السبت، 14 سبتمبر 2019

أشجان أيلولية (5)


ذات صباح أياريّ(2019)، عمّان، فندق جينيفا


لن يمرّوا... لن يجتازوا الوديان والجبال الوعرة، هُم غُرباء هُنا، والأماكن لا تعرفهم، ولا هم يستطيعون معرفتها. والأرضُ لا تحتمل سيرهم فوقها، ولا تتقبلهم في جوفها.
من أين جائوا؟ ولماذا يُريدون الحرب؟

جائوا من كل الأماكن كأنهم جراد عابر للمسافات. يعبرون وينتشرون. لكنهم هُنا لن يمّروا... لن يعبروا، هُنا سيتوقف إنتشارهم الوبائيّ، لأن هذه الأرض تعرف أصحابها... تعرفهم كأم ولدتهم بمخاضات مُؤلمة وربتّهم بسهرها وتعبها وكدّها اليوميّ، 
قريبًا ستحتدم المواجهة...
 ستكون الأرض الأم والسماء والهواء في صفّ الدفاع وصدّ الهجوم، وحتمًا ستنهزم تلك الجماعات العابرة والقادمة من البعيد... لأن هذه الأرض لن ترضى بهم ولن تتقبلهم.

ولماذا جائوا؟

 لأنهم أوغاد وحمقى، ولأنهم ظنّوا بأن الأرض... كلّ الأرض أمهم الحنون، ولن يعرفوا بأن الأرض أم لأصحابها والأم لا تتخلى... تنتصر لأبنائها أو تموت، وشعارها الأبديّ:"لن يمرّوا". 

،،، 

مَضت 40 ثانية، ثمة من إنتحر الآن!

وكم من صدر يحتوي نارًا تشتعل؟ لا دُخان... لا علامات إحتراق... لكنه يحترق ببطئ، شيء ما يحترق بصمت وبلا وهج... النار تنطفئ، ويبقى الرماد، يبقى أثر النار.

لدُخان النار التي إنطفئت أثر، سهل المسح وأثر عميق، والصدر الذي إحترق جيدًا، باتَ مهجورًا إلا من بقايا الإحتراق الذي حدث،
هل يُمكن إعادة الحياة لذلك الصدر؟ هل يمكن مسح آثار الإحتراق وإعادة ترميم وتلوين المكان...؟
هل يُمكن أن يحترق شيء بشكل تام دون أن يموت بشكل تام؟

والذي إنتحر بعد مُضي أربعين ثانية جديدة، هل كان من المُمكن أن يعيش للغد... أن يعيش ليوم يموت، دون أن يختار الموت وهو حيّ...؟


إدانة واضحة لوجودنا وإنسانيتنا: بحسب منظمة الصحة العالمية، فإن هُناك مُنتحر كل 40 ثانية...! 

،،، 

بين الناس غُربة باردة تقبضُ عليّ وتوجعني بقبضتها إلى أن تتركني عندما أنجو من غرقي ذلك. أعلم بأنني لا أكره الناس، ولا أهربُ منهم لكن وجودهم الدائم يُؤلمني فقط، ربما أحتمل هذا الألم لمدة طويلة، ولكن لماذا عليّ أن أحتمل الألم؟ وهكذا أعيشُ في عالمي الخاص بين الناس، إستطعتُ إيجاد وسيلة عَيش تُرضيني، بحيث لا أتحول لمتوحش وخائف.
أستيقظ في كل يوم لأعيش خارج الدوائر التي لا أدري كيف دخلتها والروتين الحتميّ، أُحاول إبتداع حياة شخصية لا تخضع للخارج ووتلون بألوانه، لا لأجل التميّز ولا لأنني مغرور وأناني وكاره وحاقد للحياة، بل لأنني أحب الحياة، ولأنني أدركت بأنها (الحياة) تتعرض في كل يوم لإغتيال وتشويه وتقبيح، هي ليست جميلة وليست قبيحة أيضًا... بل في أحايين كثيرة أرى جمال الحياة وروعتها في تفاصيل لا تمت للإنسان بصلة،
في كلّ صباح ومنذ ثلاث سنوات تقريباً، إذا لم أستيقظ لعمل ما، فأنا أستيقظ لأنني مُحب وعاشق... بالمُناسبة الإستيقاظ القسريّ شكل من أشكال تشويه الحياة وتقبيحها.
مُحب وعاشق لملامح الصباح، تلك الملامح التي صيّرتني عاشقًا ومُوّلهًا بالحياة... كما لملامح الليل سحرها وأثرها، في عشقي وحُبي الجارف لهذه الملعونة والفاتنة، 

أغاني فيروز... قهوة ثقيلة... كتاب يستفز العقل، رواية عظيمة... فتاة هائمة بعشقي أستيقظ على وجودها وحُبها، هذه الأشياء هي التي تستحق أن أعيشُ هذه الحياة بكل قبحها وجمالها لأجلها... أعيشها حتى آخر رمق، وأعيشُ مُناضلًا في سبيل قضايا شتّى، وكل هذه القضايا تتعلق بالحياة والإنسان، أن تعيش مُناضلًا يعني أن تجد جوابًا لسؤال صعب: لماذا أعيش وأستيقظ في كل صباح؟ 

،،، 

غروب الشمس يُشبه بداية شيء مُؤلم... كإنتهاء علاقة عاطفية. برود تلك العاطفة وتحولها لشعور باهت... كموت غريب وموت شغف. كإنتحار..

وشروق الشمس يُشبه البدايات، بداية حُب جارف... بداية الشغف بشيء ما...

وما بين شروق وغروب، نهارٌ طويلٌ وحار وليل كطمأنينة خفيفة،
وليلٌ طويل بارد ونهار قصير دافئ،
 ولا تتشابه الأيام والليالي. 

،،، 

لا أتخيل حياتي بلا فيروز بلا شعور قويّ وعاصف يهدأ ويثور مُجددًا، بلا مآزق ومُستجدات ومُواجهات وغضب دفين وسعادة غامرة تنفجر فجأة وتُغيّر ملامح الأشياء،
لا أتخيلها حياتي بلا حُب لفتاة طفولية أسمها سارة، أو بلا تدخين الكثير من السكائر وشُرب القهوة الثقيلة وفوق الوسط صُبح ومسا... لا أتخيلها بلا إضطرابي المُستمر وتفكيري العنيف والمُرهق بتفاصيل الأشياء ومعانيها،
نعم، مؤمن بأن الروتين شكل من أشكال العبودية، والعبودية يُمكن وصفها بـ"الحياة"، حياتنا اليومية لابد تنطوي على خضوعنا لأشياء خارجية... لأشياء قد تُفرض علينا وقد نختارها، وهُنا تكمن الحرية، حُرية الإختيار، أن أختار الإستيقاظ باكرًا، لأرتوي من هواء الصُبح وألتمس حرارة الشمس.. وأستمع كعاشق لفيروز، وأثمل من قهوتي، وأقرأ وأكتب وأعيش، نعم هكذا أشعر بأنني أعيش، بأن هذا اليوم أنا حيٌ فيه. حيٌ لأنني لا أكرهه، لا أكره يومي، الكراهية شكلٌ مُقزز للموت...
فأنا حيٌ لإني إستيقظت، لأنني أسهر، وأنام مُثقلًا، بقضيتي الوجودية، قضية وجودي أنا، وأنا كلّ الحياة... وأنا الطفل الذي ينظر بعين الدهشة للأشياء، الطفل الذي لا يكبر، والدهشة الطفولية تعني بأن الحياة لم تزل ذات قيمة ومعنى، الحياة ليست خُطة جاهزة وقواعد حتمية.. ليست مُجرد محطة إنتظار لموت قادم،
بالمُناسبة يشيخ الإنسان. عندما يتوقف عن كونه طفل يندهش... عندما تتحول حياته لأيام باهتة ومُكررة، وبلا معنى، وبلا جديد، سوى تغيّر التاريخ والزمن،
أن تكون أنت في عالم مليء بالأشباه... وأن تكون حقيقيًا في حياة تفرض الزيف والوهم، وبأن تنجو بذاتك، من الغرق في مُستنقع المجتمع الذي كَفر بالجوهر والجمال والتفاصيل وعَبد السطحية والمظاهر والشكليات، أن تتسائل في كل صباح لماذا تعيش؟ ولماذا، هذه الكلمة تسبق كل حَدث.. كل حتمية.. كل شيء تماماً، أن تكون تلك قضيتك التي تُناضل في سبيلها، "قضية الوجود".. وجودك أنت قبل كل شيء. 

،،، 


أرى وجهي في المرآة، هل هذه ملامحي؟ هل هذا أنا؟

المرايا كثيرة، تعكسني... أراني بها، ولا أعرفني، من أنا؟
جدراني وسقفي وكل المدى الواسع من حولي مرايا... مرايا تلك العمارات والسيارات والأجساد السائرة على الأرصفة وكل شيء هو في النهاية مرآة، أراني بها، ولا أعرفني!

لن تعرفني ولن أعرفك، ونحن جميعاً مجهولون تمامًا... وهذه الحقيقة مُؤلمة بقدر أهميتها، ولن تصدقها تمامًا، ستبقى دائمًا تتوهم إهتمام الخارج بك وتفهمهم لك... 
ستدرك وحدتك في لحظة ما، وبأن كلماتك لا تُعبّر وربما لا تستطيع ذلك، 

الهواء يحمل رائحة العواصفُ التي تقترب. والليل صديق. رفيق الحالمين/المُنهكين من النهار والذين أيقظتهم الأفكار والهواجس.، تستيقظ الفكرة ويشتعل الهاجس وينطفأ، والفكرة تنعس وتغفو... تحت الرماد ثمة جمر، والغافي سينهض إن عاجلًا أم آجلًا، إلا إذا مات أو أنطفئ الجمر، هل من المُمكن أن أختلقُ هواء يُزيح/يطرد الرماد من فوق الجمر؟ هل لحنجرتي مقدرة على الصُراخ، لعل النائم يستيقظ؟ 

صوتٌ كثير، بل أصوات تتداعى وتتكاثر، لتكوّن سيمفونية أبدية إسمها: نحن. 

غصن مائل، الشجرة تميلُ للأمام. الشجرة عمرها 100 عام، وليتهم وضعوا لها عصا يقوّم وقوفها المائل. 

لا أدري لماذا أشعر بالخوف العميق من إمكانية إرتكابي خطأ لا يُفضي إلى موت، بل إلى حياة زائفة وكلها مُحاولات حمقاء وسخيفة... أخاف من إمكانية تدجيني وترويضي كحيوان حقير، وبأن أكون أداة طيّعة ومُستكينة، ولا أدري لماذا أنا أخشى جدًا... كل شيء أخشاه. 


،،، 

هل يُمكنني يا ليل، أن أطلب منك لحظة صمت.. موت... لأحظى بذاتي، وأشعر بها، بلا إنعكاسات فوضى وضجيج الخارج، بأن أسمع الصمت الغارق في الظُلمة، وبأن أغرق في أبدية اللحظة تلك.
ترفض يا ليل طلبي؟ 
ويخيبُ رجائي وأصمت في حضرة الخارج الكريه. أصمت. أموت حيًا، أُصبح سجينًا، وأنا (حُر)، أين حُريتي؟ أينها؟ بحثتُ عنها كثيرًا، وضيعتني في تيه.
التيهُ مُظلم، ولا ملامح فيه لنهايات وبدايات... في التيه، لا ملامح، كل شيء واحد، والواحد سجن.. َقبر... مكان لا تستطيع مُغادرته لسبب ما؛ كوطن، كبيت عائليّ، تُغادره كارهًا له وتحنُّ إليه... التيهُ منفى أخير، وجحيمٌ أرضي،

منذ البداية، بَدت ملامح النهاية ترتسمُ على صفحة اللحظات،
لكنها تتخفى، تربض تحت قشور الدهشات، وتخرج، كأن "البَعث" قد حان، تخرج النهاية من موت... تحملُ ملامح الموت والعَفن والتُراب، لكنها حيّةٌ الآن، وُلدتْ من جديد، متى ماتت النهاية؟ ربما قبل ولادة البداية.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق