الجمعة، 17 مايو 2019

وجود (حكاية لن تكتمل) 1

في ليلة "ديسمبريّة" ضبابيّة جدًا. كانت المدينة تكاد تنام في آخر ساعات الليل قبل إبيضاض الأفق الشرقيّ.
فَتح عينيه، ورأى عامود الإنارة غارقًا في البُخار الأبيض... البياض الذي يتدحرج كجدول مائيّ.
على الرصيف، وأمام واجهة محل - بالطبع مُغلق في مثل هذه الساعة - كان قد وضع عدد من صفائح الكرتون وأفترشها... هو في العادة لا يختار النوم، لا يُقدم عليه... عادةً النوم هو الذي يُغطيه ويُفقده وعيه..!
إعتدل في جلسته، تنفس بعُمق... وبحث عن علبة سجائره.. وجدها وتناول واحدةً منها.. ولم يجد "الولّاعة" للحظة أراد طلب ولّاعة من أيّ شخص.. عابر او صاحب محل او شبيه. لكنه وحيدٌ الآن، عاد ليبحث عنها. لم يجدها..!
في العادة مرور الوقت يبدو وهمًا. يبدو "سُخرية"، لا يُهمنا هذا الأمر، ففي الواقع ما هي الأمور التي يجب عليها "مَنطقتها"؟
ككيف سيرتاح ذلك الذي أراد تدخين سيجارة وأصبحت الولّاعة مُستحيلة ولو بشكل مُؤقت؟

لم يأكل... منذ سنوات، وكل يوم يأكل ما يجعله قادر على الإستمرار في الحياة، بقايا وجبات.. ساندويتشات.. عصائر ومشروبات ساخنة.. وأحيانا يجد علبة بيرة لم تفرغ تمامًا.. يحفظها للمساء.. يُدخن أحيانًا بقايا سجائر.. أوراق شجر جافه.. مواد أخرى.. المهم هو أن يُدخن وإلّا.. الله وحده يعلم ما سيحدث.

ما الذي سيحدث، لو لم تُشرق الشمس ذات يوم؟
لا يحدث شيء، غالبًا ستضجُّ مواقع التواصل الإجتماعي بالظاهرة.. سيعزوها البعض لغضب إلهي أو إنتقام ربانيّ.. لن يهتم كُثر، سيكونون مشغولون بالاستعداد ومُحاولة إقناع أنفسهم بقيمة يومهم وبأنهم... لا يتغير شيء - على الأقل في شرقنا الأوسط -!

جاء الباص الأخضر الكبير، توقف وسال الناسُ منه.
أوشك أحد النازلين على السقوط، بعد أن تعثر في حافة الرصيف، شابًا في مُقتبل العُمر، يرتدي اللباس العسكريّ وملامحه مُرهقة وقاسية. أرتطمت نظرته بجسد يفترش الرصيف، ومضى نحو "مُجمع الباصات".

يفترش الرصيف منذ ساعات، "مُتربع" في جلسته، واضعًا أمامه "عُلبة علك شعراوي"، لم يشتري منه أحد منذ جلس، حتى أنه نسيّ العُلبة... والشمس الشتوية التي تبعث على النُعاس، يرى حتى بهت المنظر.. لا جديد، كل شيء يبدو "مُكررًا" حتى تلك الفتاة التي كانت تسير وتكاد تسقط.. كانت تترنح في مشيتها كأنها ثملة، إقتربت من الحائط، واتكئت عليه.. أغمضت عيناها، وإنكمش وجهها الصغير، بالقرب منها كان يتأملها بنهمّ... أراد فقط أن يحتضنها..!
مضت... وعادت لسيرها "اللامُترنح"، إستيقظت من "ثمالتها"، كيف يستيقظ من ثَمل منها؟ لعلّ الليل يأتي الآن.. قبل المغيب!

في زواية ما، مُعتمة وباردة، ورائحتها تزكم الأنوف...! جاء مُسرعًا، وجد حذائها، وبنطال جينز، وقميص أبيض وكنزة صوف صفراء... سبقته إذن!
عارية تمامًا، وتجلس على ركبتيها، وترسم على الحائط، وضع الكيس جانبًا، وأقترب منها على مهل... كانت تُدندن بنغمات مُبهمه، إنتبه لحقيبتها وكتبها، وعلبة سجائرها، تذكرها وهي تُدخن... لذيذة وشهيّة. لكنها أخبرته، عن الممنوعات، التدخين أبرزها، وارتداء الحجاب أول واجباتها... هي الآن عارية، في زواية بعيدة عن العيون، ودخنت ثلاثة سجائر..!
مجنونة!
هي هكذا بلا تعليل وتفسير، تتعرى بشكل غريب، تمنعه من لمسها... وتُغازله، بعدها كأنها لا تعرفه...!
تبكي كثيرًا، وتضحك أكثر، تصمت... ولا تتحدث لساعات، ملامح وجهها لا تتغير... تعود للمنزل في المساء، تدخل إلى الحمام، لا تخرج إلا بعد ساعة... تخرج غيرها!
ماتت قبل يومين، وجدوها جُثة مخنوقة وعليها آثار كدمات زرقاء وجروح... أسفل عينها اليسرى، على رقبتها، شعرها يبدو بأنه كان حبل تثبيتها... خيط من الدم جاف من أنفها...!
ترتدي ملابسها الغريبة، جينز وقميص اسود وكنزة صوف... تلف حول رقبتها وشاح أخضر، لم تكن ترتدي حجابها، موجود بالطبع في حقيبتها، بقعة دم سوداء، أسفل بطنها، يبدو بأنها طُعنت في مساء الأمس، "العثور على جثة طالبة جامعية في... عليها ملامح التعذيب... والتحقيق جارٍ في مُلابسات الجريمة"!
وجدوا القاتل!
لم يبحثوا كثيرًا، وجدوه وكفى...!
ولكن كيف للذي أعتادها، تلك "المجنونة" أن يحتمل؟ حقيقة مقتلها من... القاتل!
كيف اكتشفوا؟ هل بالفعل "ن" هو القاتل؟؟

لم تنم وساعات ليلها كانت سرمديّة، وأنتهت سرمديتها بحقيقة إقتراب موعد ذهابها للجامعة.
بسرعة تُحاول عدم التأخر عن الباص، لا تتأخر هو الذي يتأخر... عشر دقائق، وأتى كالعادة مليئًا بالركاب، صعدت وجلست قُرب النافذة، بعدما "أُرغم" أحد الذكور على إجلساها مكانه... جوّ الباص خانق، والراديو يبعثُ ألحان أغنية وطنية قديمة... تتحدث عن إنتصار وكرامة وشهداء. كانت تضع سماعات أُذنيها وفي حضنها دفتر محاضرات وحقيبة وكتابٌ آخر... تستمع لأغنية ما... وشيئًا فشيئًا يبدأ رأسها بالإزدحام والصُراخ والإرهاق...!
تميل برأسها إلى النافذة، تكاد لا ترى شيئًا... لكنها تنتبه للتفاصيل.
بعض وجوه العابرين على الأرصفة، أشجار، حاويات ممتلئة.. محال مُغلقة... مُتسولين.. باعة متجولين..
وفي كل مرة، ترتطم نظرتها، بشخص... دائما يجلس بجانب حائط يكاد يتداعى، لمكان مهجور..!
كأن نظراتهما، تلتحم...
اليوم رأته كأنها باتت تعرفه جيدًا، سألته في تلك الأجزاء من الثانية.. "كيف حالك؟ حدثني عنك؟ لماذا وكيف ومتى وأين...؟"
"صبيه.. وين نازله؟؟"
-أنا "مُصابة" باللاشيء... كانت لي ضحكة ودمعة... واليوم بات وجهي "قناعًا" رماديًا بلا لون!
-هوون... يسلم... وو!

رائحة القهوة، ونتنانة المدينة، وهواء الصباح الباكر... ومخبز قريب!
قُرب المخبز، يجلس يأكل بقايا جُبنة مع رغيف خبز ساخن، إشتراه بخمسة قروش، بالرغم من إصرار البائع على عدم دفع مقابل.. الرغيف!

رفع عينيه، ليرى "فتاة الباص"، تقف أمامه... تنظر إليه بلا أي تعبير... إرتعب للوهلة الأولى، قبل أن يطمئن، هي ليست "ذكر" لا شُرطي أو صاحب محل أو.. هي بنت... مُجرد أنثى.

لم يعرف كيف يتعامل مع هكذا موقف، هي جامدة كتمثال... إقتربت منه... وانحنت حتى أحس بأنفاسها ورائحتها تصتدم بوجهه البارد جدًا...!
تحدثت...
صوتها يرتعش...
وجهها تبدّل، إعتدلت وأسرعت في... الهروب على ما يبدو...
لو أنه لم يكن باردًا.. للحق بها، ليعرف "شو مالها؟" لكنه مُقيد بالصقيع!

***

لماذا لا تُصافحينني؟
لماذا تتكحلين خوفًا وحُزنًا؟
إحتضني جسدي قبل روحي...!
لا تستطيعين! أم أنك خائفة!

***

ذات صُدفة حَدث اللقاء...
كانت لا تعرف كيف تقترب من ذاك الذي... يبدو بأنها ترغب في قُربه...
حدث اللقاء.
ذات مساء كانت قد إنتهت للتو من آخر محاضراتها... غادرت مبنى ومضت تسيرُ نحو بوابة الجامعة، حين رأته قادمًا من بعيد... الوقت قُبيل الغروب، الشمس تأفل وكل شيء يبدو كذلك!

كانت قد عادت للتو من الجامعة، وبعد أقلّ من ساعة كانت قد جلست فوق سريرها، مُمسكةً هاتفها، أرسلت لهُ كلمات، كانت قد قضت يومها الدراسيّ معه كالعادة، منذ صعود الباص وحتى العودة للمنزل..
لم يكن مُتصلًا..
إنتظرت، طال إنتظارها...
تسلل شيء من البرد لأعماقها، إرتعش قلبها... لم تركن لهاجس راح يعبث في صدرها، رمت الهاتف جانبًا، أمسكت كتاب ولم تستطع التركيز فيما تقرأ، أعادة قراءة بعض النصوص والعبارات مرات ومرات...
أمسكت الهاتف مُجددًا. فقط صمت!!
"وفاة الطالب... مساء اليوم، إثر حادث سير مؤسف... إنا لله وإنا إليه"!
يرحل دائمًا من كان وجوده حقيقيًا، مَن أردنا بقاءه أكثر...!
كان ذلك بعد عام من ذلك المساء.
لو لم يعبرا ذات الطريق؟
تلك الـ"لو"؟ لو المابعد...!
مؤلمة بقدر برودها.!

يأتي الليل، لتجد نفسها كجُندي في معركة بلا سلاح. هكذا تُمضي الليل تُحاول لملمة بقاياها... تلك البقايا التي تتشكل في الصباح على هيئتها لتخرج من بيتها غيرها... أين هي؟
هل هي هذه الفتاة القوية ذات النظرة المُصممة النافذة؟
أم هي التي تتناثر في الظلام ولا تستطيع سوى الخضوع لتلاشي النور وطُغيان السواد؟
هي التي تبتسم، عندما تتذكر. هي التي واجهت الظلام وحيدة، وخرجت وحيدة.
تكتب في كل ليلة رسائل لمجهول. تعرف بأنها تكتب له...
لكنها لا تعترف، من باب أنها ودّعت تلك الأماكن التي تعبث بها، لا هي التي تعيش فيها لتطمئن، ولا هي التي تُغادرها لترتاح...!
ثمة شبهٌ كبير ما بين محاولات النسيان وما بين مواجهة ذكرى... صارت أليمة!

***
سأتخيل بأن كل شيء سراب.
وأمضي مُسرعًا حيث الليل...!

الشمس تبدو مُعتمة، وكل شيء يبدو قاتمًا، لولا شعاع أسود لاح في الأفق...!
حيث الوجوه، التي غاب أصحابها.
لماذا يغيبون؟ وكيف؟
هل من لقاء...!

***

مُتأنقًا، على غير عادته، خَرج أو ظَهر، وراح يسيرُ على الأرصفة ككل يوم... يحمل بين أصابعه سيجارة، ووراء أذنه ترتاح واحدة!

يترنح يكاد يسقط، في هذا الصباح البارد جدًا ذو الهواء الشرقيّ، صحا "ممغوصًا"، وياللأسف الشديد لا يستطيع إخبار أحد بما أصابه، ولو أخبر مَن سيُصدق هذا المجنون... المريض...!
أين نام؟
ومن أين يأتي؟!
اللهُ وحده يعلم، يبدو بأنه يحيا في عقده الرابع، وجهه مُتغضن وجسده نحيلٌ جدًا...!

ها هو يستفرغ، مال بجسده نحو الشارع، وهو يقف على الرصيف.
مسح فمه بكُمّه، وراح يجيلُ بنظرته، يسرةً ويمنة، في تلك اللحظات كان الجميع بلا إستثناء ينظرون إليه ويتحاشون بسيرهم الإقتراب منه.
أكمل سيره المُضطرب، يمشي وكأنه مُتجمد، ووجهه لا يَشي بأيّ تعبير.
المكان (لا أستطيع وصفه بالكلمات، بحاجة لوحة يرسمها فنان ما)، هو بشكل عام مكان يحتوي رصيف طبعًا، يحمل فوقه الآف السائرين يوميًا، وشارع مُزدحم، وبيوت وعمارات، هو ببساطة: مكان بلا هوية واضحه

بعد خطوات من سيره، تعثّر بشيء، وكاد يسقط على وجهه، لولا أنه تدارك نفسه في آخر لحظة!
بعد نصف ساعة، كان يسير بالاتجاه المُعاكس، يحمل بيده اليمنى كوب كرتوني يخرج منه البخار (يمكن شاي، حليب.. الخ)، ووراء أذنه سيجارة، وفي يده اليسرى سيجارة لم تشتعل بعد، و كيس أسود... يسير وكأنه يعرف وجهته جيدًا، هُناك على بُعد مئات المترات تقريبًا، الإشارة حمراء تُوشك على الإخضرار...!
"وفاة مواطن... إثر حادثة دهس.. في محافظة.."!
"مقتل إمرأة أربعينية على يد زوجها الخمسينيّ"
"إنتحار شاب عشرينيّ"
"مُحادثات أستانة تتجدد... هل من إنفراج للأزمة؟"
"مستوطنين يقتحمون باحات المسجد الأقصى، بحماية شرطة الإحتلال"
"أين جمال خاشقجي؟"

****

مَلامِحُ وجهها كانت مُرهقة. وعينيها تبكيان، وهي تضحك!
الضحك والبُكاء... الليل والنهار.... الوداع واللقاء... البرودة والحرارة... النسيان والكذب...!
ليلٌ جديد، وأيام تتشابه، وتتمايز تعاسةً وبُؤسًا..!
ما الذي حدث؟ ليوجد كل هذا الكمّ من الـ...!!
قبل الذي حدث! العقل الذي يُؤدي إلى التفكير، وبالتالي إلى مزيد من الشقاء، أعتقد بأنه أمر "جنونيّ" عقلٌ مُقابل طبيعة!
***
كان قد مشا كثيرًا، عندما وصل لمفترق طُرق وتوقف... إنتبه لكل شيء من حوله، بدا وكأنه كان نائمًا منذ ساعة.

بدأت وجوه ومواقف، حتى إحساسات تافهة، كإحساس ببرد لحظيّ، بدأت كل تلك تتحرك في رأسه...!

انتابته قشعريرة باردة، وأحسّ بأنه مُتعبٌ جدًا، لن يقوى على المشي خطوة واحدة! لن يستطيع العودة إلى البيت، ولن يرى وجه أمه، ولا... أراد أن ينهار دفعةً واحدة، كجدار عالٍ تآكل أسفله!
فتح عينيه، كل شيء بدا "غريبًا"، حتى مشهد السماء، وإزدحام المركبات..!
صفيرٌ في أذنه اليمنى، ونُعاس كبّل جفنيه. وظلام!

"مين... أنا... وين أنا"
وراح يتخبط فوق السرير، يرى بياضًا مُشوّش... وبدأت الرؤية تتضح شيئًا فشيئًا...!

إرتاح، فقط لأنه الآن فوق سريره، طبعًا وبالتأكيد في بيته، أحسَّ بفرحة غامرة، وأراد ان يحتضن لحافه... لحظات وتجاوز تلك الفرحة الغامرة، ليرتد لنفسه، حيث الرغبة بالنوم وعدم النهوض.. حيث الهاتف اللعين الذي ينام بجانبه، ويهتف بأغنية "مُقرفة" يستخدمها فقط كمُنبه!
نَهض نحو الحمام، دقائق كان بإنتظار الباص، ساعات... ها هو الآن، ينسى بشكل ليس كامل، تلك الحالة من "الاغتراب"، يرغب الآن، والساعة لم تتجاوز الواحدة ظهرًا... أن يُغادر كل شيء، ويفهم ذلك الشعور البعيد والقريب..!

هل هو إستمرار حلم؟
ليس من المعقول حدوث هكذا أمر!؟
لماذا لا يقوم الآن بضرب رأسه بالحائط، أو إطفاء سيجارة بين ضرسيّن، حيث توجد حشوّة قديمة!

تخيّل مشهد إنهياره،

***

مرّت الأيام!
ماذا كنت تنتظر؟ توقفها... عدم مرورها... عند لحظات عشتها، والآن في هذه اللحظة تتذكرها.. وتتنهد:"مرّت الأيام!"

مرورها كان كغروب شمس خريفية، كهطول مطر صباحي في أوائل شهر فبراير، إلى أين تصل في النهاية؟ وهل تقترب تلك النهاية؟!

تقترب منه، لتبتعد أكثر، كانت في كل مرة تراه جالسًا في ذلك المكان، حيث "الشجر الصغير واللامُثمر"، تنتابها حالة من "الضياع" بمعنى الكلمة!
لا تفهم ذلك الشعور "الغبي" الذي يلتهمها، ولا تجد سوى الاستسلام لأنيابه... والبرد في هذا الصباح أكثر وضوحًا و(كلمة لا أدري ما هي).

قلبها ينبض بقوّة، وجسدها بات حارًا ومُرتعشًا... ولم تعد قادرة على الإستمرار في الإبتعاد كُلما أقتربت... لذلك قررت الإقتراب أكثر مما يجب، بحيث تختفي أو يختفي هو!

نسمة هواء، وحركة أغصان، وطيران يُحلقان فوقها... نظرت للسماء فوقها، زرقاء جدًا. عادت أدراجها... عادت نحو "اللاشعور" هكذا أرادت، لكنها ما إن وصلت حيث مكانها المُعتاد، ووضعت حقيبتها إلى جانبها... تذّكرت بأنها أرادت تغيير هذه الحقيبة، بلا سبب، كرهت صوتها عندما تضعها بجانبها، صوت زجاجات و"خرخشة" أشياء أخرى..!
كرهت الألوان من حولها، وصار جسمها واهنًا!

هبط مساء ذلك اليوم، كئيبًا وباردًا ولونٌ آخر يُشبه يوم دفن ميت!

لم تستطع البُكاء، ولا حتى الكلام!
ضَحكت، تضحك دائمًا، وفي قلبها هَولٌ وألمٌ وصورة!
صورةٌ ، فتاةٌ وشابٌ يبدو عليهما؛ الخجل.. السعادة.. اللانهاية!
هكذا هي الصور "لحظةٌ خالدة"!

الأيامُ تمضي.
تنتهي الأشياء، كما تبهت الألوان، كيف نتفهمّ هذا الجانب من الحياة؟
لم تزل طفلة، تتعلق في ثياب والدها وتحتضن دميتها، وتنام مُتكورة على... نفسها!
هذا هو التغيّر الطارئ على تلك الطفلة، نفسها... هي الآن تتعلق.. وتحتضن نفسها!
على عَجل تُرتب فوضى غرفتها، تُغادر غرفتها كأنها تُولد للتو...!
في الخارج ينتابها خوفٌ ورُعب، وشجاعة ورغبة في الإقدام، كل الوجوا  تهمسُ لها، أنتِ واضحة...!
ترتعد من "حقيقة وضوحها"، ترغب في أن تكون "لا مرئية"!
"آية.."
"نعم... نعم... موجودة"
وتنتبه أو بالأحرى تنتفض، هل كانت ردة فعلها واضحة لمن يراها؟
هل إنتفضت بالفعل؟!
إنتهت المُحاضرة، نادى الدكتور على إسمها ثلاث مرات، وهو ينظر إليها، ومُعظم الطلاب في المرة الثانية كانوا يرمقونها بنظرات مُعظمها ساخرة..!
بعدما أجابت:"نعم.. "، وهي تنظر في عينيّ الدكتور، أحسّت بالإهانة والعار، وشيءٌ آخر لا تُدركه الآن! كانت نظرة الدكتور "ساخرة بعض الشيء"، هكذا أيقنت... وقامت من مقعدها، كأنها تنتشل نفسها من "مُستنقع طيني" سقطت فيه مُنهك!
بين حشود الطلبة كانت تسير، على مهل أو كأنها ثملة...! كادت تسقط... تماسكت، واقتربت من الحائط، وضعت يدها عليه، ومشت بمُحاذاته!
تتنفس بجُهد، وتشعر بغثيان كثيف، يملأ رأس معدتها...!
غادرت المبنى، غادرته "مرعوبةٌ" جدًا، العيون هي العيون التي تأكل اللحم تلوكه ومن ثم تبصقه، العيون تعتدي أحيانًا وتجرح بعُمق حتى!
إبتعدت عن ذلك الازدحام، وقفت بين أشجار زينة، وتنفست بعُمق وزفرت بغضب... الآن عاد النفس، حتمًا كانت لا تستطيعه هُناك! كيف عاشت تلك الساعة والنصف... بلا تنفّس!!

وضعت كتابها على الحائط القصير، وجلست فوقه، تذكرت هاتفها "الصامت" غالبًا!
أخرجته من حقيبتها، وأعادته، مُؤخرًا بدأت تكره هذا الهاتف... والحقيبة... وتلك الجموع البشرية... حسناً مُؤخرًا بدأت تكره كل شيء!
إلّا هذه اللحظة...!
الحكاية بدأتْ، ولن تنتهي قريبًا... ستنتهي حتمًا...!
هل تختلف كتابة الليل عن كتابة النهار؟
***

خرج مُسرعًا، ليُدرك مشهد "غياب الشمس"!
في مكان ما، قريب كأنهُ موجود لمن أراد رؤية غياب الشمس!
لا يُمكن الوقوف فيه إلّا في تلك الساعة الأخيرة من النهار! هكذا يعتقد أحدهم!
ذلك الذي خرج منذ لحظات، مرعوبٌ من إحتمالية عدم لحاقه "مشهد الغياب"!

ذلك المشهد الذي يتكرر كلّ يوم، لماذا أحيانًا لا نفهم بأن الحياة لن تنتهي، بإنتهاء أمر ما... أو بمعنى آخر، لماذا نستعجل حدوث أشياء تتكرر كلّ يوم بشكل بديهيّ؟!

***
... كانت بين الأشجار، تجلس فوق الحائط القصير، وتُحرك ساقيّها، تبدو غائبة... بعيدة... في مكان ما ليس هُنا!
تُغمض عينيها، وجهها كأنه فاقدٌ للحياة، أو كأنها لا تتنفس.
علا صدرها وهبط، فتحت عيناها، وحمّلقت، إتكئت على الحائط وأعتدلت واقفة...
للحظات جَمدت، وبحركةٍ آلية تناولت كتابها، وتذكرت عندما وقع بصرها كمجهر على جذع الشجرة التي كانت خلفها...!
تذّكرت إنسان، دائمًا في كل صباح، وهي جالسة في مقعد الباص، تُشاهده يفترش الرصيف، ويُدّخن، تُشاهده وكأنه "حياةٌ ثانية"، غير هذه التي تعيشها وتتعثر بها كل يوم... كل لحظة!!
مشت بهدوء، كأنها فقدت كلّ حواسّها، وهي تمشي الآن كعادة فقط!
في رأسها تعيش، أحيانًا في رأسها تضيعُ وتتخبط، وتجد نفسها، عندما تتعرض لهجوم ما... ككلمةِ "مُتحرش"، أو نظرة ثاقبة أو طُغيان الوجود البشري، الذي يُغرقها لدرجة إنتشالها من نفسها...!
الفكرة تغلي في رأسها:"لماذا لستُ أنا... ذلك الشخص؟"
الأمنيات مُستنقع يبدو ليس عميقًا، لكنه أعمق مما نعتقد، يُمكن لمن حاول المرور منه، أن يغرق كُليًا...!
يجعل من حياةٍ ما جحيم لا يُطاق، ومن جحيم حياة مُمكنة!
رأت نفسها، ترتدي ملابسًا رثّة، لم تتخيل أنوثتها "مُشردة" ببساطة، حتمًا ستُعاني أكثر في مُعاناتها... لماذا عليها أن تُعاني؟
لماذا نفترض أصلًا بأن ذلك المُشرد حزين وتَعس؟ هُناك فرق شاسع ما بين البؤس والحُزن!
هي حزينة الآن، ليست جائعة، ومحفظة نقودها فيها ما لا يقل عن عشرون دينارًا، وترتدي ملابس أنيقة... الخ، لكنها حزينة جدًا وهذا يكفي..!
سارت لنصف ساعة، ووجدت نفسها وقد وصلت لمحطة الحافلات، لم ترغب في العودة إلى المنزل الآن! ولا العودة من حيث أتت! ولا حتى البقاء هُنا...!
وأضطربت، هاجمتها رغبةٌ جامحة بالبُكاء، وضحكت، لتصطتدم بوجه أحدهم، كان واقفًا في الجهة المُقابلة وحيدًا، وينظر إليها... إختفت ضحكتها، وتحوّلت لجزع غريب، أرادت الهرب نحو... لو إنها تستطيع الإختباء خلف هذا العامود؟ أو الإختفاء هكذا ببساطة!
عادت أدراجها، وقاومت رغبة الإلتفات إلى الخلف...!
مَشت قليلًا، لتتجاوز أقرب مبنى، وتحت شجرة زيتون، رمت نفسها...!
ألقت بنفسها فوق السرير، كيف وصلت؟ ولماذا لم تنهار خلال الساعتيّن الماضيتيّن؟ لا تعلم، هي الآن كمشلولة بالمعنى الحرفي للكلمة!
وجدتْ صعوبة بالغة في خلع حذائها، والوصول إلى غرفتها...!
جسدٌ ساكن، وظلام... وهدوء... ورأسٌ محموم، ونفسٌ يكاد ينعدم!
تختنق، ولا تستطيع النهوض أو الصراخ أو البكاء أو الضحك...!

... مرّت الساعات، وبدأ الضباب يملأ الجو، إستبدّ الليل وألقى بردائه الأسود الثقيل على الوجود... نام الوجود!

وعلى رصيف مُعتم رُغم أعمدة الإنارة التي تنتظم في صف وراء بعضها بمُحاذاة الشارع، كان أحدهم يترنح في مشيته، من بعيد يبدو وكأنه شبحُ إنسان، هل هو سكران؟ أم أنه مُشرد يُحاول مُواجهة البرد الشديد بالمشي فيه؟!
نعرفه نحن، أو نعرف شيء بسيط جدًا عنه، فهو ليس غريبٌ عنّا تمامًا، والآن هو يقترب أكثر من أبواب المحلات المُغلقة! يمشي مُستندًا على تلك الجُدران الباردة! ويقترب أكثر من مكان نومه...!
نحنُ نُدرك بلا تفكير بأن الشمس تُشرق كُلّ يوم طبعًا من جهة الشرق، وفي توقيت مُحدد، وهُناك أمور تُشبه الشمس في توقيت حدوثها، كوجود شخص مثلًا في مكان ما...! عندما تعتاد وجوده، تُصبح لا إراديًا لا تتخيل عدم وجوده أو تغيّر وضعه...!
تبدأ معالم المكان ترتسم في عقلك، مع مشهد ما، مشهد حيّ!
ويبدأ الضجيج في كل صباح، مع حركة الناس، يستيقظ مُعظم البشر، ويبدأون بالحياة... أي بالصراخ الجماعيّ والإزعاج الطبيعي، والإنتهاك اللامحسوس للكون وكل شيء!

وتستيقظ "آية"، نامت كثيرًا بالطبع، تركناها مشلولةٌ فوق سريرها في ليلة الأمس، جائت أمها بعد ساعة وغطّتها بلحاف، وهي تُزمجر بكلمات تشي بالانزعاج والتوبيخ مع الحذر من إزعاج هذه الطفلة المُتعبة جدًا!
إستيقظت كأنها صُعقت بتيار كهربائي، تلوّت فوق السرير، قبل أن تهدأ، وتجلس ببلاهة فوق السرير، واللحاف مُكوّر بين يديها، ألقته جانبًا، وبدأت تتذكر... أو بالأحرى بدأ وجهها يعود لطبيعته، فقد كان مليئًا بالغيض والكره والاشمئزاز وإنفعالات أخرى لن أُطيل القصة بكتابتها...!
ترتدي ملابس الخروج، خروجها للجامعة في الأمس، أحسّت بأنها... كانت تحلم أو ما زالت!

لم تتذكر سوى مشاهد بعيدة، ومبتورة... شجرة زيتون، أشجار زينة، سماء صافية، وشمس دافئة، صُبح ضبابيّ، ظهيرة كئيبة، موقف حافلات فارغ إلا من... شبح مألوف!

تحرّكت ونزلت عن سريرها، كادت تسقط لولا أنها تداركت نفسها في آخر لحظة... ودخلت الحمام، ولم تخرج منه إلا بعد ساعة!

***
"هذا من فضل ربي"

ينحني بجسمه النائم فوق المقعد نحو نافذة الباص، يشعر بوهن شديد وشعورٌ آخر، شعورٌ بأن كل شيء "مُستحيل ومُمكن"!
وحيد في هذه اللحظة، وقبلها كان كذلك، ولو أعاد النظر في حياته بشكل عام، لوجد بأنه "وحيدٌ تمامًا" منذ ولادته!
منذ ساعة تحرك الباص، وصاحبنا لا يضع سمّاعةً في أُذنيه، ولم يفتح هاتفه...!
طول المسافة كان ينظر لخارج الباص، ولم يرى شيئًا من النافذة، لم ينتبه لشيء... إلا قبل قليل، كأنها صفعة لنائم نومٌ خفيف، الباص يجتاز شارع ما، شارع بين قصور وبيوت فخمة، وعلى واجهة إحداها مكتوبٌ:"هذا من فضل ربي"!
ووصل الباص إلى المُجمع، الشمس تختبأ خلف غيوم بات لونها قُرمزيًا، الجو بارد ونسمة هواء باردة تُلوّن كلّ شيء بلون الرماد!

دقائق وتغيب الشمس، الأضواء تتلألأ، والإزدحام يزداد، وهُناك "خطر مُحدق" يُوشك أن يتحول لـ"حدث مَهول"!
عند كشك لبيع القهوة وغيرها، وقف وأخرج محفظته لينتزع منها سعر كوب قهوة وعلبة سجائر، أخد مُشترياته وألتف وجَمد مكانه، أغمض عينيه، وفتحهما بقوّة... ما الأمر؟
لماذا لا يرغب بالعودة إلى المنزل؟؟
هو الآن يُريد وبكامل إدراكة وإرادته أن يذهب لمكان قريب من هُنا، حيث يوجد عدد من المُشردين أو البائسين أو... سمّهم ما شئت!
يذهب هُناك ويجلس على الأرض، ولا يفعل شيء، لا يوجد معه هاتف ولا محفظة فيها مبلغ لا بأس به، ولا إثباتات (شخصية... جامعية الخ)، يبقى هُناك... ليس للأبد طبعًا، فقط ليُجرب...!
وأراد أن يتحرك، لكنه لا يدري... هل للباص الذي سيوصله لمكان سكنه؟ أم لذلك المكان القريب؟ أم لمكان ما قريب أو بعيد... أو لا شيء!
لماذا لا يوجد خيار مُمكن ومنطقيّ هو: "اللاشيء"!
اللاشيء. البياض. السواد. السماء الصافية. الشمس. البدر. الليل. الوجوه العابرة في الشوارع...!
هُنا حيث الجميع هاربون، ويستعجلون كل شيء، ولا يفعلون سوى التكرار!!
تكرار.
 كل شيء يتكرر، هذه الأيام وتلك الشمس الغاربة والفصول.
نألف التكرار، ويُصبح "اللامنطق" هو رغبة "اللاتكرار"!

وجد نفسه واقفًا في ذلك الشارع الذي لم يتأكد بعد... هل يبقى مُزدحم هكذا في الليل، يعني بعد ساعتيّن مثلًا؟ بعد إنتصاف هذه الليلة؟!
سيكون كل شيء كما هو الآن وقبل عام، هذا العامود الصدئ، وذلك الحائط المُتآكل أسفله لكنه لن ينهار حتمًا، ومكتوبٌ عليه بخطوط كبيرة ورديئة:"الفيصلي زعيم... القدس عاصمة فلسطين... وأحبك H"!
الناس كلّهم يسيرون في إتجاهين، جنوب وشمال، أين الذاهب وأين العائد؟ لماذا لا يسيرون بأربع إتجاهات... أحدها نحو الشارع المُزدحم أيضًا بالسيارات، والآخر عبارة عن بناية ضخمة(دائرة حكومية)!
إنتبه من شرودة، نعم كان الجميع يسيرون، إلّا هو وآخر يفترش الرصيف...!
عاد إدراجه نحو المُجمع، أحس بأنه "مُستعجل" يجب أن يصل بسرعة... وتباطئ كل شيء، كل شيء بات بطيئًا، بشكل لا يُطاق، الباص لم يمتلئ بالركاب بعد، الشمس لم تغيب، المطر لم يهطل، الهواء لم يهدأ ولم يصبح عاصفًا...
ورأى كأنه يحلم عبارة:"هذا من فضل ربي"!

***

لم يحتضنها.
 إبتعد عنها كثيرًا، وتوقف!

أشجار تحولُ بينهما كجدار، هي تجلس على المقعد وتُغطي وجهها بكلتا يديها، وهو يقف قريبًا وبعيدًا عنها، ولا يراها، ولا هي تعلم بأنه هُنا لم يزل... لم يذهب! لكنه لم يقترب!

لم يحتضنها، رُغم الرغبة في أحتضان أمان ودفء!
في حماية وأحتواء ولملمة شتات ما!
مرّ ذلك اليوم وما بعده، وتغيّر مع مرور الأيام كل شيء!
جلس الزمن مُنهكًا على الرصيف، وراح يمسح بكمّ قميصه الكاحت، عَرق جبينه وسعل وكاد يختنق!
كان الزمن يحتضر، كما أحتضر قبل عام...  مئة عام... أو ثلاثمئة أو ألفين عان... لا يُهم العدد، المهم بأنه دائمًا يحتضر، ودائمًا ينجو من الموت، ليُولد مُجددًا!
إحتضان.
 ليس سوى إحتضان!، كان يكفي لأن ترتاح القلوب من إنهاكها وتعبها الكثير... لكنه مُستحيل، كإستحالة عودة صلاح الدين بلحمه ودمه لتحرير فلسطين!
عادت وهي غيرها، لم تكن على ما يُرام إطلاقًا، كانت شاحبة...!
قالت:  مش مشكلة..." وأبتسمت، كانت ستقول الكثير الذي لا يمكن قوله! وستبكي كفاقدة لعزيز!
قال:" انا رايح..."  وأبتسم لها مُودعًا، كان سيحتضنها، لا لشيء فقط لأنه في تلك اللحظة لم يحتمل وحدة جسده وبردها الظاهر بهذا الشكل!
غادرا، مهزوميّن، صامتيّن، ولم تتغير الشمس... لم يخفت شعاعها، حتى البرد بقيّ كما هو، والهواء أيضًا... وكل شيء لم يتغيّر، فلماذا أحسّ الإثنين بأن هُناك شيء في هذا العالم بل بالكون ككل قد إنقلب رأسًا على عَقب؟!

***

ليلةٌ باردة.
 باردةٌ بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
بردٌ ليليّ صحراويٌ حتى لا يطول الشرح.

في الخارج.
خارج البيوت الدافئة، حتى ولو لم يستخدم أصحابها أيُّ وسيلة تدفئة(إذ يوجد في وطننا العزيز الكثير من العائلات التي لا تستطيع إستخدام وسائل التدفئة لوقت طويل خلال ليل الشتاء الطويل) هُناك فيما وراء الجُدران، هواء مُنعش وإحساسٌ باللاقيود، الصقيع يقتحم الجسد، وينتهك خصوصيته الدافئة، ويُحيلهُ للإرتعاش الذي يشتد حتى يخمد...

وعندما وصل جسدهُ المُرتعش حدّ الجمود، توقف تحت ضوء إنارة الشارع، في الجو بُخار وصمت مُزعج وشيء يُشبه...  (قد يكون الموت)!
الضوء برتقالي، ولون المشهد زُجاجيّ عليه بخار تحوّل لقطرات تسيلُ بشكل مُتقطع على الصفيحة الزُجاجية...
 كل شيء يلمع، الشارع، السيارات، البيوت البعيدة والقريبة، الظلام هُناك في زاوية المكان، كأنه عالم آخر... عالمٌ لم يُكتشف بعد...!

فتحت عينيها، وأنتفض جسدها، وألمَّ بها شعورٌ ما، جديدٌ هو ذلك الشعور نوعًا ما، كأن أطرافها قُطّعت... كأنها ضُربت كثيرًا!
وماجت في رأسها الصور، وطفرت من عينيها الدموع الساخنة، وأنكمشت جالسةً وهزّها النشيج التي تُحاول كتمانه..!
الظلام من حولها، كان غطائُها ثقيلًا عليها، وغرفتها صارت كسجن.. غرفتها التي أقفلت قبل قليل بابها بعدما أطفئت ضوئها... حتى تبكي دون تبرير!

قبل أربع ساعات تقريبًا.
الشمسُ غابت، وكل شيء بات مُضيئًا ومُعتمًا، الأشياء تلمع وتنطفأ كُلما زادت إضاءة المدينة!
دقائق... لحظات... كانت تمشي مُسرعةً فوق الرصيف، تُحاول النجاة... ككل يوم!
على صعيدها الشخصيّ، في النهار الأمن مُستتب نوعًا ما، أما في الليل فالخطر مُحدق وقريبٌ جدًا...!
بدأت تهرب من... خطر ما، موتٌ وشيك!
موت... الموت غالبًا إستراحة أو نهاية سعيدة للميت تحديدًا، لكن هُناك ميتات يُعاينها الإنسان، بالفعل هي ميتات تستحق منّا الحزن والرثاء، بينما موت الجسد بلا مُبالغة يستحق منّا الاحتفال، إذا لم يكن دائمًا فذلك  غالبًا..!

والآن هي تجاوزت موتها، لا لم تتجاوزة، إنما ذهبت سكراته، وستبقى ندوبه وأوجاعه...!
تمّ إغتصابها، من إنسان ما، مزّق جسدها، وأزرقّت مواضع من جسمها، وثيابها مُزقت أيضًا، للحظات إستمر التمزيق، بلغ ذروته، وأنطفأ فجأة، تحامل نفسه وهرب... وبقيت جُثة مُمزقة، جُثة لم يتوقف قلبها ولم تتعطل وظائف أعضائها الحيوية... لذلك هي الآن تُحاول جمع أشلائها، عن طريق "الإنكماش الجسديّ"!
طفلةٌ ما، لم تتجاوز العاشرة من عمرها، ترتدي فستانًا أبيض، وطاقية بيضاء، وقفازات بيض وحذاء أبيض، تحمل دميتها بين يديها الصغيرتان... وتسيرُ بين والديها، في مكان أخضر... الشمس مُشرقة، لكن المشهد ضبابيّ... بعيد...
وهذا البرد يتسلل، لينتهك الدفء الذاتي للجسد، رفعت رأسها وتنفست بصوت مرتفع، حاولت الوقوف ولم تستطع.. تمالكت نفسها ونهضت، وأتكئت على الحائط...!
رائحةُ دم ونفايات وجنس، أنفها قد تعرض لنزيف بسبب صفعة ما... هو الآن حار، وتلمسته كأنه ليس منها، لا أراديًا إنحنت وبدأت تنفض ملابسها بيدها، وضحكت... عَلت ضحكتها، لتكتمها بيدها، ضحكت لأنها تنفض غبار على ملابس مُمزقة!
"غبيّة..." قالت في نفسها، وتذكرت صوت المُعلمة في المدرسة الابتدائية... "غبيّة..! إنتي غبيّة ما تفهمي!"
بعد ساعتين.
جسد ميت بالفعل، أسفل جسر ما، بعد ساعات خبر ينتشر على نطاق ضيّق، العثور على جثة عشرينية أسفل جسر كذا، تظهر عليها آثار التعذيب، وما زال التحقيق جارٍ في مُلابسات الحادثة...!
الشمس أشرقت منذ ساعة، والحياة تدبُّ في الأرجاء، هُناك موتٌ يحدث في كل لحظة، والحياة تستمر، ولكن... إلى متى؟!

***
مدينةٌ وليل.
ليلٌ بارد ومدينةٌ بعيدة.
وأنا وحدي، في مكان فارغ... لا وجود للبشرْ في الأرجاء، هُنا كل شيء هادئ، تحت سماء تتلألأ بالنجوم، وهواء مُثقل، الهواء ساكن وله رائحة... رائحته ليست كريهة... لكنها تُشبه رائحة دم، دمٌ لم يخرج بعد.

بعد ساعتين.
 كل شيء سينتهي... سيتوقف... حسب توقيتي، الساعة الآن: 9:47م.
أنا "مُحمد"، شابٌ عربيّ، عُمري ليس مُهم، وإسم أبي وعائلتي وكل تفاصيلي لا تُهمني الآن! أنا الآن مُتأكد من أنني "مُجرد من كل شيء"، بلا ألوان... بلا إسم، بلا عنوان، بلا وطن بلا شيء!
لماذا أكتب؟
هل أنا بالفعل "مُجرد"؟
هل أنا أنا، أم أنني محضُ "شاب غير سويّ" بحاجة إصلاح وتأهيل وترويض وتدجين؟
الصحيح هو أنني "كفرتُ" بكل شيء، حتى أنا!

سأُطلق على نفسي إسم "فرح"، الإسم أنثويّ نعم، ولكن من الآن إسمي "فرح"، لماذا لا يَدعون لنا حُرية إختيار الأسماء بعد عمر الثامنة مثلًا؟ قبل عمر الثامنة نبقى بلا أسماء... نكون مُجرد "أطفال"!

... وجلس على الرصيف يلهث، ويكاد يختنق، ألمٌ حاد ملأ صدره، وإرهاقٌ شديد شلّ حركته، لم يعد قادرًا على شيء سوى الجلوس هُنا، حتى الجلوس مُرهق، عليه أن يتمدد على الرصيف...!
لماذا هو ليس مُشرد لا يجد حَرجًا في النوم على الرصيف؟
لماذا عليه أن يبقى هكذا، وهو يرغب بل ويحتاج شيء آخر؟ هو يحتاج...! ما الذي يحتاجه؟؟
يحتاج إلى... كل ما هو مُستحيلٌ الآن!
وطن... عائلة... أمان وراحة... حبيبة... طمأنينة...!

لستُ ناقمًا على شيء، كل شيء في هذه اللحظة على الأقل يبدو "مُجرد كذب"، مُجرد أوهام... وأنا وحيد! هل أنا وحيدٌ بالفعل؟
أم أنني واهم؟؟
قبل قليل إستسلمتْ، وجدتني وقد غرقت في بحر من المشاهد والصور والوجوة والكلمات وكل الأشياء التي صادفتها قبل وصولي إلى هُنا؟
وصولي هُنا يبدو وكأنه "نهاية". يبدو الأمر أشبه بسفينة بدأت رحلتها في بحر مُظلم وواسع منذ سنوات وها هي الآن تقترب من الميناء... هل بالفعل يوجد ميناء أخير؟
السفينة في البحر لا تتحرك عبثًا منذ البداية، تتحرك وفق خُطة سير ومكان وصول آخير، كل الذين صعدوا السفينة يُدركون لماذا صعدوا وإلى أين وجهتهم! وأنا لا أشبه السفينة أبدًا، أنا مُحاصر باللامعنى، وقبضتي ترتعش لأنها أضاعت البوصلة!
صحراء شاسعة، وسماء بلا ملامح. وبحر واسع ومُتلاطم ومُظلم... وليلٌ يقترب. وشمسٌ بلا شُعاع... بلا حرارة... وأنا وحدي هُنا.
ما زلت أذكر. ما الذي نسيته فعلًا؟
لماذا الآن كل شيء يبدو "بلا معنى"؟
الذاكرة مُترعةٌ جدًا، وبتُّ عاجزًا عن... الإقتراب من زحامها، أو الابتعاد!
نهارٌ طويل، وأنا وهي قريبيّن وبعيديّن. لا أمسك يدها، ولا هي تقترب... أذكر جيدًا ذلك اليوم... تلك اللحظة، وقفنا في مكانٍ ما، أمامنا أشجار وسور، وورائنا شارع فارغ، ونسمة هواء... هي التي إستوقفتنا هُناك... في تلك اللحظة! حدّثتها عن ليل لا ينتهي، وصباح قريب... صباحٌ ليس بالضرورة مُشرق!
كانت المرة الأولى التي تنظر إلى وجهي مُباشرة، كنت أتحدث وهي تنظر إليّ... أحسستُ بأنها "عاجزة" عن... إحتضاني وبأن تخبرني بأن "توقف عن النزيف... الموت البطيء... البطولة الحمقاء... الأفشال المُتتالية... وتوقع الغد... ومُحاولة فهم كل شيء..." لم تتحدث. بقيّت صامتة...!
مشينا بعدها، وكأننا قلبيّن... بل كأننا عالميّن!
أنا أُبغض الناس، والحشود والأصوات البشريّة تُصيبني بالغضب والإرهاق!
لطالما أحببت الأماكن المُفرغة من البشر، والمُشرعة على الصمت.
هذه الرغبة المُلّحة بالكتابة، مع زحمة المشاهد وعجز العبارات... هذا الأمر لا يُطاق!
عذابٌ شديد ومُؤلم، ولا يتسنى لي الصُراخ/الشتم مع إشتداد سطوة التعذيب... اللعنة على الأحرف الباردة واللغة العاجزة! لماذا لا أرسم المشاهد ببساطة؟؟
لمَن أكتب؟
أكتب لأنني لم أعد قادرًا على الصمت، والكلام هو نوعٌ جديد من الصمت... الكلمة المكتوبة تتكلم أكثر(على الصعيد الشخصي).
منذ أشهر إكتشفت بمحض الصدفة مرضي بالكلام، لا أستطيع الكلام ببساطة! هل هو "مرض" بالفعل؟
أم أنه مُجرد حالة من العجز الوظيفي يُمكن تشخيصه فسيولوجيًا؟ والعلاج ما هو؟
الحقيقة هي أنني لم أعد أرغب في الكلام فقط! الكلام كثيرة وقليلة بات فعلًا ثقيلًا ومُنهكًا وعديم الجدوى!
لذلك أجدني دائمًا، مُحاصرًا بالكلمات التي لا تُنطق، الكلمات التي تتحول مع مرور الوقت، لطُفيليات ضارة أُحاول جاهدًا التخلّص منها وأفشل في ذلك (غالبًا)!
في البداية تكون كلحن غنائيّ لذيذ، كلوحة تُرسم على مهل، لتكون "مشهدًا شديد الوضوح ليس بحاجة شرح"!
كَتب، عن ذكرى رُبما: لم تكن الشمس مصدر الضوء الوحيد. الشمس قد تختفي وراء الغيوم، وتغيبُ في كلّ يوم!

المطر ينهمرُ بغزارة، وهو يتفادى العاصفة تحت مظلّة السيارات، هواء عاصف ومطرٌ غزير، وبردٌ بدأ ينفذ إلى عظامه، يرتعشُ بردًا و... لا شيء وكلّ شيء!
ثمة أشياء يُمكن وصفها، بعاصفة ماطرة، وصباح مُشمس دافئ، وليل طويل، وسعادة غامرة، وحُزن ثقيل...!
تحت المظّلة الفارغة من مركبات (رؤساء الأقسام ونوّابهم)، في "بارك كلية الهندسة"... المظلّة فقط للرؤساء، للطبقة الحاكمة، و...
رغبة التدخين حاصرتهُ، وطرد "صراع الطبقات" من رأسه الآن، أشعل السيجارة، ولا يفهم لماذا يرتبطُ، من خلال شعور غريب... بهكذا مكان، وراء المباني، حيث كل شيء يبدو قديمًا وغير مُرتب، إزداد الهطول غزارةً وأحسَّ بأنهُ "مسجونٌ هُنا"، لماذا لا يسير في العاصفة؟ لماذا يختبئ هُنا؟؟
لماذا هو خائفٌ الآن، خائفٌ بلا ملامح ولا منطق، من خسارات مُحتملة، من فَقد يُهدّم جُزء أساسيّ منه؟
ويقرأ أسماء أشخاص خُصصت لسياراتهم أماكن مُحددة بدهان أبيض تحت هذه المظلة!
ثوانٍ حاول خلالها، اللاشعور، إلا بالوجود الآن، في هذا المكان، بلا مُحاولة إسباغ معنى على كل شيء...!
مشى تحت المظلة، ذهابًا وإيابًا، وأخرج هاتفه ليكتب "تغريدة" كلمات وُلدت في ذهنه للتو، وصارت تغلي في رأسه:"‏سيهدأ المطر. سيهدأ، وتنجلي العاصفة... كل شيء سيهدأ بعد غزارته.. غليانه.. إنجماده.. إلّا قلبي سيبقى يُعاند الأشياء، حتى يموت!"
غرّد على تويتر، وبحث عن سلة نفايات يضع بها عقب السيجارة، أحسَّ ببلاهة بحثه، وعدم منطقية وضع العَقب في جيبه، ليرميه في أقرب حاوية نُفايات يُصادفها، وبأن هذا العَقب كمولود جديد، عليه أن يُصبح جُزءًا من هذه اللعبة، جُزء هام جدًا، لكل جزء في هذه اللعبة أهمية كبيرة...!

، ***

هُناك أشياء لا يُمكن وصفها بـ "العادية"، كموتٍ ما.

خبرٌ:"إنتحار "س"، وهي فتاة عشرينية، وقد أقدمت في آخر الليلة الماضية على...".

صباحٌ أعقب ليلٌ عاصف!
يقول أحدهم : "ما يجوز عالميت إلا الرحمة... بس كانت..."
وجد نفسه يسأل ذلك الشخص:"وين الخبر... من وين جبته؟ مين "س"؟"
ويستمر الكلام:"ما يجوز عالميت إلا الرحمة... كانت..."

يبحث عن مشهد، ليلٌ وفتاة، ليل واسع بلا قمر... ليلٌ ماطر، وبردهُ قاسٍ، بلا ضجيج، كلّ شيء كما هو، قبل وبعد، ساعة واحدة، ماتت فتاة، أو إختارت الموت، أو لم تستطع تفاديه... أو قُتلت بلا جانٍ يُمكن إدانته...!

في كلّ موت هُناك جانٍ وضحيّة!

كانت فتاةٌ... هل يكفي بأنها "خاطئة، ولها سجل إنحراف مشهور... نامت في أحضان كثيرة... و..."
هل الأمر يدعو للأسف أم للشماتة!
عاهرةٌ قتلت نفسها، ماذا عن أولئك الذين مارسوا العُهر معها؟ لماذا سجّلاتهم نظيفة؟؟
ما هي "النظافة" أصلًا؟
هكذا صارَ فريسة، لعاصفة، لا تُشبه عاصفة الخارج، في الخارج مطر غزير، وهواء عاصف... في داخله موتٌ ومشهد لجريمة" فظيعة" تُعامل كشيء عاديّ...!
إنتحرتْ... بالأحرى ماتت، ببساطة ماتت، عن عمر أثنان وعشرون، لا نملك الوقت لنقاش أخلاقيات وفرضيات "الانتحار"...

لا يعرفها، ولم يسمع بها قبلًا، يعرفها الجميع هُنا، هُنا حيث الجميع يعرفون كلّ التفاصيل حتى اعتادوا كل شيء...!
وقعُ الخبر كان قاسيًا عليه، قبل الخبر كان ذهنه مُشوشًا، بعمل لم يكتمل، وبأشياء لم يعد قادرًا على ترتيبها وصار مُؤخرًا لا يحتمل الكثير... جاء الخبر كتتويج لكلّ الأشياء الغير مفهومة... واللامُحتملة رغم وجودها العنيف!

كانَ قبل قليل، يُفكر بل بات لا يُفكر وإنما يجد نفسه هُناك... حيث الوطن الغريب! وطنٌ ينزف وحيدًا، وتغيير بات ضَربًا من جنون، وإصلاحات بعيدة النتائج، وكلمات "ذوي الملابس الأنيقة" التي أصبحت تُثير الغثيان أكثر مما يجب...!
والآن يجد نفسهُ، أمام موتٌ آخر، قبل قليل صُدم بمشاهد على تويتر لحريق شبّ في محطة قطار مصرية، أُناس حُرقوا هكذا ببساطة، خلال ثوانٍ تغيّر كل شيء، مَن عاش منهم عاش يحمل دليلًا صارخًا على "عاديّة كل شيء ربما"! وجد نفسه يُشارك في التغريد على هاشتاج #اطمن_انت_مش_لوحدك، كتب: "ثوروا تصحّوا"... كان جالسًا في الباص، ويقترب من مكان نزوله، أحسّ بأنه مُغرر، بأنه بات قطرة في سيل المُغردين دون أن يدركوا حقيقة الأمر!
كتب: "‏"ثوراتنا" فاشلة، لأنها عبارة عن ردّات فعل مُؤقتة.. الثورة تجبُّ ما قبلها.. الثورة صوت شعب لا أيديولوجيات... الثورة تدمير وإعادة بناء من جديد!
" ‎#اطمن_انت_مش_لوحدك
وتسائل: كيف أصبح يائسًا، مُرتابًا لهذه الدرجة؟
لماذا صار كل شيء لا مُؤتمن، تمامًا كل شيء...!
وما علاقة، إعدام الشبّان التسعة قبل أسبوع، بالحشد لثورة مصرية ثالثة؟
الأغلب هُنا، يُؤيدون عُقوبة الإعدام! ولا يحزن الكثيرون للموت وفُقدان الحياة، الموت المُمارس والمصنوع، وفُقدان الحياة الذي صار واقعًا عربيًا بإمتياز!
و وصل أخيرًا، لحقيقة مفادها، بأننا جميعًا، نتعرض لشتّى أنواع التلوين، بأننا أصبحنا لُعبة في أيدي من يحملون  رؤوس فوق أجساد لا تعرف من الحياة سوى اللمعان والعبيد!
توقف الباص ونزل، أطفأ بيانات الهاتف، وتنشّق الهواء الصباحيّ، ذو الرائحة المُركزّة، والتفت ليرى سيّلًا من الناس، في كل الجهات يسيل، ومُرغما ذهب للسيل وغرق فيه...!

رصيفٌ فارغ، وصُبحٌ آذاريّ لم يُغادره فبراير!

وهو يجلس على الرصيف، لا يفهم الكثير ويُحاول أن لا يضيع في متاهاته، أن يحيا هذا الصباح بلا تفكير مُضني، وبحث عن معنى كل شيء يُصادفه!
وتذكّرها!
كحُلم إنتهى للتوّ، كلحظة هطول مطر (غير مُتوقع)، كساعة صفاء تنتهي بسرعة.

تمشي بجانبه، الأيدي ترتجف، والعيون خائفة... قَلقة...!
وهي وهو، إثنان، ضائعان في أماكن ومتاهات مُختلفة ومُتشابهة، إثنان لم يُحاولا الكثير... وحاولا كثيرًا، كثيرًا لدرجة عدم... لا أدري!
المُهم... تذكّرها، بعيدةٌ الآن، أبعد من الدفء القريب، الغير موجود حاليًا، في هذه اللحظة "الباردة" على هذا الرصيف الفارغ، والمُثقل من كثرة العابرين عليه خلال سنوات!

*****

أنا... مَن أكون؟ ومنذُ متى وأنا "لا أعرفني؟"

لماذا الآن "أسقط مُجددًا"، أهذه المرة الأخيرة؟

أعلم بأنني سأتذكر هذه اللحظة بعد إنتهائها، وأتسائل لماذا لم أفعل كذا وكذا؟؟
كل شيء يتكرر، ويتشابه... يا لهذه الحياة ما... أسوئها!!
تلك اللحظات التي تستوقف جرينا المحموم وراء الأوهام والسراب، تلك اللحظة:
كان صُبح - والصبح دائمًا جميل، حتى لأولئك الذين أمضوا ليلة سوداء مُعتمة - هواء بارد خفيف، وشمس مُشرقة بقوّة، مقعدٌ وأشجارٌ قريبة، وروائح عطرة، يجلس وحيدًا كعادته، وحيد ومليء بالأشياء التي لم تكتمل، يرى أغصان مُثقلة بالاوراق تتحرك، وقطّة رمادية تتحرك هُنا وهُناك، وأحسّ بإرهاق شديد، أراد أن ينام هُنا، فوق هذا المقعد تحديدًا، أن تأتي هي الآن لتحتضنه، لا بل فقط لتجلس قُربه، يجلس الإثنين صامتيّن، هو وهيّ وحدهما، مع صوت المكان، هو الآن بحاجتها... رائحة عطرها، وحركة جسدها، ووجهها وهي تتحاشي النظر في عينيه، وأنتبه، ومدّ يده دون أن ينظر، يتحسس الجانب الآخر من المقعد، وأعاد يده يضعها فوق الأخرى، وقام.... لا يدري إلى أين يذهب الآن!
وهي أيّنها الآن؟

***


قرأ الخبر على  الفيسبوك:"طعن دركي في الدوار الرابع وإلقاء القبض على الفاعل..."
صورة الفاعل: شيخ مُسن يرتدي لباسًا تقليديًا.
تسارعت دقات قلبه، كان جالسًا في المقعد الخلفي في سيارة أحد رفاقه وهم عائدين من الدوار الرابع، وأحسّ بوهن شديد، نظر للساعة أعلى شاشة هاتفه، 1:16 صباحًا... صباح السابع من حُزيران، وقع في الظلام مُجددًا، كيف ولماذا ومتى؟؟!
" قبل شوي... قبل شوي كنّا هناك وما شفنا شي" تمتمَ بصوت واهن، أنتبه رفاقه وطالبوه بتوضيح... إنطلقت كلماتهم:"شوو... شو صااير...؟! شو الخبر؟؟"
وأحسّ برغبة جامحة في البُكاء، في التبدد والإندثار، لم يفهم حينها، لماذا إنفعلَ هكذا... بهذا الشكل "المُبالغ به"!؟
بعدها بستة أشهر فهم، فَهم بعد فوات الأوان، لماذا أحسَّ بالفجيعة؟! لماذا وكيف تنبأ لاوعيه "بالنكسة" القادمة؟! النكسة القريبة!
ستة أشهر فقط، تقريبًا مئة وثمانون يومًا، كانت كفيلة بتوضيح أشياء؟!
خبر: الخميس 2018/12/13، قوات البادية تمنع المُحتجين على الدوار الرابع من.... وأنباء عن إصابات بين قوات الأمن والمُتظاهرين، بسبب الاحتكاكات والـ.... ضرب، الضرب بالهروات والقنابل المُسيلة للدموع...!
هذه المرة لم يكن هُناك، هُناك "لأول مرة في تاريخ الاحتجاجات الشعبية على الساحة الأردنية يتم إستدعاء قوات البادية..." وتمّ فضّ الإعتصام بالقوة.
على تويتر شاهد بث مباشر ومقاطع فيديو وصور نُشرت تحت هاشتاقات #خميس_الشعب #معناش #الدوار_الرابع، صورة مُحتج يرتدي الشماغ المُبلل بالدم، وفيديو يعرض ضرب مُحتج بالهروات من قوات الأمن، وصورة بارزة، مجموعة كبيرة من قوات البادية تتمركز في نفق شارع....!
في ظلام الغرفة، وأمام شاشة هاتفه بُخار أنفاسه تتصاعد، كُلما إشتدّ إحساسه بالبرد، يشدُّ عليه الفروة، الساعة تجاوزت الثانية عشر بعد منتصف الليل وهو يُحدق في الشاشة، يُتابع تويتر ويبحث عن معنى وإجابات... ليست المرة الأولى، أحس بهذا الشيء عندما لم ينجح في الدورة الأولى من التوجيهي، وعندما لم يشتري له أبوه ساعة كالتي أرادها، وعندما إنتهى أول يوم عيد رمضان عندما كان في الصف الأول الابتدائي، وعندما خسرت الأرجنتين نهائي كأس العالم عام، 2014، وعندما خسر المنتخب الوطني في ضربات الترجيح ضد اليابان عام 2004، هو شعورٌ مألوف إذن! لكنه ليس كهذا الطعم وهذه الرائحة، ولكن هل له إسم يستحقه؟ خَيبة... إحباط... ألمّ... قَهر... لا ليست هذه الاسماء مُناسبة لذلك الشعور!

***

لماذا الآن؟ في هذه اللحظة، حيث الليل وصل حدّ الإشباع وأسقط ظلامه كاملًا فوق كل شيء...! كل شيء هادئ، تبدو الأشياء كذلك، وليست بالضرورة كذلك، لماذا الآن تلتهمه صورة رجل مُشرد ينامُ على الرصيف، كان يومًا باردًا اليوم الآخير من سنة 2018... خَرج من "الساحة الهاشمية" برفقة صديقيّن، وتوقفوا بإنتظار تاكسي لتأخذهم لجبل القلعة، وكان يُحاول إقناع رفيقية بأن الذهاب مَشيًا أفضل... وألتفت ليرى المُشرد نائمًا على الرصيف، والآن يُداهمه إفتراض او حقيقة ربما: "يمكن كان ميت!"، لم يفهم عادية الأمر، كيف كل شيء كان عاديّ؟!
الرصيف كان مُزدحم بالسائرين، والمُشرد كجُثة هامدة، أو هو كذلك!
وهو واقفٌ بين رفيقية لا يفهم! الشارع بالطبع مُزدحم بالمركبات والتكاسي كثيرة ما لم تحتاجها...! وكل شيء عاديّ، إلا هو! هو الذي لم يستطع كبح إستنكاره، ونبّه صاحبيّة لفداحة الأمر:"شوفوا ورا... على الرصيف...!"
بعد أقل من عشر دقائق، كانوا في التاكسي صاعدين نحو جبل القلعة، وفهم لماذا رفيّقية أصّرا على إستخدام التاكسي!
الآن الصورة واضحة، أوضح مما كانت.... لماذا مرور الوقت يُغيّر حقيقة مشهد ما... إفتراض ما...؟! مشهد حقيقي وإفتراض واقعي ملموس!!
يتغيّر كل شيء مع مرور الوقت، طال أو قَصر، الأشياء التي لا تتغير تفنى بطُرق عديدة منها: اللاجديد! واللاجديد موتْ.
رجل وجهه شاحب ومُسودّ، له شعرٌ فاحم كثٌّ ومُجعد، يرتدي ملابس مُهترئة وبالطبع مُبقعة بشكل كامل، وينام على صفيح كرتوني، على بلاط رصيف أحد شوارع وسط البلد... الصورة عاديّةٌ جدًا، مُكررة جدًا، والآن يُفكر بأنه لو ذهب لذلك المكان في هذه اللحظة سيجد المُشرد في مكانه، ربما ليس نائمًا... لكنه حتمًا هُناك، لأن بعض الأشياء لا تتغير ولا تفنى "ولا شي"، تبقى موجودة بشكل واحد...!
***
الساعة الواحدة والثلث بعد منتصف الليل، والهدوء الخارجي بات قويًا جدًا... وفي رأسي كل الأشياء ولا شيء مُحدد، أستطيع أدراكه ومعرفته...!

***


هَطل المطر غزيرًا. وكان مشهد الهطول من نافذة البناية "فاتنًا" جدًا. على صفيح زينكو بلون الصدأ، بدا المشهد وكأنه خيالي، هُناك أشياء عندما نُصادفها تبدو بأنها تحدث لأول مرة، رغم "عاديّتها"، إنتهى الهطول الغزير بسُرعة، واشرقت الشمس، الوقت ظهر احد أيام آذار/مارس، وعندما تغيّر الطقس بشكل فُجائي، نبتت في ذهنه فكرة، هي من تلك الأفكار المُلّحة وغير الواضحة... هو منذ(الله وحده يعلم) يُعاني فوضى بالأفكار والرغبات وكل شيء تقريبًا، وهذا الأمر مع مرور الوقت يتحوّل لمرض مُزمن وخطير، ولكن نحن لسنا أطباء أو إخصائيين لننصحه ونُرشده لحلول وأي شيء آخر، لنا به الآن جالسًا أمام النافذة، يرى الأرض التي إبتلت من المطر قبل لحظات تلمع تحت أشعة الشمس.

وتذّكر بأن قبل أيام قليلة حدث وضجّ الواقع الافتراضي بشكل خجول وعاديّ، بخبر إعتراف ترامب بالجولان أرضًا للكيان الصهيوني، والآن كل الضجيج صار بالأمس، كالأمس القريب عندما نُقلت سفارة الولايات المتحدة الأمريكية للقدس وبذلك تم إعلان المدينة عاصمة للكيان و... وأحسّ بفوضى شديدة تعتمل في رأسه، وقام من أمام النافذة ليُغادر بيته نحو... أيّ مكان لا يحتوي جُدران وسقوف، ولسوء الحظ فإن هذه المدينة كلّها جُدران مُهترئة لكنها لا تنهار، وسقوف مُتسخة ومُشققة وأيضاً لا تنهار...!

مشى ومشى إلى أن أرهقهُ المشي، أنفاسه لاهثة وجسده بدأ يتعرق، وأراد خلع ملابسه، بالفعل أراد ذلك، وقد أمسك اعلا بنطاله ليخلعه... لكنه توقف عن ذلك فورًا، وبدأ يتلّفت في كل الاتجاهات وأطمئن لأن الناس لم ينتبهون له... عدد الناس قليل في مثل هذا الوقت، لكنه يرغب بكل ما تحمله الكلمة من تمنيّ وإلحاح، بأن يكون وحده الآن بلا شيء، بحيث يتعرّى من ملابسه ويتبوّل ويتمدد وينام و....!
أعظم عذابات الإنسان تمنيّاته ورغباته "اللاواقعية"، تلك التي تبقى موقوفة ومُمكنة ومُستحيلة.
لا أدري كيف أبدأ حكاية من مُنتصفها، فالبداية لا تجوز من مُنتصف! البداية بداية.
قصتي قصيرة. جدًا قصيرة.
ثمة بدايات، بلا بداية!
ونهايات لا تنتهي بالفعل... كقصتي هذه! منذ ساعة بدأتها، كيف مَضت الساعة؟
قصتي واحدة وإن بَدت كأجزاء لا تتشابه!
حكاية... قصة... حياة رتيبة وروتينية... هل هُناك شيء يستحق؟
لمن أكتب؟ ومَن سيقرأ، ليَعي؟ من سيُشاهد ليفهم؟!
بكل الأحوال، لن أتوقف....
عند مُفترق طريق، أمسك يدها... وبزغت في ذهنه كلمات، ربما كتبها في دفتر أو كتغريدة أو بوست، أو هي مُجرد هاجس:"أرجوكِ أبتعدي، وضُميني إليكِ"!
أفلت يدها، كانت وهو بإتجهايّن مُختلفين، كانا يسيران جنبًا لجنب لساعات، وأمسك يدها عندما إختار كل منهما إتجاه سَير مُختلف...!
تبدو الحكاية مُكررة! لا بأس.
الرؤية ليست واضحة... دائمًا ليست كذلك!
ضباب وبرد شديد، وكانت يداه "مُتجمدتان" حرفيًا، يضعهما في جيوب سترته البالية، ويفركهما وينفخ فيهما الهواء، ولا فائدة!
إلى أن وصل "كشك السعادة"، دخل ووقف جنب الغاز، وبدأت لذة الدفء تغزوه وهو يرتجف، سأله البائع المُندهش:"عاوز إيه يا عم؟" بلهجة مُتهكمة، وبنظرةٍ مُشمئزة، لهذا الشخص المُتسول فيما يبدو، والذي يقتحم الأماكن بلا أي رادع ويستعطي الأشياء، كيف -باللهِ- سيُخبر هذا البائع بأنه لا يُريد شيئًا، نعم هو يرغب في شرب شاي أو قهوة، يُريد أن يشتري كيك أو بسكويت، وهو بالتأكيد يملك ثمن هذه الأشياء التافهة... لكنه لا يُريد، إلّا هذا الدفء!
فقط سيبقى واقفًا هُنا، إلى أن ينزاح الضباب، بفعل الشمس الدافئة...! آذار وضباب وبرد شديد، كيف؟!
وبلا تفكير، ودون أن ينبس بحرف، غادر الكشك، وهو يشعر بذلك الشعور القويّ، الذي لا يُفهم في حينه، ويكون صاحبه "ليس هو لمدة ساعتين أو ثلاث"!
سأتوقف الآن عن الكتابة لأسباب شخصية وسأعود حتمًا... إلى اللقاء،
في كلّ يوم، بل في كل لحظة أزدادُ يقينًا بأن هذه الحياة محضُ حماقة تافهة، نخوضها بكل جدّية وغباء...!
وصلت إلى البيت، كانت كأنها تحمل فوق ظهرها أثقالًا، حتى عندما بدّلت ملابسها وأغتسلت، وعندما إنتهت من تلك الأفعال الروتينية أحسّت بإرتياح لكونها إنتهت منها، كواجب تُنجزه وتنتهي منه، في غرفتها جلست فوق السرير، الغُرفة ومع أجواء الغروب لها شكل خاص، شكل ذو تأثير وجداني مُبهم، وجوّ الغرفة الخانق مع رطوبتها الباردة والثقيلة يجعل من الداخل إليها للوهلة الأولى.... ببساطة تنتابهُ مشاعر غُربة وخوف وحُزن وأشياء أخرى كثيرة، من وراء الستائر لون الغروب كأنه وهجٌ شديد في ليل دامس... لم تُشعل الضوء، كانت "تتربع" في جلستها فوق السرير، هُناك رغبة قوية تنهشها، رغبة بأن تقوم فورًا، تُعيد غسل أقدامها ووجهها، وبأن تحمل "جوز جراباتها" وتضعه في أيّ مكان غير مكانه الحالي في وسط الغرفة، وتُشعل الضوء وتُرتب فوضى المكان، وتبكي... بالفعل هي ترغب بالبُكاء فقط، في صدرها آهةٍ تعجز عن الإستمرار في إسكاتها، ولا تفهم لماذا لا تستطيع فعل شيء؟
كأن تتحرك فقط، تدرس أو تأكل أو تنام أو... أيّ شيء آخر، غير هذه الحالة التي تجثم فوقها، الآن في هذه اللحظة!!
مُجددًا عاد، شيءٌ ما مجهول، يأتي ويغيب فجأة، كمثال: يأتي ليجعل مشهد ربيعي خلّاب عبارة عن مكان رماديّ بلا ملامح، أين الزهور؟ والشمس؟ والنجوم؟ أين الهواء؟!
لا شيء، سوى اللاشيء يملأ المكان.
بعد ساعة كانت الغرفة مُضيئة، ومُرتبة بعض الشيء، فجوز الجرابات لم يعد في مكانه والليل في الخارج يبدو بعيدًا، عاد الربيع...!
وعادت للغرفة واغلقت الباب ورائها، منذ مدة ليست قصيرة تشعر بأنها "مُنتهكة" أو "مُستباحة"، أما كيف؟ ولماذا؟
هي نفسها لا تعرف؟
كل الذي تعرفه بأن المكان، أيّ مكان -حتى غرفتها- تتواجد به لا تشعر بأنها وحدها!
هي ليست في مكانها إن صحت العبارة، لا تستطيع أن تكون كما هي، يجب عليها دائمًا أن تكون عند حُسن ظن المكان الذي تتواجد به، أن تكون مُستعدة للمُسائلة؟! عن أي شيء... حتى إبتسامتها، يجب أن تكون لسبب واضح!
فكيف وإن داهمها بُكاء، بُكاء له سبب طبعًا، لكنها لا تُدركه؟ ربما لو أدركته لما بكت!

***

... وعندما أجتاز الطريق المُزدحم، على الرصيف توقف، الرصيف المُزدحم كذلك بالسائرين، وبسط يديه، وأحنى رأسه ليرى هيئته، تلك الحركة التي بدرت منه أثارته، وأحسّ بأنه "يُمثّل" لا يفعل الشيء الذي يُريده، بل أشياء تُملى عليه ليفعلها وألّا...
مَشى ووضع يديه في جيبه، الهواء بارد جدًا بالرغم من أن آذار أوشك على الانتهاء، هو موجودٌ كجسد يمشي على رصيف في مكان ما... الساعة الواحدة ظهرًا، جسدٌ يرتدي ملابس ليست أنيقة، بل هي ملابس مُشرد أو مُتسول، يمشي بإتجاه ما، ويرى: مكان يعرفه جيدًا، مكان هادئ وواسع، هو وهي يقفان بمُحاذاة السور، هي تقف أمامه، وهو يتكأ بجسده على السور، والوقت يمضي بسرعة... والأشجار والجدار المُقابل والسماء والهواء الخفيف والشمس التي تظهر كل حين بفعل مرور الغيمات السريعة، كلّها معهما في تلك اللحظة، وفجأة تنتهي اللحظة... لماذا كلّما داهمه هذا الإحساس الرهيب المُبهم، يرى ذلك المشهد؟!
ويتسائل لماذا لا تستمر الأشياء وتنتهي...؟؟
لماذا عليه الآن أن يمشي وحيداً في هذا المكان، وهو هُناك معها؟!
أيّنها الآن؟؟
لماذا كان يُدرك حتى في تلك اللحظات، بُعدها وقُربها؟ وبأن وجهها القريب، سيأتيه عندما يكون كما هو الآن، وحيد ويُحاصره البرد والخوف من...!
توقف وأراد أن يعود للكشك فورًا، أن يُمسك ذلك البائع من تلابيبه ويطرحه أرضًا، ومن ثم يضربه حتى...!
وعاد أدراجه، ولم يُسرع في المشي، بل كان يمشي ببُطئ غير معهود، وعندما إقترب من مكان قديم ومهجور، دخل للمكان، وجلس على الأرض، الوقت لن يمضي بسرعة!
هُنا البرد، والروائح الكريهة، والأبنية المُهترئة، ونهض وعندما نفض الغُبار العالق بملابسه، أحسّ كذلك بأنه "يُمثّل" لا يعلم إلا الله كيف؟ ولماذا؟
بعد ربع ساعة تقريبًا، وصل مُجمع الباصات، وصعد في باص مدينته القريبة بعض الشيء، وجلس في مقعد فردي، الباص يكاد يمتلأ، وصوت الراديو يبدو واضحًا جدًا وبعيد، يبدو كأنه يأتي من قعر بئر، وكان قد أغمض عينيه وهو يشعر بإزدحام ذهنيّ عنيف، وبرغبة مُلحة لتدخين سيجارة...!
كم مضى من الوقت لا يعلم، لكنه وبلا معنى، وجد نفسه في مكان آخر... مكان قريب من المُجمع، يعلم بأنه هُنا، بين هؤلاء الأشخاص الغُرباء منذ ساعتين أو ثلاث، عددهم ستة، وهو الوحيد الذي يبدو غريبا عنهم، يتحدثون بحماس وقوّة، وهو لا يفهم كيف حدث كل شيء...؟!!
كيف؟؟
في صباح هذا اليوم غادر منزله للعمل، ككل يوم، ولكن ما الذي جرى؟
متى دخل الكشك، ومتى مشى نحو السوق من طريق لا يسلكه عادةً؟
الجو مُشمس ودافئ، والساعة تُشير إلى التاسعة والربع صباحاً، لم ينظر ليتأكد لكنه يعلم بأنه يرتدي ملابس مُناسبة، وجلس على المقعد، ووضع رأسه بين بديه، صوت الأشخاص صار ناشزًا وضوضائيًا...
يعرف هذا المكتب فهو يعمل هُنا منذ ثلاثة أشهر، والأشخاص... يعرفهم ليس جيدًا، فهذا الذي يتحدث وكأنه يتشاجر أسمه مهند، وهو المسؤول عنه وزملائه، هو من الأشخاص الذين يتطلب التعامل معهم، إكتساب مهارة قراءة لغة الجسد، فملامحه ثابتة، دائمًا عابس الوجه، حتى وهو يضحك!
البقيّة هم أشخاص عاديون، تُصادفهم كل يوم، وعندما تُركز معهم، تُدرك ميّزات لكل واحد منهم... وليس هذا هو المُهم الآن، فهو يعرف كل شيء، وفجأة لا يعرف شيء...!
ككيف لهُ أن يتأكد هل هو موجود الآن هُنا، هل المشهد أمامه حقيقة تحدث بالفعل، ام أنه الآن في مكان آخر...!

علينا أن نفهم قبل فوات الأوان، بأن الأوان يفوت وبأن الأشياء تتبدل، وتكتسب بُعدًا جديدًا كل حين، وبأننا أطفال مهما تطاولت بنا أعمارنا وأوغاد وحمقى وسُذج وطيّبون و...

كل حياة هي حكاية تستحق منّا قراءة تحليلية ومُتأنية، من أجل الفهم وأخذ العبرة وحتى نُدرك قيمة الحياة فعلًا، بأن اللحظات لها معنى وإستمرارية وتأثير قد لا نُدركه باكرًا، لكننا حتمًا سندركه ونُعيد النظر في كل شيء!
لم أنتهي بعد، ولن أنتهي... النهايات ليست كذلك، هي مُجرد فواصل في عبارة حتى نقطتها ليست نهائية، دائمًا هُناك إستمرار لأشياء تبدأ، كهذه الليله مثلًا!
هذه الليله تُشبه لياليّ الماضية، والليالي جميعها تختلف، أنا وظلام الغرفة والنور الشحيح الذي يأتي من الخارج، لو أن الستائر تتحرك وتُوقف إقتحام النور؟! سأقوم لأفعل ذلك... لا... لماذا أفكر في هذا الأمر؟!
لماذا تستحوذ عليّ الأفكار السخيفة والرغبات التافهة؟
أأنا مجنون؟ ليش أنا هيك؟!!
وحيدٌ وخائف ويتمسكّ بالحياة ويرغب بالتخليّ عنها!!
لطالما تسائلت ما جدوى حياتي هذه؟ ولماذا أستمر؟ ومنذ متى بدأت أستعجل نهايتي؟ و.... لن أنام ككل ليلة، النوم منذ... لا أعلم تحديدًا متى بدأ النوم يُزعجني والإستيقاظ يُؤلمني؟!
ولكن في الحقيقة، بدأ الأمر بشكل تدريجي وكمراحل مُتتالية، في كل مرحلة أفقدُ وأمتلك وأخسر وأربح أشياء، وربما وعيي بهذه الأشياء سبب لما أنا عليه الآن... شابٌ عشريني يُحاول رسم ملامح نهايته!
هل للأمر أهمية؟ ههه
كلّنا لسنا مُهمين، ومُجرد أرقام وأجساد تتقدم نحو فنائها الحتميّ في كل يوم... وكل لحظة!
نتوّهم أهميتنا، ونعتقد جازمين بأن العالم من حولنا يفهم.. يُدرك.. يَعي.. وجودنا وما يحدث لنا!!
وقد تكون الحقيقة الوحيدة هي: وحدتنا، وحيدون رغم كل النظريات الاجتماعية السخيفة، وحاجتنا الدائمة للآخرين!
لا أحد يفهم

***

كم أنا مُرهق...
من كل شيء حَدث ولم ينتهي، وتلك الأشياء التي لم تنتهي بالفعل، وأنا وكل ما حَولي مُرهق...
الآن أتذكر شخص جائني وحاول الإقتراب مني، وأقترب أكثر فأكثر، وهو لا أعرف له أسم وكانت معرفتنا على الفيسبوك لأنه من بلد بعيد، يُسمي نفسه مُنير وأنسى دائمًا أسمه الحقيقي، يمكن أسمه عادل!
لمدة أشهر نتواصل بشكل مُتقطع، يشكو إليّ حاله، ومرضه النفسي الذي كبّله، أتذكر قبل عام تقريباً كان يودّ أن يُصبح مثلي "مُدوّن وناشط"، ويطلب مني التوجيه والنصيحة وكنت أحاول مُساعدته، وأفشل دائمًا!
والآن أتذكر "رامي" شابٌ كمُنير، لكنه من وطني، ولا أعرف عنه إلا مُعاناته مع مرضه النفسيّ أيضًا والواقع المريض!
أتذكرهم وقد إختفوا، واليوم وبعد مرور أشهر قليلة، وفي هذه اللحظة أشعر بالخوف والاسئلة والوجوه البعيدة تُحاصرني... مُنير كان يُعاني أفكارًا إنتحارية ورامي أيضًا، وقبل الأفكار كانا يُحاولان الحياة... ولكن هل الحياة "غير عادلة بالفعل"؟
عليّ أن أُغادر حُجرتي الآن...
وأن لا أستمر في هذا! لقد أغرقتني الأحداث وهذا الهدوء التام كمُحيط لا يُبشر بميناء بعيد لكنه موجود!
لكنني أعجز عن الوقوف والتوقف عن هذا، وإني لستُ مهمومًا كما ينبغي، وبأنني لن أحتمل هذا البرد الذي يحتضنني بعنف وسأحتمل...!
يا كلّ الناس، هل أنتم بخير؟ وهل كل شيء في الخارج روتينيًا وعاديًا؟

***

إن الإنسان مهما فهم لن يفهم... إنني الآن في هذه اللحظة أغرق مُجددًا، في ما قد ظننتُ نجاتي منها... كيف للأشياء أن تتشابه وتعود؟ يُمكن لأننا في دائرة مُغلقة أو ما حياتنا إلا سلسلة مُترابطة من الأشياء التي تختلف وتتشابه!
أكثر ما يُؤلمني الآن في هذه الليلة اللعينة، هو مشهدٌ أو مشهدين، حسنًا... لا أستطيع حصرها بعدد، كلّها الآن تُؤلمني، وتغرسُ فيّ أسياخ حادّه... هل من أحد يفهم، ويشعر؟ هذا السؤال الغبيّ والذي يزيدُ من ألمي الآن... لستُ بحاجة المزيد، كل الذي أحتاجه هو الهدوء... الهدوء فقط!
ولأنني أبحث عنه لن أجده، ولعليّ أنا من حماقتي أبتعد عنه، أو لعلني... كل شيء قابل للتعليل، كل شيء لم يحدث ليته حدث، وكل الأشياء التي حدثت ليتها حدثت بشكل أو بآخر غير حدوثها الذي حدث، هذا اذا لم أكره حدوثها الفعلي... الإنسان أحمق، وأحمق أكثر كلّما أمعن في حياته بما لا يقبل مجالًا آخر

الألم في الحياة، كيف نستطيع تفاديه؟
وهو ينبت في حياتنا يوميًا، في كل شيء يكمن الألم!
هل علينا لنطمئن تقبّل وجوده؟
وهل قبولنا لوجوده، يجعلهُ عاديًا.. مُستساغًا؟
لا أعلم... كل الذي أعرفه بأن الألم يُرافقني دائمًا، ولم أعد قادرًا على تحمّله...!
وعليّ أن أتحمّل، لأعيش... يا لهذه العيشة ما أحقرها!! ومع ذلك في داخلي، في كل لحظة، ثمة حياةٌ تتوقد... ربما أنا الآن في طور الإنطفاء، ولم أعد أرغب بتوقد جديد، يعقبه إنطفاء حتميّ... لن أنام سأُكمل،
كل شيء تمامًا، يَبهتْ، يتغير في لحظة، لستُ سوى لحظات لم تبدأ تمامًا ولم تنتهي، أنا عالقٌ في هوامش الزمن، وأنتظرُ سقوطي في كل لحظة...
ويلتهمني الرُعب... وحدي!
وكل من حولي، لا أراهم... بدأت مؤخرًا أُشكك في حقيقتهم وبي أيضًا...!
أعلم بأنني "ضحية"
أفكاري ومُعتقداتي، ومخاوفي وآمالي وتطلعاتي... يُمكن تلخيص شقائي في "بقايا عقل الطفولة" الذي يجعلني أرتعب من الواقع ومن وحدتي، ومن إنهيار الأشياء وصوتُ إنهيارها...!
كراهيتي للناس تأتي من محبتي الشديدة لهم!
كل المآسي التي تحدث وستحدث تسببها تلك العاطفة الإنسانية التي تُحركنا وفق نزواتها السخيفة... وتعاطفنا هو منبع تعاستنا وهو الذي يجعلنا وحوش أليفة، وهذه المشاعر والتي تترتب عليها أفعال تتناقض غالبًا هي ما يُميزنا كبشر...!
وعقلنا هو مصدر الألم الرئيسي، وعلى كل حال لماذا أنا الآن مشغولٌ بهكذا سخافات؟ مع أنني يجب عليّ أن... ما الذي يجب علي فعله؟
ولماذا أشعر بقوّة بهذا الشعور الرهيب والخاوٍ واللامفهوم؟ ويضعني هذا الشعور القديم والجديد بهذه الحِدّة في مواجهة مع نفسي... في هذه اللحظة التي أنا فيها وحيدٌ ومرعوب ولا أقوى حتى على النهوض من مكاني!

***

نعم يا صديقي أنا مُمتنٌ جدًا للحياة، والآن وأنا وحدي في هذا الهدوء وسجينٌ في هذه الليلة، هذه ليلة لعينةٌ بلا شك!
يا صديقي أين أنت؟
منذ متى وأنا وحدي؟؟ وهل هذا الليل كان يزول... كان ينجلي ويأتي بعده الصبح؟
لم أكن إجتماعيًا، كما الكثير من البشر... كُلنا إنطوائيين ولسنا إجتماعيين!
لم يكن لديّ الكثير من الأصدقاء، لكنني أحببت فتاة وأحببت أخرى، وكنت دائمًا وحدي!
أحببتُ زوجة لأحدهم الآن، وأحببت الحياة كثيرًا حتى وجدتني فارغًا من الحُب؟!

ما هو الحُب؟
هو نورٌ يأتي فجأة ليعبث في ظلام مُقيم! هو ظلامٌ ينفجر في وضوح الشمس! هو... لا أعلم!
ربما للحب معنى خاص لا يُمكن تعميمه!
حياتنا بلا حب موت، وموتٌ لحياة حب أيضًا... حسنًا، الحُب شعورٌ إنسانيّ عظيم، وضاع هذا الشعور في متاهات حياتنا الكريهة... يَظهر لكننا نُرغمهُ على الغياب أو الإبتعاد، نحن مُنشغلون بالكراهية والبغضاء والتنافس السخيف!
والآن أنا مؤمن جدًا بأنني لم أُحب!
ولأن الحب عام، وليس شعور بين شخصين، ذكرٌ وأنثى أو من نفس الجنس، لا يُمكننا إطلاقًا أن ندّعي بغباء عدم إيماننا بالحب، كلّ حيّ هو مُحب بالضرورة!

تلك الليلة، من لياليّ أيار النادرة، ليلة أعقبت نهارًا حار بعض الشيء، وكان القمرُ نصفًا، والنجوم ساطعة... كنت وصديقي جالسيّن قُرب شجرة ضخمة، وبعيدًا عن ضجيج الناس، إنتابني وأنا جالسٌ هُناك إحساسٌ خارق... لو أنني فقط أستطيع كتابة ذلك الشعور؟ لو أنني أملك تلك الموهبة في الكتابة... آه، كم أنا عاجز!

عندما عدت للمنزل وقد كنت وأنا جالس قُرب الشجرة ومشاعرٌ جديدة تختلط ولا تمتزج بمشاعر قديمة، كُنت أستعجل العودة للمنزل، لماذا كنت أستعجل العودة؟ لماذا دائمًا أنا أستعجل؟!
لم ينم جيدًا منذُ... عاميّن كأقل تقدير!
وأستيقظ في هذا الصباح ثقيلًا وحزينًا بل إستيقظ ساخطًا جدًا!

قبل ساعة وصلَ مكان عمله، وصل وهو يشعر بذلك الإحساس الغامض والغارق في الضباب... هو إحساسٌ أقرب لرغبة مُلّحة بالبكاء، فقط يُريد بل هو مُحتاجٌ جدًا لأن يجلس في أيّ مكان لينتحب على مهل!

في إنتظار الباص، وبين جموع غفيرة من الناس، كان يُحاول التركيز... أن يكون هُنا فقط، حيث الصباح الباكر والبارد والشمس البعيدة والدافئة والروائح الواضحة... رائحة مطعم قريب وقهوة وعوادم السيارات والسجائر والنفايات، وأصوات الناس والمركبات وضجيج كل شيء حتى عامود الإنارة له صوته الخاص في الصباح، وليس في أماكن عديدة، كأن يُشاهد تلك التفاصيل الغير مُترابطة لكنها تأتي مع بعضها سويةً لتجعلهُ ذاهلًا عن واقعه ضائعًا في متاهة التفاصيل المُعتمة!

خرج من مكان العمل، وقد كان رأسه يكاد ينفجر من فكرة ترتطم بفكرة، ومن لاجدوى تُثقل عليه ما يرى ويسمع ويحس، هاهو يجلس في مكان يحتوي مقاعد وبعض الشُجيرات، هاهو يرى عبوس الأشياء من حوله وتجهمها الكريه!
تستيقظ التساؤلات والمخاوف والهواجس والرغبات...!
جَلس في زواية المكان، وأخرج علبة سجائرة وتناول سيجارة وأشعلها وراح يُدخن ويسيرُ مع الأفكار، هو أراد أن يستسلم... نعم أراد ذلك!
منذ أيام يُقاوم ويتهرّب، ويواجه حينًا ويضعف حينًا آخر، والآن قرر الإستسلام!

كل شيء يفقد بريقه، وتنطفأ أيّ شعلة متوهجة مع مرور الوقت... هذه الحقيقة لا يُدركها الإنسان إلّا مُتأخرًا وقد لا يُدركها إطلاقًا!

الساعة الواحدة بعد منتصف الليل... الآن أنا كأيّ شيء لا يستطيع الحِراك.. التفكير بشيء مُحدد.. النوم.. البُكاء أو الضحك... حتى التنفس... بجهد بالغ أتنفس! هل يُمكن أن يتحول الإنسان لأريكة أو طاولة... ليتني جدار غرفتي المُظلمة، من النافذة أمامي أرى "نيون" بيت الجيران... والنور المُنبعث من هذا "النيون" يجعل من المشهد أمامي... يجعله "مُستحيل" لا أدري كيف ولماذا؟!

الساعة العاشرة صباحًا، لماذا الجيران لا يُطفئون "النيون"؟
قبل يومين في مثل هذا الوقت إنتبهت لهذه القضية... قضية "نيون بيت الجيران الذي لا ينطفأ"، آه كم أنا "أهبل" لماذا أنشغل بهذا الأمر الغبي؟
اليوم الإثنين وأنا مُجاز من عملي، في العمل أتمنى كأمنية مُستحيلة ولذتها في إستحالتها أن أكون وحدي في غرفتي، والآن وأنا في غرفتي وحدي أجدني لا أستطيع فعل أشياء مُهمة مع رغبتي المُلّحة في فعل تلك الأشياء... ما هي الأشياء؟
عليّ أن أقوم من مكاني، أحيانًا كثيرة أسمع مقعدي يبكي أو يشتمني!!





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق