الخميس، 4 أكتوبر 2018

حديث الجُدران

الجُدران تُحاصرني. وحاجتي للكتابة صارت كحاجة الكائن الحيّ للماء والأكل والسُلطة والحُب و.. الوطن !

أيُّ وطن ؟ هذه كلمةٌ جوفاء فارغة !

الأوطان أكبر من مُجرد، أراضٍ مُحدّدة بأشياك وأسوار، وصوّر لقادة وألحان وترانيم لأغانٍ وطنية، وكلمات مكرورة تتناقلها الأجيال حتى غدت باليةٍ وغير مُجدية!
عن أي أوطان يتحدثون ؟
عن تلك اللتي ضاقت بأهلها ولم تحتمل وجودهم عليها، فَلفظتهم خارجها، لتتلقفهم أمواج البحار وتستوطن جُثثهم قيعانها ؟
أم عن أوطان وأدت طاقات/طموحات شبابها في التغيير. والحصول على حقوقهم "الإنسانية"، واكرهتهم على الهجرة والاغتراب طلباً لتلك الحقوق ؟



كفرتُ بكلّ الأشخاص والأسماء والمفاهيم والمعاني، وآمنتُ.. هل أنا مؤمنٌ بشيء ؟
"عدم الإيمان" لا يتوافق -إطلاقاً- مع ضعفنا (الإنساني).
الجُدران وحدها تُعريّنا، تفضحنا، أمامنا..! فهل أصبحت الجُدران مرايا زُجاجية تعكسنا لنرانا ؟
وهل يوجد أتعس من إنسان لا يجد لنفسه مكاناً يكون فيه على سجيّته ؟
مَن يعرفك ؟ لا أحد !
هل تعرفُ نفسك أو هل حاولت معرفتك ؟
دعني أُحدثكَّ بحديث الجُدران؛ الجُدران مُجرد وهمٌ جميل، يحمينا من عيون الآخرين ومع ذلك لا نكون وراء الجدران سوى خائفين من... العيون.. الأصوات.. الشمس.. الليل.. الحرُّ والمطر..!

في غرفتي صنعتُ وطني "الخاص"، ولا أُنكر بأنني في أحيان كثيرة إنتابني شعورٌ بالاغتراب وانعدام الأمان.. في غرفتي.. في وطني الخاص!
لا أُحمّل الوطن عبئي.. لكنني أعتب عليه فحسب!

ذات ليلة، وقد كنتُ حينها طفلا لم يتجاوز الثامنة من عمره، إستيقظتُّ من نومي خائفاً.. مرعوباً.. وتلفتُّ حولي ولم أرى سوى الظلام وصوت الهواء العاصف في الخارج يدبُّ في رأسي كقرع الطبول (كان ذلك في شتاء عام 2004)، أردت أن أُنادي أُمي أن أرى أبي واقفاً في الممر يشربُ شاياً سخنّه جيداً.. أن أرى اخوايّ نائميّن بقربي.. ولم أقدر الّا على التكوّر في فراشي واغماض عينيّ.. وتذكّر بأن في الغد لن يكون هناك دوام للمدرسة!! وكان ذلك كافياً ليطمئن قلبي!!

وفي "حوش بيتنا" كان يوجد حوض "برسيم" صغير، رأيته كخارطة فلسطين، ومنذُ تلك الرؤية بدأتُ أخوض عليه لعبة "الحرب".. لم اتجاوز حينها العاشرة من عمري، حين قسمّتُ ذلك الحوض بقطع اللُّبن، كالجدار العازل وفي كلّ يوم كانت تستعرّ المعارك ما بين جنود و.. نمل! وكنتُ بجنودي البلاستيكيين أقتلُ كثيرا من النمل.. وأدفن النمل المقتول وأُقيم للقتلى (النمل) جنائز مَهيبة.

قلبي الذي بدأ يخافُ وينتابهُ القلق كُلما كبرت وانسلختُ عن طفولتي، وكأن "عالم الكبار" الذي كان هاجسي ومُبتغايّ وأنا طفلٌ، مُجرد عالمٌ من المخاوف.. عالمٌ من الواقع الرماديّ..
وقد كنتُ أرسم الوجوه، والديناصورات وعلم وطني، وانف المُذيع الذي يظهر على شاشة التلفاز، ويُرتلّ بصوتٍ واهن، ترنيمة الحرب القادمة، وكان الليل مُرعب والصباح جميل، والمدرسةُ هي المُنغصّ الوحيد للسعادة، سأكون سعيداً عندما أتخرج/أُغادر المدرسة، هكذا كنت اتخيّل ؟
كان الخوف واقعياً، مثلاً؛ الخوف من ظلام الغرفة وتخيّل وجود "شبح" في ذلك الظلام، ونُباح الكلاب في الخارج، وإنقطاع تيار الكهرباء في ليالي الشتاء العاصفة، وصار الخوف غامضاً، وكلما كبرت أمعن الخوف في حصاري، مع أنني لم أعد أخاف الليل، وظلام الغرفة، وأعرف بأن لا وجود للاشباح، وما إنقطاع التيار الكهربائي سوى عُطل فني، تعمل فرق الصيانة على إصلاحه !

كنتُ اسئلُّ كثيراً، ولا أدري لماذا كنت أشعر بأنني أُزعج الذين أسئلهم مع أنهم كانوا يُجيبون على اسئلتي.. الغبيّة، بإجابات تُرضي فضولي..أحياناً !
"يبّه وين يعيشون الأقزام ؟ يمّه الله موجود فوق الغيوم ؟ ليش ما عندنا فيل ؟ للغيوم حنفيات ؟ وين نروح بعد ما نموت؟  ليش اليهود يقتلوا الفلسطينيين ؟ وليش العرب ما يساعدوهم ؟ ليش أمريكا أحتلت العراق ؟ وليش العراق احتلت الكويت ؟"

كبرتُ ولم انسى. هل أنا حقود ام أملك ذاكرةً ملعونة، تكتظُّ بالكلمات والمشاهد والوجوه ؟
بدايةً بسقوط بغداد، ثم دبابات تملأ شوارع رماديّة كُلّها حجارة بيضاء وأطفال يقذفون الحجارة على جنود مُدججين بالسلاح ويموت اولائك الأطفال بالرصاص، ذات يومٍ (فبرايريّ) كنت عائدٌ من المدرسة وأمي في غرفة الجلوس وعلى شاشة التلفاز إنفجارٌ ودُخان وأُناسٌ تحولوا لاشلاء محروقة(إغتيال الحريري)، ولماذا فقط "الحريري"؟ لماذا لا تكون للآخرين أسماء كما الحريري؟،
ما قبل سقوط بغداد ؟ ما الذي تخزّن في عقلي ؟ آه.. ولادةُ أحمد ولعبتي (سيارة الشرطة البيضاء) والاريكة ذات اللون الزيتي.. ولماذا لا أذكر تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر؟




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق