الاثنين، 10 سبتمبر 2018

إرهابية (قصة قصيرة)

كنت راجعة من المدرسة (صفي ثالث)، وكان الجو "غير مُستقر بمعنى الكلمة"، في الصباح كان الجو غائماً وبارد.. بعد ذلك تحوّل لحار.. والآن مُغبر (عاصفة رملية) مع برد وشوب! 
تاريخ اليوم: 2004/4/5.. وما بعرف ليش حسيت إنه صاير شي مش كويس.. وهالشي ما كنت قادرة أتوقع شو هو؟، إنتابني ذلك الإحساس أول ما شفت باب درانا بآخر الطريق.. قدمايّ "تشنجن" و"ثقلّن" كأنهنّ حجارة.. وصدري إختنق.. وفكرت بأن السبب هو الجو! مَرق من جانبي جارنا، رأيت في عينيّة دموع يُجاهد لحبسها، بس شفتها.. توقعت أنه من الغبرة.. بس فيه جواتي شيء غريب مُبهم.. 
قبل وصولي لباب البيت بأمتار قليلة، سمعت بكاءً وصُراخ وصوتٌ غاضب.. ودخلت للبيت.. ورأيت حوش بيتنا "مليان" ناس.. اعمام وخوال وجيران وغرباء.. كلهم يبدو على وجوههم الكرب والحزن الشديد.. لمّا دخلت كلهم إلتفتوا ناحيتي.. والتقت نظراتي بنظرات عمي.. الذي جائني بعيون دامعة ووجهٌ غاضب.  إحتضنني وحملني.. وخرج بي للشارع.. جلسنا على الرصيف(مجموعة حجارة بجانب الشارع).. بقيّ إحساسي المُبهم سيّد الموقف، لم أستطع استنتاج شيء.  ماما كانت تبكي جوّا غرفة الجلوس.. لمحتها هي وبابا اللي كان جالس على كرسي وماسك رأسه بإيديه.. وأختي الكبيرة تجلس بجانب أمي وتبكي.. واخوي.. ما شفت أخوي؟ اليوم إجازة عنده.. هههه الصبح قبل ما أطلع شمتّ فيَّ.. لأني مداومة وهو مُجاز.. قهرني بصراحة.. بس نسيت أسئلة سؤال مُحرج: إنت معطل صح.. طيب ليش صاحي بكير ؟ روح كمّل نوم واستمتع! ما كان له حق يشمت لأنه صاحي مثلي.. بكير!
"أخوكِ إستشهد"، كلمتين حكاهما عمي، قطعوا حبل أفكاري.. صوته كان ضعيفاً، مُرتجفاً، ولم أستوعب تلكما الكلمتيّن.. واللهِ ما استوعبت! شعرت بأنهما تعويذة.. شيفرة.. أي شي ما له معنى واضح!
بس انتبهت لعمي.. طنشت فيه..كأنه فهم شعوري.. كان ينظر للشارع ويتحاشى النظر لوجهي.. وكل شوي يمسح وجهه بيده.. إلتفت ناحيتي واحتضنني.. 
"لينا حبيبتي.. أحمد أستشهد.. تعرفي شو يعني أستشهد؟ يعني هو هسّا بالجنة.. عند ربنا، وعند الرسول.. لا تفكريه.. مات لا اوعك.. هو ما مات.. هو حيّ ويشوفنا وبسمعنا كمان.. هو بطل يا لينا.. أخوكِ بطل... زلمه وبخافش.."
....
آيةٌ سمعتها في ذلك اليوم.. بَقيت محفورةٌ في جدار رأسي.. مُحفوظةٌ في داخلي.. أسمعها إلى هذه اللحظة..:"ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله امواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون.." وفي المساء.. سمعت رجل كبير يتكلم بعد أن وقف بين الناس على عُكازة..:"هُم الزُلم.. اللي ماتوا.. اللي استشهدوا.. همّ العايشين، واحنا اللي ميتين.. ولكوا يا عالم.. شو فايدة الحياة.. إذا أرضنا مُحتلة؟ إذا شبابنا أولادنا بتكتلوا بالشوارع!.." أنهى كلامه ومضى خارجاً من المنزل.. لحقت به ووقفت على الباب لاراه وهو يبتعد.. كان يمشي في ظلام الشارع وكأنه يحمل اثقالاً فوق ظهره.. في اليوم التالي أُدخل إلى المستشفى وبعد أيام قليلة حُمل على الأكتاف ليُدفن في مثواه الأخير..  هو جدّنا أبو صابر، كان يجمعنا ليُحدثنا بحكايات وقصص.. كُنا نجتمع في بيته ويقصُّ علينا حكايات معارك وادي اللطرون وباب الواد والرباط في المسجد الأقصى.. حدثنا عن النكبة والنكسة وحذرنا من تداول تلك المُصطلحات.. كان يُحدثنا عن الانتصارات اللي ما توثقت وما اكتملت لمليون سبب وسبب! والهزائم التي أصبحت ذكريات سنوية تفتح جروح لم تلتئم!..
...
"ماتت البنت.. نادوا الإسعاف.. إتصلووا معهم.."
-اليوم: 2-8-2015.. صحيت بكير.. لسّى إجازة الجامعة ما خلّصت..
قبل كم يوم صحيت على خبر:" مُستوطنون يُضرمون النار في بيت سعد دوابشة.. واستشهاد علي الرضيع، حرقاً.. تفحماً..".
والعام الماضي، كمان صحيت على خبر استشهاد الطفل محمد أبو خضير.. كمان حرقاً، كان شهر رمضان، وكنت لسّى من كم يوم مخلصة توجيهي.. هالاخبار اوجعتني كثير.. ومع كل خير كنت أشوف اخوي أحمد اللي دايما يخطر على بالي.. أتذكر يوم 5-4..
"خَلص بكفي.. ولكُم لو إنا حجار حسينا.. ولكم عشنا وضلينا عايشين.. شو استفدنا؟ شو هالعيشة اللي خايفين عليها ؟ اللي كلها ذل وموت ونار... أحمد وعلي ومحمد والالاف اللي استشهدوا.. بل الملايين اللي ماتوا واحنا ضلينا عايشين بدون ما نوخذ حقهم..!" هكذا حدّث/صرخت بنفسها عندما قرأت الخبر(إحراق بيت الدوابشة)، وتأكدت من قرارها الذي اتخذته قبل ليالي.. وكانت جاهزة له منذ سنين.
واليوم قبل ما أطلع من البيت.. تأملت وجه أمي.. شفت فيه كل شيء.. رأيت أحمد في عينيها، وهي لم تتأخر يوما في الدخول لغرفته.. لتتأمل كتبه.. وتُرتب ملابسه.. أرى في عينيها أبي الذي مات قبل ست سنوات.. ولم يزل القهر يبدو واضحا عليه.. لم يكن يستطيع النوم.. كان يخرج من البيت ليجلس وحيداً على درج الباب.. لا أدري هل كان يبكي ام كان مُتماسكاً !!
أختي مَرح كبرت بعد 5-4.. هي لم تتجاوز بعد الثلاثين من عمرها وقد شابّ شعرها.. وأنا.. كل يوم أكبر ويكبر معي... سمّوه "ثأري" "حقيّ المسلوب" "غضبي وقهري" مُش مهم الإسم.. 
قبل خروجي من البيت إحتضنت أمي. ما حسستها أنه فيه شي.. وذهبت لبيت أختي مرح لأودعها.. ولم اتمالك دموعي عندما ودعتهم.. لأنني سأشتاقهم كثيرا.. لأني مش عارفه شو رح يصير فيهم لما يسمعوا خبري.. حاولت ما أتخيل وجعهم.. دموعهم.. والله اللي فينا مكفينا، وأنا ماشيه بالشارع كنت أردد يارب يسامحوني.. وكنت اشاهدني وأخي في حوش بيتنا نلعب ونضحك ونتشاجر.. 
في حقيبتي سكين.. كمان شوي أصلُ إلى الحاجز.. قبل الحاجز بعشرة أمتار توقفت حتى أخرج سلاحي، والمهم بأن لا ينتبه الجنود إلي.. بعد ما نزلت الحقيبة عالارض إلتفتت ناحية الجنود ورأيت جندي "مطنشّ" فيّ.. حاولت إني ما احسسه بشيء.. 
إلتفتت مرةً أخرى وجدته قد توقف عن النظر إلي.. فتحت الحقيبة.. بحثت بين الكتب.. وين السكين ؟ وضعتها قبل قليل.. ياا ربي ! صفنت.. وفكرت:" معقول أمي لاقيتها.. لااا.. اااه.. ياا بيّيي!" وشعرت بحمّى تجتاحني.. وانتبهت لـ "بساطير" تقف بالقرب مني.. أقصد عدد من الجنود.. مُدججين بالسلاح.. واحدٌ من هالبساطير.. تحدث معي:" على شو تدوري يا حلوه ؟ سكين صح.. مثل هاي !.." وأبتسم ملأ فمه.. ورمى السكين بقربي.. وأنا كنت لسّى منحنية على حقيبتي.. وخلال لحظات شيء نَفذ في خاصرتي و سمعت صوتٌ مُدويّ.. رماني ذلك الشيء للوراء.. وصوتٌ مُدويّ مرةً أخرى.. ولكن هذه المرة في كتفي نَفذ الشيء..الحار.. قوة الوجع لا تُوصف.. للحظات لا تشعر بشيء سوى شيءٌ فولاذيٌ حار يَنفذُ في اللحم.. وعند استقرار ذلك الشيء يُولدُ ألم لا يُمكن وصفه..
لكنه لا يُشبه تلك الأوجاع والآلام التي عاينتها وقاسيتها منذُ سنوات..!

2017-7-1

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق