جاوا اُدخلت "مُستشفى الأمراض العقلية" قبل أيام، بسبب إنها تُعاني من عدة مشاكل نفسية/عقلية.. كالاكتئاب الحاد ونوبات من الهوس الشديد وفي بعض الاحيان تُصاب بهستيريا تُفقدها عقلها تماماً.. المُهم تبيّن أنها تُعاني من تلك المشاكل بالطبع بعد عرضها على أطباء وإجراء ما يلزم من فحوصات وتحاليل.. درجة مرضها "خطيرةٌ جداً"، وقد تم إدخالها للمُستشفى الذي يُشبه قلعة او ثَكنة عسكرية، ولا أحد -الّا الله- يستطيع معرفة ما الذي يجري في داخل ذلك المكان.. فالمشهد الخارجي يبدو كئيباً وهادئ.. ومُوحش..
منذ عامين تقريبا بدأت جاوا عملها كموظفة مُحاسبة في إحدى الشركات الخاصة.. تم قبولها في تلك الوظيفة، بعد عاميّن من البحث والمُقابلات التي تنتهي دائما بلا شيء سوى الأمل الذي يتضاءل بعد فترة إلى أن يندثر.. ومع كلّ مُقابلة عمل جديدة يشعُّ ذلك الأمل ولا يلبث أن يغيب مُجدداً.. إلى أن تمّ قبولها في شركة م.ب للصناعات التحويلية..
كانت قد إستيقظت للتو، ضَجرةً(قرفانه من كل شي)، وكانت الساعة لم تتجاوز بعد الثامنة صباحاً، وكانت قد رأت في منامها حُلماً او كابوس لا يعلم إلا الله ما تصنيفه.. المُهم، كانت ترى نفسها، ولا تعرف نفسها.. وتعرف بأنها هي التي تراها ! وفجأةً رأت ضباباً كثيفاً.. من دون أن تعرف شكل المنطقة التي هي فيها.. فقط ضباب يتكاثف، ورأت نفسها كأنها تشاهد شخصا آخر، وكانت تزحف وتبكي.. لا تستطيع أن تقوم، كأنها رُبطت إلى الأرض. واستيقظت.
إستيقظت كأنها ما زالت تُحاول القيام، ولا تستطيع ذلك..!، بعد لحظاتٍ من إستيقاظها كانت لا تعي شيئا، فقط ذهول وحُمّى شديدة وخوف، كأنها للتو توقفت عن ركض سريع او حمل أثقال.. وبحركة لا إرادية قفزت عن فراشها.. وإلتوت قدمها، وسقطت أرضا تتلوى وتصرخ! ورنّ هاتفها صارخاً معها.
للحظات لم تنتبه لرنين هاتفها المُزعج، وفجأة وكأنها كانت غائبةً عن الوعي إنتبهت للهاتف فوق سريرها.. و وَثبت فوق السرير.. وزحفت فوقه.. نحو الهاتف في الجهة الأخرى! تذكرت لا تدري لماذا، بأن زحفها الآن يُشبه زحفها في الحُلم/الكابوس قبلَ لحظات!
مدّت يدها، وتلّقفت الهاتف..
:آلوو.. صباح الخير.. حضرتك.. جاوا عبد الرحمن..؟
:آآه.. ماا.. شو ؟؟ (ولعنت تسرعها بالردّ)
:إنتي جاوا.. عبد الرحمن ؟
:ايووه.. معك جاوا.. جاوا عبد الرحمن (ولأول مرةٍ تشعر بأن إسمها غريب.. مُنفّر)
:إحنا شركة م.ن.. إلي عملنا معك مقابلة عمل لوظيفة محاسبة، بتاريخ 5/11.. مبرووك جاوا تمت الموافقة عليكِ.. ومن بكرا شرفينا لنوقع معك العقد وتبلشي بشغلك..
إنخرسَّ لسانها (طبيعي لأنها كانت للتو صاحية من.. ما هو أكثر من مُجرد نوم طبيعي ! ولم تكن تتوقع قبولها.. هيك بهذي السهولة، وقد أصبحت مُؤخراً لا تأمل من المُقابلات بشيء، تذهب كواجب أخلاقي فقط)!
:....يعطيك.. العافـ....يـ..ــه.. شُـكـ....راً.
بقيّت لدقائق ذاهلةً، صافنةً، لكنها بعد ذلك أتمتّ واجباتها البيتية على أكمل وجه، بعد أن أخبرت عائلتها بالنبأ الجميل.. السعيد.. بعد ذلك بدأ يَغزوها شعورٌ غريب.. بالفرح و... القَلق الرهيب!
في اليوم التالي ذهبت لشركة م.ن، وقد كان ينهشها خوفٌ وارتباك لا يعلم به الّا الله.. إضافةً لذلك كانت مُنهكةً تماما، لأنها لم تنم سوى سويّعاتٍ قلائل، وهالسويعات كانت شِبه نوم لا نومٌ حقيقيّ! واستغربت بعد استيقاظها بأنها لم ترى منامات.. كوابيس.. بعكس ما قد اعتادت عليه منذ شهور إن لم يكن عام.
اليوم الأول في العمل..
عرفت في اليوم السابق (يوم توقيع العقد)، مُدير الشركة المُهندس شَريف، وبعض الموظفين التي لم تحفظ ذاكرتها أسمائهم.. إلّا "إحسان" وهو شابٌ عندما رأته إعتقدت بأنه لم يزل صغير.. بأنه لم يتجاوز بعد سن الثلاثين.. بالرغم من شكله العام الذي يُوحي للناظر إليه بأنه تجاوز الخمسين من العُمر..!
وصلت جاوا مُبكراً، قبل أغلبية الموظفين إن لم يكن جميعهم، استقبلها موظف الخدمات بكثيرٍ من الحفاوة والترحيب كأنها تزوره في بيته..! هو رجلٌ مُدوّر، وجهه مُتغضن وعيناه زائغتان.. ذاهلتان.. لم تحزر عمره، لكنها تأكدت -لا يعلم إلا الله كيف- بأنه يتصنّع كل شيء يقوم به..!!
وصلت للقسم حيثُ مكتبها.. معها في القسم مكتبان آخران.. جلّست وتفحصّت بعض الأوراق والمُستندات.. في الليله الماضية أذهب النوم من عينيها (عَجقها).. سؤالٌ: ما هو عملها على وجه الدقة ؟
وزجرت نفسها.. بأن توقفي عن طرح مثل تلك الاسئلة الغبيّة.. والواجب عليها أن لا تسئل حتى لا تبدو غبيّةً، الأمور تتسهل مع مرور الوقت.. ككل شيء.
وَصل الموظفون جميعهم في وقتٍ واحد.. بالرغم من أن موعد العمل بدأ.. قبل نصف الساعة !
غداً.. من غداً ستأتي معهم ولن تأتي باكراً ابداً.
وَصل إحسان.. زميلها في القسم.. حيّاها:"صباح الخير.." دون أن ينظر إلى جهتها.. كان عابساً مُقطباً حاحبيّة.. والموظف الآخر لا تعرف أسمه.. دَخل كأنه بلا أقدام يسير عليها، لم يتكلم بشيء ولا حتى أنتبه للتي تجلس معهم في نفس المكتب.. أحسّت صاحبتنا بالإهانة، وحدّثت نفسها:" يمثّل.. واللهِ يمثل.. أنه مش منتبه إلي "
بدأت بالعمل، دون أن تعرف بالتحديد ما العمل الذي يجب عليها القيام به ؟
لكنها إنهمكت كزملائها بالـ... بصراحة، هي تُمثل بأنها مُنهمكة وتسائلت فيما بينها "هل زميليّها كذلك؟"
د.عبد الرحيم الجهوريّ، الحاصل على شهادة الدكتورة في الفلسفة من جامعة..(الله وحده يعلم)، ورئيس قسم المُحاسبة، رأته عَرَضاً بالأمس، وجهه يَنمُّ عن كبرياء مُصطنعة وحقارة نتنه.. هكذا استنتجت عندما رأته في الأمس، أما الآن فهي ترى في وجهه سُخريةً وبلاهةً! ،تَدحرج الجهوريّ في القسم، فقام الزملاء كممسوسين وقامت معهم.. حيّاهم ببرود وقرف.. وبدأ خطبتهُ العصماء.. تتذكرها الى الآن! بدأ كلامه مُتلعثماً، مُمسكاً بطنه(عند قمة الكرش)، (قبل أيام في جلسة تحليل نفسي وفي اللحظات الأولى تذكرت لا تدري لماذا تلك الخُطبة.. ولم تُخبر طبيبها بأنها ظلّت مركزة في طريقة وضع يده على بطنه)، أتمَّ خُطبته. وانتبهت جاوا بسبب الصمت، رأت وجه الرئيس أحمر.. مُتعرق.. كأنه فرغ للتو من مُشاجرةٍ (صوتية).. وختم كلامه بـ "تمام".. رددوا(الّا جاوا): "تمام".. بعد خروج الرئيس، ودقائق الجلوس بذهول.. سئلت صاحبتنا دون أن تَعي تماما ما تقول:"مين هاد ؟ قصدي.. شو حكى ؟؟" نظر الإثنين إليها، وارتسمت على وجوههم علائمُ التساؤل، والذهول، وبعدها السُخرية.. أنقذ الموقف جَلبة الموظفين.. حان وقت الاستراحة!.
جُهد عصبيّ (ما رح أحدد أيام.. هي أحداث تُلّخص عاميّن تقريباً، وترتبط إرتباط وثيق باليوم الأول).
تَجلس في القسم وراء المكتب.. بعد أن تعرضت لموقف.. هو التالي: كانت تمشي بإتجاه القسم، وكان إحسان واقفاً على الباب يتحدث مع ربيع (اسم زميلها الآخر).. إحسان يسدُّ الباب تماما، ووصلت جاوا.. فيما بعد تذكرت بأن صوت خطواتها تُسمع من آخر الممر.. لكن إحسان لم ينتبه للتي تقف وراءه.. لم تطلب منه الابتعاد لا تعلم لماذا، كأن لسانها إنعقد، وإحمرَّ وجهها.. وبعد لحظات (كانت كساعات بالنسبة لها!)، إنتبه إحسان.. فأنتفض مُبتعداً عن طريقها، مُفسحاً لها المجال لتدخل.. لكنه لم يعتذر.
دَخلت، وهي تشعر بالخزيّ و.. بأن نظراتهما حتماً تخترقانها، وتسخر منها.. والاكيد بأنهما يتبادلان الابتسام.. الضحك.. الاستهزاء، إعتقدت ذلك كأنها رأته وعاينته!
إستبدّ بها غضبٌ وحَنق! لكن بصمت.. هي الآن تُفكر حتى لتشعر بأن دماغها سيسكت كقلب مريض، مُنهك تسددت شرايينه.. حدثّت نفسها:"ليش ما.. تنحنحت.. عطست.. ليش ضليّت متسمّرة.. متحنطة لا.. متأكدة كان شايفني.. وعارف إني وراه واقفة.. معقول ما سمع صوت مشيي.. إلي بالشارع سمعوه.. هو يتقصّد أنه يهيني، أكيد.. وهاد التاني اللي حتى سلام ما يسلّم! كأني كرسي او قلم مَنسي على طاولة ؟ يا ربيي ليش هيك ؟ شو يعني.. طزّ، إنسي يا جاوا طنشي"، هكذا حدّثت نفسها، بصوتٍ هامس مسموع، مكظومٌ من الغيظ.. بعد أسابيع قليلة من ذلك الموقف، تبدّل موقفُ ربيع، تبدلاً غير معقول.. بعد أن كان كأنه لا يراها، ولا يُلقي لها بالاً.. أصبح يُعاملها.. كأهمّ موظف.. بل أصبح يتملّقها ويُجاملها بعبارات مُبتذلة.. يُحييها بحرارةٍ.. يتنبّه لأقل كلام تتحدث به.. وكأنه إكتشف وجودها للتو!
هي بادلته الإحترام و... المُجاملة، بل وثقت بهِ كأنها تعرفه منذ سنوات!
وقد كانت بعد موقف الباب المُحرج، تُراقب إحسان وتشعر كُلما نظرت إليه بكُرهٍ و.. بشعور آخر مُناقضٍ للكُره تماماً !
هو لا يَزيد كُلما سنحت فرصةً لذلك على.. "إهانتها.. إحراجها.." وهي مُوقنةٌ من أنه يتعمدّ ذلك! إهانات بلا أي دليل على صحتها وواقعيتها! ومع ذلك كُلما مرّ الوقت كُلما زاد اهتمامها (لا اراديا) بإحسان، مُلاحظة: إحسان هو من النوع الذي ينجذب لأغلب النساء.. من أول لقاء. وهو مع ذلك لا يدري لماذا يُعامل صاحبتنا جاوا هكذا.. يستفزها.. ويستلذّ بإهانتها (دون أن يُهينها مُباشرةً) مثلما ذكرت؟!
هو لا يقوم بتلك الأفعال، الّا في القسم وبحضور ربيع.. أما في الخارج، فلا يُلقي لها بالا كأنها غائبة..!
ومع ذلك فهي تستحوذ على تفكيرة أكثر فأكثر مع مرور الوقت! هو كأغلب (الرجال والنساء)، يعتبر نفسه دائما ذا حُسنٍ وجمالٍ باهر، كأيّ مُمثلٍ هوليوودي، ويضع نفسه في هالةٍ عظيمة، كقائد.. مُتحدث.. لا يتلعثم بالحديث ويعرف كيف ينتقي كلماته..الخ، وصاحبتنا كلّ يوم يزداد فيها "خليط المشاعر" تجاه زميلها..مُلاحظة: حاس حالي بمُسلسل خليجي !
بعد كم شهر بلشت مرحلةٌ جديدة.. أسميتها "مرحلة الاستواء".. في لحظةٍ تبدّل كل شيء، كعادة الزمن وتبدلاته الغير مُتوقعة، كأن ذلك التبدّل الخارق، كانَ رَهناً بخطوة..!
في أحد الأيام، بعد إنقضاء ساعات الدوام الرسمية.. وَجدَ ربيع زميلتهُ جاوا (التي أصبح يشعر تجاهها بمشاعر يجهل ماهيّتها.. تُشبه الشَفقة والرأفة)، كانت جاوا تستند برأسها على راحتيها.. جالسةً خلف مكتبها، شاردةً عن كل شيء.. طَرق ربيعٌ الباب ودَخل، إنتبهت.. أخبرها بأن الدوام خلّص وسألها: "صاير معك شي؟"
أجابت بعد صمت ثقيل:"..اسمع.. ربيع أنا.. رح أترك الشغل!"
"ليشش..؟" (وبَدت على وجهه أمارات الهَلع لا يعلم إلا الله لماذا)
"رح أترك.. لأني.. ربيع أنت أول شخص احكيله.. توعدني ما تحكي لحدا!؟"
"إحكي... شو مالك؟"
"...إمبارح رحت عدكتور.. لأني كنت.. مش عارفه.. بس غيّبت، والدكتور حكى إنو هاي علامات فَشل بالكبد.. بعد ما فحصني.. وأخذ عيّنة دم للتحاليل اللي رح تطلع بعد أسبوع.." إنهالت من عيّنيها دموع.. بعد أن كانت تتكلم بفرح وسرور، يبدو للناظر إلى وجهها بأنه مُصطنع، وتبذل جُهداً شديداً لإظهاره.. صاحبنا ذُعر.. كأنها أخبرته بأنها مُصابة فعلاً بالمرض!..
أصابته قشعريرة، سَرت في جسده، وعندما رجع إلى بيته.. كان قد استبدت بهِ حالةً من.. لا أعرف كيف اصفها ؟ هي حالةً من كلّ المشاعر المُتناقضة!
هو لا ينسى الأيام القليلة والليالي التي تلّت ذلك الخبر. كان لا يعرف سبب كلّ ما ألمَّ بهِ مِن..
كانت تلك "المُصارحة"، بعد أسبوع واحد من توثّق علاقتهما العمليّة (اكتشاف وجودها)، وكان لذلك الأمر عظيم السبب في تبدّل تعاملهُ معها..!! أصبح كأنه يعرفها (كأخته)، يُحاول جاهدا أن لا يُكدر صفو مزاجها..! إلتزم ربيعٌ بالوعد ولم يُفشِ السر.
ومَضت الأيام دون أن يجرؤ على سؤالها او الاستفسار عن نتائج التحاليل..! لا يدري لماذا كان يتعامل مع الأمر وكأنها اخبرته بأنها فعلاً أُصيبت بفشل الكبد وبانها ستموت في يوم كذا.. وهذا الإعتقاد هو سبب حالته تلك التي استولت عليه لأيام وليالي..!
هو الآن يتذكر (جيداً)، وقائع تَلت ذلك الموقف.. ففي يوم دخل المكتب.. ووجدها وحدها تبكي.. من الطبيعي أن يُحاول مُواساتها، أن يقف معها.. إقتربَ منها.. تحدث بضع كلمات إنتقاها ونمّقها جيداً.. لم تردُّ عليه سوى، بـ:"إطلعع براا.. أتركني بحالي.." وطلع براا ولم يغضب او يستاء من لهجتها إطلاقا. فهو يعلم بأنها تُعاني، تتألم.. لم يشعر بالإهانة الّا بعد أشهر!
قد لا تكون إهانة بالمعنى الصحيح، ولكن مُعظم البشر حسّاسون في بعض الأحيان..كثيراً! لا أبالغ إن اخبرتكم بأنها كانت "كالصفعة" على وجهه عندما يتذكرها بعد مرور تلك الأشهر!!
في ذلك الوقت تَكررت "الصفعات"، وصاحبنا لا يتأثر، بل كان يشعر (أحيانا) بأنه سبباً لآلام جاوا!
وفي تلك الأيام كان (إحسان)، لا يتحدث معها الّا لِماماً(رسميّ كثير)، ولا ينسى همزها ولمزها.. كعادته!
لاحظ ربيع "قوّتها" في مواجهة إهانات صديقة.. قوتها كانت هشةً، تتصنعها بإتقان.. أحيانا تمتلأُ عيّنيها بدموع، تُجاهد في حبسها.. والمواقف في مُجملها "سخيفة"، لولا التاؤيلات.. مع مرور الوقت بدأت تستمتع بما تتعرض لهُ من صنوف الاستهزاء والاهانات المُبطنة.. وهي كذلك تستفزهُ.. وتُهينه بقدر المُستطاع.
الآن استبقُ الأحداث.. واخبركم عن التبدّل الرهيب الذي حدث.. وبعد هذا التبدّل بأشهرٍ قليلة كانت نهاية كل شيء بالمعنى الصحيح..
الكلمات على لسان ربيع: بلا سبب واضح، فجأةً أصبحا صديّقين، كأنهما لم يتشاجرا يوماً.. كأنهما لم يُناصبّا بعضهما العداء الذكوريّ/النسويّ يوماً ما..
وأصبحت أنا لا مرئيٌّ تماما، بالنسبة لهما.. كانا يتحدثان وكأنني غائبٌ او جُثة مَرميةً في المكتب!
الأمر كان مُعقد جداً، لماذا استنكرت الإحترام الذي بدأ بينهما ؟ ولماذا أصبحت أكره إحسان واحتقره بهذا الشكل ؟
ففي أحد الأيام غضبتُ، عندما رأيتها تتحدث إليه.. رأسي تحوّل لشُعلة نار، وجسدي إقشعرّ من ذلك.. الحديث (الروتيني بينهما). بعدما خرجتُ من المكتب أُجاهد لإخفاء غضبي.. وذُعري.. فكرتُ بأنني أُعاني ما أُعانيه، بسبب خوفي عليها منه.. فأنا اعرفه جيداً وهي لا تعرفه.. ولا أعلم لماذا فكرت بأنه يستدرجها لأمر ما، ما هو الأمر؟ لم أستطع تحديدهُ آنذاك على وجه الدقة!
بالفعل.. صاحبنا ربيع أصبح لا مرئي في ذلك المكتب.. بل أصبح يُعامل، ككُرسيّ.. كمكبسٍ للورق.. فهم لا يأبهون لوجوده إطلاقاً.
زيادةً على ذلك صارَ، يشعر بإحتقار جاوا لهُ، ففي إحدى المرات وجهت لهُ تُهمةً ما.. وادانته بفعل لم يرتكبه و.. زعلت منه! مما اضطره للإعتذار منها(مُتاثراً بفرضية فقدها القريب).. لا يدري على شو ؟ وهو إلى الآن لا يدري هل كانت جادةً ام تمزح؟! وكان لا اراديا يستحثّها لردّ الجميل، والوقوف معه.. كما وقف معها كثيراً!
مرةً واحدةً فعلها، أخبرها بمُعاناة مُزيفة كان يعيشها آنذاك، وكان لا يرجو سوى مواساتها لهُ.. وأراد أن يخبرها بشكوكه وبحقيقة إحسان.. لكن هيهات، لم يقدر على الكلام بالأمر.. بماذا سيتكلم أصلاً ؟ هو مُتأكد من الأمر(بالفعل حصل ذلك الأمر بعد ذلك!).. لكنه في ذلك اليوم، كان من "الخطأ الفظيع" إن تكلّم!
حتماً سيُفهم كلامه بشتّى التأويلات، كتشويه سُمعة إحسان لأنه حتماً يغارُ منه.. يحسده.. ألخ.
ولكن ما العمل ؟
مَشت الأيام بسرعة، وتوالت الشهور، وقد توثقت علاقة جاوا بإحسان، واصبحا كحبيبيّن او يكادا.. في إحدى الأيام أخبرت جاوا ربيع بما يجولُ في خاطرها، بأنها لم تفهم قصد إحسان من كلامه قبل ساعتين..
"...حكى بدّو يتزوجني..؟؟ سمعتو أنت صح ؟!"
ربيع كأنه كان يعرف هذه النتيجة، ولكنه لم يُجيب سوى بكلمات مُبهمة، وبعد يومين من ذلك الحديث، كان إحسان يُحدث ربيع عن جاوا..: "هالبنت تجنن.. ومُحترمة.. وكويسة.. وما شاء اللهُ عنها" وكذلك استغرب ربيع، بأن إحسان لم يتحدث عن "زواج" قد يحدث بين.. الحبيبيّن.
وهامت جاوا عشقاً وتعلّقاً.. وبعد شهرين بالتمام، كانوا الثلاثة، يجلسون وراء مكاتبهم في القسم.. وقد اعتاد ربيع أن يراهم يُمازحون بعضهم بلا تكلّفةٍ او إحترام حتى.. وفجأةً حدث ما لم يُتوقع كعادة الأحداث..
جاوا تقول لإحسان:"إنت كلب.. تشبه الكلاب اللي بالشارع.. ها ها ها"
بعد تلك الكلمات هدأ كل شيء، تبدّل وجه إحسان، وتحوّل للون القُرمز الفاتح.. تراجعت جاوا غريزيا.. وبفورة غضبٍ جامح تحدث إحسان: إنتي الكلبة.. يااا*** فعلاً إنك ما.."
جاوا صُعقت، وتسمّرت لدقائق في مكانها، وخرجت من المكتب مُندفعةً.. وكذلك فعل إحسان، هي توجهت لليمين وهو لليسار.. وأبتسم ربيع بأسىً واضح على مُحياه!
منذ عامين تقريبا بدأت جاوا عملها كموظفة مُحاسبة في إحدى الشركات الخاصة.. تم قبولها في تلك الوظيفة، بعد عاميّن من البحث والمُقابلات التي تنتهي دائما بلا شيء سوى الأمل الذي يتضاءل بعد فترة إلى أن يندثر.. ومع كلّ مُقابلة عمل جديدة يشعُّ ذلك الأمل ولا يلبث أن يغيب مُجدداً.. إلى أن تمّ قبولها في شركة م.ب للصناعات التحويلية..
كانت قد إستيقظت للتو، ضَجرةً(قرفانه من كل شي)، وكانت الساعة لم تتجاوز بعد الثامنة صباحاً، وكانت قد رأت في منامها حُلماً او كابوس لا يعلم إلا الله ما تصنيفه.. المُهم، كانت ترى نفسها، ولا تعرف نفسها.. وتعرف بأنها هي التي تراها ! وفجأةً رأت ضباباً كثيفاً.. من دون أن تعرف شكل المنطقة التي هي فيها.. فقط ضباب يتكاثف، ورأت نفسها كأنها تشاهد شخصا آخر، وكانت تزحف وتبكي.. لا تستطيع أن تقوم، كأنها رُبطت إلى الأرض. واستيقظت.
إستيقظت كأنها ما زالت تُحاول القيام، ولا تستطيع ذلك..!، بعد لحظاتٍ من إستيقاظها كانت لا تعي شيئا، فقط ذهول وحُمّى شديدة وخوف، كأنها للتو توقفت عن ركض سريع او حمل أثقال.. وبحركة لا إرادية قفزت عن فراشها.. وإلتوت قدمها، وسقطت أرضا تتلوى وتصرخ! ورنّ هاتفها صارخاً معها.
للحظات لم تنتبه لرنين هاتفها المُزعج، وفجأة وكأنها كانت غائبةً عن الوعي إنتبهت للهاتف فوق سريرها.. و وَثبت فوق السرير.. وزحفت فوقه.. نحو الهاتف في الجهة الأخرى! تذكرت لا تدري لماذا، بأن زحفها الآن يُشبه زحفها في الحُلم/الكابوس قبلَ لحظات!
مدّت يدها، وتلّقفت الهاتف..
:آلوو.. صباح الخير.. حضرتك.. جاوا عبد الرحمن..؟
:آآه.. ماا.. شو ؟؟ (ولعنت تسرعها بالردّ)
:إنتي جاوا.. عبد الرحمن ؟
:ايووه.. معك جاوا.. جاوا عبد الرحمن (ولأول مرةٍ تشعر بأن إسمها غريب.. مُنفّر)
:إحنا شركة م.ن.. إلي عملنا معك مقابلة عمل لوظيفة محاسبة، بتاريخ 5/11.. مبرووك جاوا تمت الموافقة عليكِ.. ومن بكرا شرفينا لنوقع معك العقد وتبلشي بشغلك..
إنخرسَّ لسانها (طبيعي لأنها كانت للتو صاحية من.. ما هو أكثر من مُجرد نوم طبيعي ! ولم تكن تتوقع قبولها.. هيك بهذي السهولة، وقد أصبحت مُؤخراً لا تأمل من المُقابلات بشيء، تذهب كواجب أخلاقي فقط)!
:....يعطيك.. العافـ....يـ..ــه.. شُـكـ....راً.
بقيّت لدقائق ذاهلةً، صافنةً، لكنها بعد ذلك أتمتّ واجباتها البيتية على أكمل وجه، بعد أن أخبرت عائلتها بالنبأ الجميل.. السعيد.. بعد ذلك بدأ يَغزوها شعورٌ غريب.. بالفرح و... القَلق الرهيب!
في اليوم التالي ذهبت لشركة م.ن، وقد كان ينهشها خوفٌ وارتباك لا يعلم به الّا الله.. إضافةً لذلك كانت مُنهكةً تماما، لأنها لم تنم سوى سويّعاتٍ قلائل، وهالسويعات كانت شِبه نوم لا نومٌ حقيقيّ! واستغربت بعد استيقاظها بأنها لم ترى منامات.. كوابيس.. بعكس ما قد اعتادت عليه منذ شهور إن لم يكن عام.
اليوم الأول في العمل..
عرفت في اليوم السابق (يوم توقيع العقد)، مُدير الشركة المُهندس شَريف، وبعض الموظفين التي لم تحفظ ذاكرتها أسمائهم.. إلّا "إحسان" وهو شابٌ عندما رأته إعتقدت بأنه لم يزل صغير.. بأنه لم يتجاوز بعد سن الثلاثين.. بالرغم من شكله العام الذي يُوحي للناظر إليه بأنه تجاوز الخمسين من العُمر..!
وصلت جاوا مُبكراً، قبل أغلبية الموظفين إن لم يكن جميعهم، استقبلها موظف الخدمات بكثيرٍ من الحفاوة والترحيب كأنها تزوره في بيته..! هو رجلٌ مُدوّر، وجهه مُتغضن وعيناه زائغتان.. ذاهلتان.. لم تحزر عمره، لكنها تأكدت -لا يعلم إلا الله كيف- بأنه يتصنّع كل شيء يقوم به..!!
وصلت للقسم حيثُ مكتبها.. معها في القسم مكتبان آخران.. جلّست وتفحصّت بعض الأوراق والمُستندات.. في الليله الماضية أذهب النوم من عينيها (عَجقها).. سؤالٌ: ما هو عملها على وجه الدقة ؟
وزجرت نفسها.. بأن توقفي عن طرح مثل تلك الاسئلة الغبيّة.. والواجب عليها أن لا تسئل حتى لا تبدو غبيّةً، الأمور تتسهل مع مرور الوقت.. ككل شيء.
وَصل الموظفون جميعهم في وقتٍ واحد.. بالرغم من أن موعد العمل بدأ.. قبل نصف الساعة !
غداً.. من غداً ستأتي معهم ولن تأتي باكراً ابداً.
وَصل إحسان.. زميلها في القسم.. حيّاها:"صباح الخير.." دون أن ينظر إلى جهتها.. كان عابساً مُقطباً حاحبيّة.. والموظف الآخر لا تعرف أسمه.. دَخل كأنه بلا أقدام يسير عليها، لم يتكلم بشيء ولا حتى أنتبه للتي تجلس معهم في نفس المكتب.. أحسّت صاحبتنا بالإهانة، وحدّثت نفسها:" يمثّل.. واللهِ يمثل.. أنه مش منتبه إلي "
بدأت بالعمل، دون أن تعرف بالتحديد ما العمل الذي يجب عليها القيام به ؟
لكنها إنهمكت كزملائها بالـ... بصراحة، هي تُمثل بأنها مُنهمكة وتسائلت فيما بينها "هل زميليّها كذلك؟"
د.عبد الرحيم الجهوريّ، الحاصل على شهادة الدكتورة في الفلسفة من جامعة..(الله وحده يعلم)، ورئيس قسم المُحاسبة، رأته عَرَضاً بالأمس، وجهه يَنمُّ عن كبرياء مُصطنعة وحقارة نتنه.. هكذا استنتجت عندما رأته في الأمس، أما الآن فهي ترى في وجهه سُخريةً وبلاهةً! ،تَدحرج الجهوريّ في القسم، فقام الزملاء كممسوسين وقامت معهم.. حيّاهم ببرود وقرف.. وبدأ خطبتهُ العصماء.. تتذكرها الى الآن! بدأ كلامه مُتلعثماً، مُمسكاً بطنه(عند قمة الكرش)، (قبل أيام في جلسة تحليل نفسي وفي اللحظات الأولى تذكرت لا تدري لماذا تلك الخُطبة.. ولم تُخبر طبيبها بأنها ظلّت مركزة في طريقة وضع يده على بطنه)، أتمَّ خُطبته. وانتبهت جاوا بسبب الصمت، رأت وجه الرئيس أحمر.. مُتعرق.. كأنه فرغ للتو من مُشاجرةٍ (صوتية).. وختم كلامه بـ "تمام".. رددوا(الّا جاوا): "تمام".. بعد خروج الرئيس، ودقائق الجلوس بذهول.. سئلت صاحبتنا دون أن تَعي تماما ما تقول:"مين هاد ؟ قصدي.. شو حكى ؟؟" نظر الإثنين إليها، وارتسمت على وجوههم علائمُ التساؤل، والذهول، وبعدها السُخرية.. أنقذ الموقف جَلبة الموظفين.. حان وقت الاستراحة!.
جُهد عصبيّ (ما رح أحدد أيام.. هي أحداث تُلّخص عاميّن تقريباً، وترتبط إرتباط وثيق باليوم الأول).
تَجلس في القسم وراء المكتب.. بعد أن تعرضت لموقف.. هو التالي: كانت تمشي بإتجاه القسم، وكان إحسان واقفاً على الباب يتحدث مع ربيع (اسم زميلها الآخر).. إحسان يسدُّ الباب تماما، ووصلت جاوا.. فيما بعد تذكرت بأن صوت خطواتها تُسمع من آخر الممر.. لكن إحسان لم ينتبه للتي تقف وراءه.. لم تطلب منه الابتعاد لا تعلم لماذا، كأن لسانها إنعقد، وإحمرَّ وجهها.. وبعد لحظات (كانت كساعات بالنسبة لها!)، إنتبه إحسان.. فأنتفض مُبتعداً عن طريقها، مُفسحاً لها المجال لتدخل.. لكنه لم يعتذر.
دَخلت، وهي تشعر بالخزيّ و.. بأن نظراتهما حتماً تخترقانها، وتسخر منها.. والاكيد بأنهما يتبادلان الابتسام.. الضحك.. الاستهزاء، إعتقدت ذلك كأنها رأته وعاينته!
إستبدّ بها غضبٌ وحَنق! لكن بصمت.. هي الآن تُفكر حتى لتشعر بأن دماغها سيسكت كقلب مريض، مُنهك تسددت شرايينه.. حدثّت نفسها:"ليش ما.. تنحنحت.. عطست.. ليش ضليّت متسمّرة.. متحنطة لا.. متأكدة كان شايفني.. وعارف إني وراه واقفة.. معقول ما سمع صوت مشيي.. إلي بالشارع سمعوه.. هو يتقصّد أنه يهيني، أكيد.. وهاد التاني اللي حتى سلام ما يسلّم! كأني كرسي او قلم مَنسي على طاولة ؟ يا ربيي ليش هيك ؟ شو يعني.. طزّ، إنسي يا جاوا طنشي"، هكذا حدّثت نفسها، بصوتٍ هامس مسموع، مكظومٌ من الغيظ.. بعد أسابيع قليلة من ذلك الموقف، تبدّل موقفُ ربيع، تبدلاً غير معقول.. بعد أن كان كأنه لا يراها، ولا يُلقي لها بالاً.. أصبح يُعاملها.. كأهمّ موظف.. بل أصبح يتملّقها ويُجاملها بعبارات مُبتذلة.. يُحييها بحرارةٍ.. يتنبّه لأقل كلام تتحدث به.. وكأنه إكتشف وجودها للتو!
هي بادلته الإحترام و... المُجاملة، بل وثقت بهِ كأنها تعرفه منذ سنوات!
وقد كانت بعد موقف الباب المُحرج، تُراقب إحسان وتشعر كُلما نظرت إليه بكُرهٍ و.. بشعور آخر مُناقضٍ للكُره تماماً !
هو لا يَزيد كُلما سنحت فرصةً لذلك على.. "إهانتها.. إحراجها.." وهي مُوقنةٌ من أنه يتعمدّ ذلك! إهانات بلا أي دليل على صحتها وواقعيتها! ومع ذلك كُلما مرّ الوقت كُلما زاد اهتمامها (لا اراديا) بإحسان، مُلاحظة: إحسان هو من النوع الذي ينجذب لأغلب النساء.. من أول لقاء. وهو مع ذلك لا يدري لماذا يُعامل صاحبتنا جاوا هكذا.. يستفزها.. ويستلذّ بإهانتها (دون أن يُهينها مُباشرةً) مثلما ذكرت؟!
هو لا يقوم بتلك الأفعال، الّا في القسم وبحضور ربيع.. أما في الخارج، فلا يُلقي لها بالا كأنها غائبة..!
ومع ذلك فهي تستحوذ على تفكيرة أكثر فأكثر مع مرور الوقت! هو كأغلب (الرجال والنساء)، يعتبر نفسه دائما ذا حُسنٍ وجمالٍ باهر، كأيّ مُمثلٍ هوليوودي، ويضع نفسه في هالةٍ عظيمة، كقائد.. مُتحدث.. لا يتلعثم بالحديث ويعرف كيف ينتقي كلماته..الخ، وصاحبتنا كلّ يوم يزداد فيها "خليط المشاعر" تجاه زميلها..مُلاحظة: حاس حالي بمُسلسل خليجي !
بعد كم شهر بلشت مرحلةٌ جديدة.. أسميتها "مرحلة الاستواء".. في لحظةٍ تبدّل كل شيء، كعادة الزمن وتبدلاته الغير مُتوقعة، كأن ذلك التبدّل الخارق، كانَ رَهناً بخطوة..!
في أحد الأيام، بعد إنقضاء ساعات الدوام الرسمية.. وَجدَ ربيع زميلتهُ جاوا (التي أصبح يشعر تجاهها بمشاعر يجهل ماهيّتها.. تُشبه الشَفقة والرأفة)، كانت جاوا تستند برأسها على راحتيها.. جالسةً خلف مكتبها، شاردةً عن كل شيء.. طَرق ربيعٌ الباب ودَخل، إنتبهت.. أخبرها بأن الدوام خلّص وسألها: "صاير معك شي؟"
أجابت بعد صمت ثقيل:"..اسمع.. ربيع أنا.. رح أترك الشغل!"
"ليشش..؟" (وبَدت على وجهه أمارات الهَلع لا يعلم إلا الله لماذا)
"رح أترك.. لأني.. ربيع أنت أول شخص احكيله.. توعدني ما تحكي لحدا!؟"
"إحكي... شو مالك؟"
"...إمبارح رحت عدكتور.. لأني كنت.. مش عارفه.. بس غيّبت، والدكتور حكى إنو هاي علامات فَشل بالكبد.. بعد ما فحصني.. وأخذ عيّنة دم للتحاليل اللي رح تطلع بعد أسبوع.." إنهالت من عيّنيها دموع.. بعد أن كانت تتكلم بفرح وسرور، يبدو للناظر إلى وجهها بأنه مُصطنع، وتبذل جُهداً شديداً لإظهاره.. صاحبنا ذُعر.. كأنها أخبرته بأنها مُصابة فعلاً بالمرض!..
أصابته قشعريرة، سَرت في جسده، وعندما رجع إلى بيته.. كان قد استبدت بهِ حالةً من.. لا أعرف كيف اصفها ؟ هي حالةً من كلّ المشاعر المُتناقضة!
هو لا ينسى الأيام القليلة والليالي التي تلّت ذلك الخبر. كان لا يعرف سبب كلّ ما ألمَّ بهِ مِن..
كانت تلك "المُصارحة"، بعد أسبوع واحد من توثّق علاقتهما العمليّة (اكتشاف وجودها)، وكان لذلك الأمر عظيم السبب في تبدّل تعاملهُ معها..!! أصبح كأنه يعرفها (كأخته)، يُحاول جاهدا أن لا يُكدر صفو مزاجها..! إلتزم ربيعٌ بالوعد ولم يُفشِ السر.
ومَضت الأيام دون أن يجرؤ على سؤالها او الاستفسار عن نتائج التحاليل..! لا يدري لماذا كان يتعامل مع الأمر وكأنها اخبرته بأنها فعلاً أُصيبت بفشل الكبد وبانها ستموت في يوم كذا.. وهذا الإعتقاد هو سبب حالته تلك التي استولت عليه لأيام وليالي..!
هو الآن يتذكر (جيداً)، وقائع تَلت ذلك الموقف.. ففي يوم دخل المكتب.. ووجدها وحدها تبكي.. من الطبيعي أن يُحاول مُواساتها، أن يقف معها.. إقتربَ منها.. تحدث بضع كلمات إنتقاها ونمّقها جيداً.. لم تردُّ عليه سوى، بـ:"إطلعع براا.. أتركني بحالي.." وطلع براا ولم يغضب او يستاء من لهجتها إطلاقا. فهو يعلم بأنها تُعاني، تتألم.. لم يشعر بالإهانة الّا بعد أشهر!
قد لا تكون إهانة بالمعنى الصحيح، ولكن مُعظم البشر حسّاسون في بعض الأحيان..كثيراً! لا أبالغ إن اخبرتكم بأنها كانت "كالصفعة" على وجهه عندما يتذكرها بعد مرور تلك الأشهر!!
في ذلك الوقت تَكررت "الصفعات"، وصاحبنا لا يتأثر، بل كان يشعر (أحيانا) بأنه سبباً لآلام جاوا!
وفي تلك الأيام كان (إحسان)، لا يتحدث معها الّا لِماماً(رسميّ كثير)، ولا ينسى همزها ولمزها.. كعادته!
لاحظ ربيع "قوّتها" في مواجهة إهانات صديقة.. قوتها كانت هشةً، تتصنعها بإتقان.. أحيانا تمتلأُ عيّنيها بدموع، تُجاهد في حبسها.. والمواقف في مُجملها "سخيفة"، لولا التاؤيلات.. مع مرور الوقت بدأت تستمتع بما تتعرض لهُ من صنوف الاستهزاء والاهانات المُبطنة.. وهي كذلك تستفزهُ.. وتُهينه بقدر المُستطاع.
الآن استبقُ الأحداث.. واخبركم عن التبدّل الرهيب الذي حدث.. وبعد هذا التبدّل بأشهرٍ قليلة كانت نهاية كل شيء بالمعنى الصحيح..
الكلمات على لسان ربيع: بلا سبب واضح، فجأةً أصبحا صديّقين، كأنهما لم يتشاجرا يوماً.. كأنهما لم يُناصبّا بعضهما العداء الذكوريّ/النسويّ يوماً ما..
وأصبحت أنا لا مرئيٌّ تماما، بالنسبة لهما.. كانا يتحدثان وكأنني غائبٌ او جُثة مَرميةً في المكتب!
الأمر كان مُعقد جداً، لماذا استنكرت الإحترام الذي بدأ بينهما ؟ ولماذا أصبحت أكره إحسان واحتقره بهذا الشكل ؟
ففي أحد الأيام غضبتُ، عندما رأيتها تتحدث إليه.. رأسي تحوّل لشُعلة نار، وجسدي إقشعرّ من ذلك.. الحديث (الروتيني بينهما). بعدما خرجتُ من المكتب أُجاهد لإخفاء غضبي.. وذُعري.. فكرتُ بأنني أُعاني ما أُعانيه، بسبب خوفي عليها منه.. فأنا اعرفه جيداً وهي لا تعرفه.. ولا أعلم لماذا فكرت بأنه يستدرجها لأمر ما، ما هو الأمر؟ لم أستطع تحديدهُ آنذاك على وجه الدقة!
بالفعل.. صاحبنا ربيع أصبح لا مرئي في ذلك المكتب.. بل أصبح يُعامل، ككُرسيّ.. كمكبسٍ للورق.. فهم لا يأبهون لوجوده إطلاقاً.
زيادةً على ذلك صارَ، يشعر بإحتقار جاوا لهُ، ففي إحدى المرات وجهت لهُ تُهمةً ما.. وادانته بفعل لم يرتكبه و.. زعلت منه! مما اضطره للإعتذار منها(مُتاثراً بفرضية فقدها القريب).. لا يدري على شو ؟ وهو إلى الآن لا يدري هل كانت جادةً ام تمزح؟! وكان لا اراديا يستحثّها لردّ الجميل، والوقوف معه.. كما وقف معها كثيراً!
مرةً واحدةً فعلها، أخبرها بمُعاناة مُزيفة كان يعيشها آنذاك، وكان لا يرجو سوى مواساتها لهُ.. وأراد أن يخبرها بشكوكه وبحقيقة إحسان.. لكن هيهات، لم يقدر على الكلام بالأمر.. بماذا سيتكلم أصلاً ؟ هو مُتأكد من الأمر(بالفعل حصل ذلك الأمر بعد ذلك!).. لكنه في ذلك اليوم، كان من "الخطأ الفظيع" إن تكلّم!
حتماً سيُفهم كلامه بشتّى التأويلات، كتشويه سُمعة إحسان لأنه حتماً يغارُ منه.. يحسده.. ألخ.
ولكن ما العمل ؟
مَشت الأيام بسرعة، وتوالت الشهور، وقد توثقت علاقة جاوا بإحسان، واصبحا كحبيبيّن او يكادا.. في إحدى الأيام أخبرت جاوا ربيع بما يجولُ في خاطرها، بأنها لم تفهم قصد إحسان من كلامه قبل ساعتين..
"...حكى بدّو يتزوجني..؟؟ سمعتو أنت صح ؟!"
ربيع كأنه كان يعرف هذه النتيجة، ولكنه لم يُجيب سوى بكلمات مُبهمة، وبعد يومين من ذلك الحديث، كان إحسان يُحدث ربيع عن جاوا..: "هالبنت تجنن.. ومُحترمة.. وكويسة.. وما شاء اللهُ عنها" وكذلك استغرب ربيع، بأن إحسان لم يتحدث عن "زواج" قد يحدث بين.. الحبيبيّن.
وهامت جاوا عشقاً وتعلّقاً.. وبعد شهرين بالتمام، كانوا الثلاثة، يجلسون وراء مكاتبهم في القسم.. وقد اعتاد ربيع أن يراهم يُمازحون بعضهم بلا تكلّفةٍ او إحترام حتى.. وفجأةً حدث ما لم يُتوقع كعادة الأحداث..
جاوا تقول لإحسان:"إنت كلب.. تشبه الكلاب اللي بالشارع.. ها ها ها"
بعد تلك الكلمات هدأ كل شيء، تبدّل وجه إحسان، وتحوّل للون القُرمز الفاتح.. تراجعت جاوا غريزيا.. وبفورة غضبٍ جامح تحدث إحسان: إنتي الكلبة.. يااا*** فعلاً إنك ما.."
جاوا صُعقت، وتسمّرت لدقائق في مكانها، وخرجت من المكتب مُندفعةً.. وكذلك فعل إحسان، هي توجهت لليمين وهو لليسار.. وأبتسم ربيع بأسىً واضح على مُحياه!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق