.
وهنّ. نسوة خارجات حيث غربتهنّ، حيث الشارع يُحاكم أيّ زلة أو هفوة، ويغضّ الطرف عن... طفل يتسول، إمرأة تحمل طفلها في حضنها وتستعطي المركبات الفارهة و"المُكندشة".. ورجالٌ بلا طاقة وعنفوان، رجالٌ مترهلون وذاهلون وغاضبون وهزيلون جدًا، زعيمهم يُعاني الثلاسيميا، ومُعظمهم يُعانون/سيُعانون ضغط الدم أو مشاكل في القلب... صوتُ قرآن يسبقُ الأذان، يُؤذن وتختلط حيّ على الصلاة بأيّ شي بالمحل بنيره ويبتاع النعنع يا منعنع...
وفي هذا المُستنقع، نستيقظ لنغرق أكثر، وننام لننجو، ولا نجاة من "واقع محتوم ومُقدر"، واقعٌ مكتوبُ في اللوح المحفوظ، وكأن المولود هُنا، محكومٌ بسجن مع أعمال شاقة، وتهمته: الوجود. 

الأحد، 8 سبتمبر 2019

أشجان أيلولية (4)

السادس من أيلول

إعتصام للمُعلمين... ينتهي بإعتقالات وإطلاق الغاز المسيل للدموع، ولا جديد إلا إمعان في القمع والتنكيل.

نحنُ شعب حائر وتائه ومُستعبد حتى آخر رمق.

خوفٌ عميق ودوائر ضيّقة وسقوف.

لليل حضورٌ عارم. وكُليّ تحت هذا الليل، أبدو ضئيلًا... غيرَ موجود.. 
الليلُ سقف. والشمس عندما تُشرق: تحررٌ مُؤقت... إنعتاقٌ لحظيّ
أنا أنحني وعلى كاهلي ترتاحُ أتعابي... مخاوفي... آمالي وهواجسي، أنا شخصٌ آخر أحملهُ فوق ظهري، ويُؤلمني حِملي، ثقيلٌ أنا... أثقلُ من جبال عجلون... أثقلُ من سحابِ فبراير
صورة: رجلٌ ينحني. بعيد. هو كهلٌ يبدو تجاوز التسعين من عمره، لكنهُ: أنا، وأنا شابٌ في العشرين. 

وأمضي نحو الشمس أستعجلُ إشراقها. أطيرُ نحوها... نحو الشرق، ولا أتحرك من مكاني. تتعفن الأرضُ تحتي، وتئن... الأرض تئنُّ وتبكي. 
والليلُ قاسٍ وشديد الوطأة، هل هو بالفعل كذلك؟ 
أم أنني مملوءٌ بالهزيمة... بالخوف الأبيض(جدًا)، مملوءٌ بليل بلا نجوم... بلا ملامح، وهذا الليل في الخارج مُشرق بعض الشيء. 
سأقتلُ الشمس عندما تُشرق، وسأستقيمُ بوقفتي، ليسقط تعبي... لأسقط أنا الآخر،

 عندما تموت الشمس ينتهي الظلام. 

السابع من أيلول

صباحًا، وبعدما هدأ ضجيجُ الخارج، وسخّنت الشمس النوافذ والجُدران والهواء... صحا س من نومه، وقد صَحا في آخر لحظة قبل سقوطهُ في فراغ مُعتم!
يعني إستيقاظهُ كان نجاة من.. ربما موت أكيد!

لم يستطع النهوض، وكان يرى الأشياء من حوله وقد صارت بأحجام ضخمة وبألوان غريبة... فمثلًا، ستارة النافذة الآن لونها أصفر وقد كانت... لا يدري الآن، لكنها كانت بالتأكيد غير هذا اللون!
وفجأة إنتبه، بأنه "نملة" سوداء، ولم يُعر الأمر إهتمامًا، بل إستدار وتحرك نحو... عليه أن يبدأ يومه،
هو الآن لا يشعر بغرابة هذا الوضع، هو الآن نملة بالفعل.

النملة، تحمل حبة شعير فوق ظهرها وتسير في خط مُستقيم، حبة الشعير ثقيلة ومسيرها طويل، لا تئن... لا ترفض... لا تستسلم... لا تبكي... ولا تَسخر... تمشي ببطئ مُستمر مع قطيع مُتشابه تمامًا. 


أشجان أيلولية (3)

الرابع من أيلول

قلبي ينبض، أكادُ أسمع نبضهُ الواهن والرتيب، لماذا لا تتسارع نبضاتك أو تتوقف نهائيًا يا قلبي الواهن والمُرهق؟

أحببتُكَ لأنني عثرتُ بملامحك عليّ... عليّ الذي لطالما تمنيتُ أن أكونهُ يومًا.

إن ملامحك تتحدث. 

عيونك تقول: لا تبتعد أرجوك. وفمك لا ينطق إلا بصقيع... وعقلك أرهقك. أخيرًا تبكي وتنام مُثقلًا. 

أنا إنسان تجاوزتُ ذاتي... نعم. أراني في الآخرين وأعيشُ بعض حياتهم/مُعاناتهم تحديدًا. 
لستُ مثاليًا، ولا أرغب بحيازة محبة أو شعور بالشفقة والإعجاب و و... لكنني أخافُ جدًا من خيبات الآخرين وحزنهم وتعاستهم..، وكم هو مُرهق هذا الشعور! 

كيف تتغير الأشياء؟ 
مثلما كنت طفلًا قبل أعوام، ها أنت اليوم شابًا... لكنك تحمل وستبقى حاملًا، لملامح/طباع وُلدت وستموت معك، وهذا هو اللاتغيير الذي يحدث. 
وثمة أشياء تحدث وتستمر/ لا تتغير، كشعور عميق كمحبة خالصة لشخص ما. 

الخامس من أيلول

يحملني الطريق.

وظلّي يبتعد. ظِلي طويلٌ كالطريق، ظٍلي في الظلام يختفي.

تاهَ ظِلّي. أنا في الظلام.



أشجان أيلولية (2)

الثالث من أيلول

ليلٌ وأنا. الليلُ وطن مُؤقت. وطن بلا حدود ورايات.
وطن...
وطني غريب.

ولي عليه حقٌ مهدور وضائع. لي عليه حق...! 

أيُّ وطن هذا الذي أُعاتبه الآن في هذه اللحظة من الليل!
في داخلي بقايا ليلٌ لا يزول. هذا الليلُ الذي يطغى في الخارج يزول.

بعدما تعبت من التسوّل بين الباصات والضجيج والنظرات الجامدة والباردة... عادت لتجلس في ظل "كشك من أكشاك مُجمع الباصات "، وأحتضنت طفلها ونظرت إليه بإمعان... نظرت إليه بقوّة، وهي التي تمشي بعيون كسيرة بين العيون الكثيرة،
كانت تهرب ولو بشكل مُؤقت من عُهر الخارج، تهربُ بإحتضانها لطفلها.


حتى في حزنها طفلة. لا تدري ماذا تُريد ولماذا هي حزينة.

الجُدران لا تتغير. تستمر بالمسير الصامت نحو النهاية ربما،

الجُدران قد تنهدم بمعوّل لا تحملهُ يدٌ تخاف.


كل النظريات التي قد تحفظها وتنعقُ بها في كل مُناسبة، ستطير... ستتبخر عند أول إمتحان واقعيّ، لذلك دع النظريات وتأخر في قاعة أيّ إمتحان.

لسنا بحاجة مُنجمّين وعرّافين لنعرف ما يحمله لنا الغد... الغد في شرقنا هذا. هو إستمرارٌ لهزائم الأمس القريب والبعيد،
ولنضمن الغد علينا أن نواجه اليوم، ما نخافهُ غدًا.

تعال وأصرخ بجانبي، ولا تهمس إليّ من بعيد. ربما سأصفعك وأنت قريبٌ وتصرخ، لكنك وانت بعيدٌ وأسمع هَمسك، أكيد سأرغب بقتلك.

اليوم البطولة هي أن تكون "لطيفًا" بشكل جدّي في وقت بات اللُطف عملة نادرة جدًا...!

تملأ دماغك بأفكار هشّة ووردية ولا واقعية، وتخرج مُرغمًا أو برضاك للواقع، وتشعر بكآبة وغُربة، أفرغ دماغك من ذلك الحشو لترتاح قليلاً.

عندما ينتابك إحساسٌ ما عميق ومُبهم، تأكد بأنك بدأت تدخل في مرحلة النوم الأولى... اترك كل شيء من يدك، وأستعد للنوم فقط...

سيهرب النوم من عينيك، وستلعن الفراش والمكان وكل شيء.

***

حياتك تتحرك. اليوم الأول من الشهر. بسرعة تُصبح في اليوم الأخير. تنتبه. ينتابك جزع، أو تستيقظ دهشتك الطفولية... يزول كل شيء وتتدثر برتابة اليوم وممله.
تبحث عن معنى للخارج. دائمًا في داخلك غُربةٌ ما وإحتياج يبدو مُستحيلًا.

تهرب.
 أمسكَ يتشبثُ بك. وغدُكَ يحدثُ بعد قليل. العام القادم بعد قليل. والعام الماضي!
يحدث أن تضيع في رتابة الحياة، وكُنت دائمًا تلعن هذه الرتابة. 
الملل يوقظك في كل صباح لتغتسل بماء فاتر...! 





أشجان أيلولية(1)

الثاني من أيلول. الليلُ هادئ(الواحدة بعد منتصف الليل)... 

جاء هذا الليل بعد نهار حار جدًا، وحرارة آب وأيلول لطيفة مع أنها شديدة، ليست كحرارة حزيران وتموز. 

الصيفُ يهرب. يكاد يختفي، بدأ الهرب منذ أيار، يعني قبل أن يأتي كانَ يهرب.

أمس الأول من أيلول.
حزبُ الله يُدمر آلية عسكرية لجيش الاحتلال الصهيوني. 
وهو لذلك يومٌ عظيم، ولو أنه على المستوى الشخصي يومٌ بائس بعض الشيء.

***

حتمية الهزيمة...
لماذا ننهزم بسهولة أو بصعوبة؟!

لماذا الهزيمة تحدث، وتُزلل "إنتصار ما"؟

هل الهزيمة... هزيمة بالفعل؟

وما الإنتصار؟ كيف تنتصر يا هذا أو ذاك؟

الحياةُ مواجهة مُستمرة، تنتهي بشكل مُؤقت بإنتصار مؤقت غالبًا أو بهزيمة مؤقتة غالبًا أيضًا...
ربما الموت هو آخر هزيمة أو إنتصار!
ربما الإنتصار والهزيمة وجهان لعملة واحدة؟

مذاق الهزيمة مُر، وللإنتصار مذاقٌ حلو/لذيذ.

المرارةُ تبقى وإن خفّ تركيزها واللذّة كذلك تبقى كامنة أو تتراجع لما وراء الوعي لكنها موجودة...!

حتمية الهزيمة تأتي من وعي هشّ وروحٌ تفتقد لقوة المُواجهة والصمود،
حتمية الهزيمة فكرة تنمو كورم سرطانيّ خبيث، تُحطم صاحبها على مهل وبالتدريج المُتسارع يتحول لكائن مهزوم... مهزومٌ بالضرورة!
وصاحب حتمية الهزيمة قد يكون، فرد أو جماعة أو دولة أو إقليم.

ماذا لو تحوّلت حتمية الهزيمة لحتمية الإنتصار؟

***



الأربعاء، 4 سبتمبر 2019

دفاتر سرية



إقتباسات من كتاب "دفاتر سرية" لأنطون تشيخوف(1860-1904)، 
والكتاب الذي نُشر بعد وفاة الكاتب يحتوي على مُلاحظات وأفكار وكلمات دوّنها تشيخوف.

- ستتقوض المُمتلكات عمّا قريب، فالفقر في كل الأرجاء، ولا يزال الخدم يتهندمون كالمُهرجين.

- التبحُّر في الثقافة يُفاقم التعاسة، مَن إزداد علمًا إزداد شقاءً.

- لا تتفق السعادة مع الفلسفة، ما من سعادة إلا وتجسدت في الخمول، وما يبعثُ على السرور هو العديم النفع فحسب.

- الأشكال الأدبية الجديدة تُنتج دائمًا أشكالًا جديدة من الحياة، ولهذا السبب تُثير إمتعاض العقلية المُحافظة.

- يُحب الناس التحدث عن أمراضهم، مع أنها أمضُّ المُنغصات في حياتهم.

- ليَنل الجيلُ القادم السعادة. ولكن يتعيّن عليهم يقينًا طرحُ هذا السؤال على أنفسهم:"لِمَ عاشَ أسلافهم؟ وفيمَ تعذّبوا؟".

- الحُب والصداقة والإحترام لا تُوحد صفوفَ الناس قدر ما توحدها الكراهية العامة تجاه إحدى القضايا.

- رجل وإمرأة يتزوجان، لأن كُلًّا منهما، لا يعرفُ ما هو صانعٌ بنفسه.

- تكمن قوة أيُّ شعب وخَلاصه في طبقته المُثقفة، أيّ في المُثقفين بنزاهة تفكيرهم وحسّهم ومقدرتهم على العمل.

- ثمة ألفُ أحمق مُقابل كل عقل راجح، وألف كلمة خرقاء إزاء كل كلمة واعية. الألف تغلب المُفرد، وهذا هو سبب التقدم الشديد البطء في المُدن والقُرى. تظلُّ الغالبية، أيّ الحشود، بلهاء على الدوام، ولها الغَلبة دائمًا؛ على العاقل التخلي عن أمل التعليم وإبقائه حِكرًا عليه، خيرٌ له الحثّ على المُساهمة في القوى المادية، فيشقُّ سكك القطارات ويمدُّ خطوط البرق(الكهرباء) والهاتف... بتلك الطريقة سوف يسودُ الحياة ويُعين تقدمها.

- لا يقوى المرء على مقاومة الشر، أما الخير فمقاومته مُمكنة.

- لا تكفيك الحكمة لكي تتصرف بحكمة.

- النوم لغز عجيب من ألغاز الطبيعة يُجدد كل طاقات الإنسان الجسدية والروحية.

- مصرف توفير: الموظف، وهو رجل لطيف جدًا، يحتقر المصرف ويعتبره عديم الجدوى.
ومع ذلك يواصل عملهُ هُناك.

- الإيمان مَلكة روحية؛ لا تحوزها الحيوانات، والبرابرة والمُتوحشون لا يُساورهم إلّا الخوف والشكّ. الأشخاص المرموقون فحسب يَسعهم الوصول إلى الإيمان.

- مُريعٌ هو الموت. ولكن الأشدُّ ترويعًا منهُ هو شعورك بأنك قد تحيا إلى الأبد ولن تموت أبدًا.

- في الواقع، يُحبّ الجمهور من الفنّ ما هو عاديّ وما ألِفوه طويلًا، أيّ ما ترعرعوا عليه.

- إذا رغبت في التفاؤل وفهم الحياة، كُفَّ عن تصديق ما يقولهُ الآخرون وما يكسبون، لاحظ وأكتشف بنفسك.

- الوُجهاء، تحديدًا القرويون لا يُطاقون.

- زوجٌ وزوجة إتبّعا فكرة س بحمية كبيرة وراحا يبنيان حياتهما طِبقًا لها وكأنها وصفة طبية.
قُبيل موتهما تساءلا:"ربما تلك الفكرة خاطئة؟ ربما المَثل: العقل السليم في الجسم السليم، غير صحيح؟"

- بحثًا عن خَلاص روحه يحفر المُسلم بئرًا. جميل لو أن كُلًا مِنّا يترك وراءه، مدرسة أو بئرًا أو شيئاً من هذا القبيل، فلا ترحل الحياة إلى الأبدية دون أن تترك أثرًا وراءها.

- لقد أرهقنا الخنوع والرياء.

- تربية: إمضغوا طعامكم جيدًا، أخبرهم والدهم. وكانوا يمضغون طعامهم جيدًا، ويتريّضون ساعتين كلّ يوم، ويستحمون بالماء البارد. ولكنهم كَبروا ليصيروا تُعساء وبلا موهبة.

- يا للحسرة، ما يُرعبني ليسَ الهياكل العظمية، وإنما حقيقةُ أنها ما عادت تُرعبني.

- ماتَ، بسبب الخوف من الكوليرا.

- تصرّف إزاء إقالتك وكأنك تتعامل مع ظاهرة مُناخية.

- الزوج والزوجة مُغرمان بزيارات الضيوف لأنهما يتشاجران إذا لم يزرهما أحد.

- يقولون: إن الحقيقة ستنتصر على المدى البعيد. ولكنَّ ذلك ليسَ صحيحًا.

- يقول الرجل الذكي: هذه إكذوبة، ولكن ما دام الناس عاجزين عن العيش من دون أكاذيب، وما دام حُكم التاريخ سيبتُّ في الأمر فمن الخطر أن تجتثها بأكملها فجأة، دعها تستمر في الوقت الراهن ولكن مع تصحيحات مُعينة، أما العبقري فيقول: هذه إكذوبة، ولذلك لا ينبغي أن تكون موجودة.

- يا رب، لا تدعني أشجبُ أو أقول ما لا أعرف أو ما لا أفهم.

- ن.ن أديب وناقد، واثقٌ من نفسه وحُججه مُفحمة وطليق التفكير، يتحدث عن الشعر، مُتعاليًا يُوافق على آراء الآخرين - وأنا أراهُ رجلاً دون أيّ موهبة على الإطلاق.(لم أقرأه). يقترح أحدهم الذهاب إلى آي-بتري. فأقول إنها ستمطر، وننطلق رغم ذلك.
الطريق مُوحل والمطر ينهمر. يجلس الناقد إلى جواري فأحسُّ بإفتقاره إلى الموهبة.
يتزلفون إليه ويتهافتون عليه وكأنه أسقف.
وعندما تنقشع الغيوم، أعود راجلاً(ماشيًا).
يا للسهولة التي يخدعُ بها الناس أنفسهم، وكم يُحبّون الأنبياء والعرّافين؛ يا له من قطيع!
رافقنا شخصٌ آخر، هو مستشار دولة، في مُنتصف عمره وصامت لإعتقاده بأنهُ على صواب، ويحتقر الناقد لأنه هو أيضاً عديم الموهبة.
كانت هناك فتاة تخشى أن تبتسم لأنها في حَضرة أُناس أذكياء.

- عندما يظهر الأطفال في مشهد حياتنا، فإننا نُبرر بهم كل ضعفنا وتهاوننا وتبجحنا حين نقول:"كل شيء يهون في سبيل أطفالنا".

- ماذا؟ الكُتّاب؟ لو أحببت فبقرش واحد سأجعل منك كاتبًا.

- مشهد حقل بعيد وشجرة بتولا ضئيلة وحيدة. التوقيع أسفل اللوحة: الوحشة.

- شعبٌ ما يتقاعس عن فعل ما. ولكنه يفعلهُ بجنون إذا فعله.

- لِمَ تنمو الأشجار بكل هذا البذخ حين يموت أصحابها؟

- تبدو الحياة عظيمة وشاسعة ومع ذلك يجلس الإنسان على كوبيكاته*عملة روسية) الخمسة.

- كان يُحب الأدب الذي لا يُقلق راحته.

- سيُصدقك الناس. وإن لفقت لهم الأكاذيب، فقط إذا كنت واثقًا مما تقول.

- مَن يُساوره الإحساس بالخطأ هو الوحيد المُعافى القادر على الندم.

- تخيّل زوجته طريحة الفراش مبتورة القدمين وهو يعتني بها من أجل خَلاص روحه.

- يتراءى لي: أنا والبحر - ولا شيء سوانا.

- أمل وحيد لدى الروسي: أن يربح مائتي ألف روبل*عملة روسيه) باليانصيب.

- ما أسمعهُ يدور على شفاه المُسنين هو الحماقة والمكر.

- إعتاد ن طوال حياته كتابة رسائل نابية للمُغنين والمُمثلين والكُتاب المشهورين:"مَن تظن نفسك أيها النذل..." دون أن يوقّع تلك الرسائل بإسمه.

- بعد تفحصّ البناء أقبلت اللجنة المُرتشية على الغداء تلتهمه بشهيةٍ مفتوحة، وكانت تلك بحقّ وليمة جنازة النزاهة.

- يُوقظونه في الثالثة صباحًا؛ عليه أن يذهب إلى عمله في محطة القطار، وهكذا كل يوم طوال الأعوام الأربعة عشر الأخيرة.

- سيدة تتذمر:"كتبت إلى إبني بضرورة تبديل بيّضاته كل يوم سبت. فأجابني: لمَ السبت وليس الاثنين؟ فرددتُ: حسنًا، لا بأس، فليكن الاثنين. فأجاب: لمَ الاثنين وليس الثلاثاء؟" إنهُ رجل خلوق ونزيه، ولكنه يُقلق بالي.

- تتشابه عِظات رجال الدين (على إختلاف درجاتهم) تشابهًا يبعثُ على الدهشة.

- لن يرتقي الإنسان إلا إذا حثثتهُ على رؤية أشباهه.

- رجلٌ إذا أخفق فتح عينيه على وسعهما.

- روسيا سهلٌ شاسع يجوب أرجاءه المُفسدون.

- أحياناً لا يُطاق السعداء والناجحون في كل شيء.

- إنهم صادقون وأنزاه ما دام الصدق والنزاهة غير ضروريين.

- ينطبق هذا الرأي على كلّ شيء من دون إستثناء:"ما جدواه؟ إنه عديم النفع".

- كان يكتب طوال حياته عن الرأسمالية والملايين، ولم يحصل على أيّ نقود قط.

- تُشرق الشمس، وفي روحي الظلام.

- لقد خَبت النجوم منذ أمد بعيد، ولكنها لا تزال تشعُّ بالنسبة للجماهير.

- نُفني أنفسنا إصلاحًا للحياة، لعلّ الأجيال المُقبلة تفوز بالسعادة، وهذه الأجيال سوف تقول كالمُعتاد:"كانت الأمور أحسن في الماضي، الحاضر أسوأ من الماضي".

- يعتبر الناس تحطيم المرأة للأشياء أمرًا طبيعياً يتفهمّه الجميع. أما حين تتمنى الإبداع أو تسعى إليه، على غرار الرجل، فإنهم يحسبون الأمر مُنافيًا للطبيعة ولا يستطيعون القبول به.

- إمرأة هرمت عندما تزوجت.

- إنه يحتقر العالم من علياءِ وضاعته.

- إننا لسوء الحظ، نسعى إلى حلّ أبسط المسائل بطريقة ذكية، وهكذا نُعقّدها تعقيدًا غريباً، دعونا نُفتش عن حلّ بسيط.

- لن تُصبح قديسًا على حساب خطايا الآخرين.

- في حياة بلداتنا لا وجود للتشاؤم ولا للماركسية ولا للحركات السياسية، ليسَ هُناك إلا الركود والحماقة والضحالة.


- كان مُتعطشًا إلى الحياة، ولكن تراءى له معنى هذا العطش رغبةً في الخمر، فشرب نبيذًا. 

الاثنين، 2 سبتمبر 2019

صُبح النصر المُرتقب...

هذه النشوة السماويّة الخالصة التي تعتريني في هذا الصباح الأيلويّ... صبيحة عملية نفذتها المقاومة اللبنانية (حزب الله) بتدمير آلية عسكرية صهيونية،
وأنا أستمع لفيروز تُغني لأرض العزم، للأردن الذي نُحب لأردن السيادة لا الوظيفة. لأردن وصفي وهزاع وناهض وكمال عبيدات وتيسير السبول... 

"شيمٌ أقولُ نسيم أرز هزّني"، تأخذني لأتجول ماشيًا كحاج، كباحث عن لقمة عيش.. عن سبب وجود... تأخذني لعمّان القديمة من مجمع رغدان للساحة الهاشمية، وأمشي على أرصفة البلدة القديمة، وبجانبي جبلُ عمان، يقفُ شامخًا كأنه توأم قاسيون، ومنه أرى جنوب لبنان، جنوب المقاومة والصمود والتحرير...
نعم، في هذا الصباح تجولتُ كثيراً ولم تتعب أقدامي من المسير، أنا الحاج الذي لا يتعب من مُمارسة هذه العبادة... 
هذه النشوة التي أحسّها تغلي وتتفجر في أعماقي، منذ الأمس. منذ قبل الأمس.
في الأمس/اليوم/الغد، أمنيتي واضحة وجليّة؛ ليتني معكم يا جنود المقاومة... يا كرامة المشرق وعزته وعنفوانه وإنتصاره الحتميّ، ليتني معكم مشروع شهيد أو مُقاوم ينتصر قبل النهاية. ينتصر ويرفع راية العروبة ولا يقبل بأجزاء/أنصاف. الحلول، والموت المجاني والحياة الرتيبة المُملة...
هاشم عبدالله، 2019/9/2
قلوبهم لا تنبض.  
يموتون في اليوم مرات عديدة، ويرتقبون موتهم الأخير! 

وعيونهم ليس لها بَريق. لا تلمع عيونهم. مُنطفئة ولم تشتعل يومًا. 

وفي ليلة. غادرتُ نحو السماء باحثًا عن نجمة، وفي سِرّي كنتُ أبحث عن الله! لم أجد نجمة. وجدتُ فراغًا، ووجدتُني لم أغادر حجرتي، لم أنفض عني غُبار الأيام! 

لم أجد الله. ولم أبحث عنه كثيرًا وبشكل جيّد، لكنني لمحتهُ كثيرًا: في الصباحات الباكرة وفي أزقة البيوت المُكتظة وفي الشوارع الضيّقة، وجدته في كرفان أو خيمة لاجئين وفي عيون حبيبتي وعندما تضحك. 
وجدتهُ في عيون المقهورين والخائفين، لمحتهُ هناك يُربتْ على كتف أمٌ ثكلا وأبٌ حزين. 
وجدته يبكي. نعم اللهُ يبكي، في صالات الأفراح وفي الأسواق عندما تزدحم. 
وعندما قُتل أول إنسان، بالتأكيد بكى الله...! 

مَن المؤمن أنا أم هُم؟ 
لستُ مؤمنًا. وهم يُؤمنون ويُقدّسون، وأنا لا أؤمن ولا أُقدس! 
هم عبيدٌ ويخافون - كما يُؤمنون ويُقدّسون - من الحُرية والغد والموت والحُب...! 

اليوم أحتضنتُ الشمس وقبّلتُ وجنتيها. لم تكن حارّة! مَن قال أن الشمس تحترق؟ 
وكم من الحمقى ما زالوا يُؤمنون بأن الشمس تحترق؟! 
والنجمة لم أجدها. والله كان غير موجود. ورأيته هُناك وهُناك وفي كل الأماكن. 

كبيتٍ مهجور. ثابتٌ ومُهدّم. باقٍ. أكادُ أنهار. وتمرُّ عليّ الفصول. شُعاع الشمس يتخزّنُ بي ويأتي الشتاء ليُزيل عنّي الحُمّى...، وتُداهمني العواصفُ الرملية! 
أتجمد. أرتجفُ ولا أنهار. 
أكادُ أذوبُ ولا أنهار... متى يحدث الإنهيار! 
إنهارَتْ أجزائي، وكُلي قائم... لماذا؟ وهل يصحُّ ذلك! 

الشمسُ نصف... ربع.. أقلَّ من ربع قُرص بُرتقاليّ. 
اليوم كان حارًا جدًا، أين الحرارة!



أين الشمس؟ 
-غابت...! 
ستُشرق بعد ساعات. 


الأمس الذي يتسللُ إلى الآن.
 يحملني بين جنبيه، ويشدُّني إليه. يُؤلمني. أُحاول الفَرار، لكنني لستُ جبانًا. لستُ مثلهم. أنا ضعيف. شجاعتي/ضعفي.