الخميس، 29 أغسطس 2019

عن يومي...

صباح يوم الخميس، 2019/8/29

يرنُّ المُنبه في تمام الساعة السابعة صباحًا وأحيانًا في السادسة وعشرون دقيقة... أستيقظُ عادةً بعد مُقاومة شرسة للنوم الذي يجثمُ فوق كاهلي... أشعرُ به ثقيلًا فوقي!

من عاداتي الثابتة منذُ ثلاثة سنوات، وهي العادة الأثيرة لديّ (جدًا)، ألا وهي الإستيقاظ الباكر، قبل الثامنة صباحًا... والسهر لوقت غير المُحدد، المُهم هو أن أتجاوز منتصف الليل، وأشهد بداية يومي الجديد، والنوم بعمق بعد الغداء والقراءة (مقالات عن مواضيع عديدة، وكتب..)...
أستيقظ وأشرب ما لا يقل عن كأسي ماء، وأصنع قهوة (فوق الوسط تميل للحلاوة) وأضع إبريق الشاي على الغاز، وأنتظر غليان الماء لأضع فيه ثلاثة ملاعق صغيرة من الشاي، أنتظر جالسًا في (المضافة) على أريكتي أحاول عدم التفكير بأيّ شيء مع تفكيري العنيف والمُشمئز بكل شيء...
في هذه الأيام وبعدما أنتهي من تلك الأمور، أذهب بعيدًا نحو المزارع، وأجلس في قناة مياه بقرب شجرة ضخمة (تظهر في الصورة أعلى هذه المقالة)، وأُدخن سيجارة (ع الريق)، وأعود وقد بدأ بطني يئن، ولأن الفصل صيف وحار لا أشتهي الأكل، فأتناول بضعة لقيمات من الخبز المُغمس بالزيت والزعتر مع الشاي بالحليب... وأغسل يدي جيدًا، وأجلس في مكاني وأتناول سيكارة وأشعلها، أمتصها بلذة مع رشفات من القهوة، لذتها تقلّ عن لذة السيكارة الأولى وأنا أستمع لـ"وحدن بيبقو..."!،

والليل... آه كم أعشق الليل؟
الليلُ صديقي الصدوق، وأنيسُ وحدتي وشعوري بالغربة في حضرة/وجود الناس...!

الليل يُداعب وجداني، ويغويني لكتابة مشاعر وعواطف تجيشُ في أعماقي وتُخلخلُ وجداني الهشّ... أخذتُ منك صفاتك يا ليل؛ فأنا هادئ جدًا وبي ضجيجٌ مُدويّ،
أنا مظلمٌ وواضح أكثر مما يجب...!

يا ليل... ويا صباح الغد الباكر، لن أخون حُبي لكما، أعلم بأن الحب لا يتجزأ، وما حيلتي إذا إبتُليت بحبكما؟؟! 

الأربعاء، 28 أغسطس 2019

رسالة لصديقي الله

صديقي الله، أكتبُ إليك مُجددًا...

مرّ وقتٌ طويل، ونسيتك في غمرة إنشغالي اليوميّ باللاشيء تقريبًا، ولستُ أعتذر عن هذا الغياب، لكنني تنبهتُّ منذ قليل إلى أنني لم أكتب إليك من زماان... وها أنا أكتب:
هل أنت صديقي بالفعل؟ أم أنك مُجرد أكذوبة/وهم/فرضية إختلقها الأقدمين وتوارثتها الأجيال بأمانة وإخلاص؟!

المُلحدون بك كُثر، لكن أغلبهم "حمقى ومُغفلين"!
والمؤمنون بك أكثر، وهم أيضًا لا يقلْون حماقةً وغفلة عن المُلحدين!

لن أتهمك بشيء إطمئن، ولن أسألك عن أيّ شيء يُثير التساؤل والإعجاب والإستغراب... ولكن هل بالفعل أنت المسؤول عن هذا الوجود؟!
إذا كنت أنت المسؤول، وأنت كما يدّعون إلهًا كاملًا ولك عرشٌ وملائكة لا يعصون أوامرك، ونحن كلنا عبيدك، وبيدك -إن صح وكان لك يدين- وبيدك (بالطبع اليمنى) اقدارنا وكل ما يعنينا... إذا كنت كذلك فأنت واحد من ثلاثة، إما مجنون أو مهووس أو أحمق بذكاء!!

هل يُعقل يا الله أن تفعل كل هذا؟
ولماذا...؟
لماذا تنظر إلينا بعين مُشفقة وأخرى ساخطة؟
بالمُناسبة، هل لك عينين؟ وما لونهما؟ وهل لعيانكَ سحرًا يفتن... يفتن مَن؟ هل أنت تملك قضيب أم كُس؟!
أووه... المعذرة يا الله لم أقصد إهانتك... أنت لا تُشبه شيء، فكيف أتجرأ على تخيّل إمتلاكك لأعضاء إنسانية، ولكن ألم تقل في إحدى كتبك التي أوحيت بنصوصها لأحد أنبيائك، بأنك خلقت الإنسان على صورتك...؟؟
المُهم الآن، أخبرني بالله عليك... عفوًا، أخبرني يا من تعلم كل شيء وبيدك كل شيء، أخبرني متى اليوم الذي ينتهي فيه هذا الوجود؟ متى تتوقف هذه اللعبة السخيفة والمُملة والسامجة... بالمُناسبة نحن جميعاً نكرهك بدرجات متفاوتة، وصدّق بأن المؤمنين يكرهونك أكثر وأشدّ من المُلحدين... المُلحدين لم يعرفونك فقط، أما المؤمنين فهم يخدعونك صدقني يا... يا الله،
حسنًا... أخبرني عن آخر أعمالك؟!
لا تتأخر عن الإجابة، أنا أنتظرك يا صديقي العزيز... آه، أنت لست صديقي، أعتذر عن هذا الخطأ المقصود وهي كلمة بروتوكولية مشهورة لا تأخذها على محمل الجد... فأنت لست صديقي، أنت... مَن أنت يا الله؟؟!! 

الاثنين، 26 أغسطس 2019

أزمة وطن (تدين المجتمع)

*المُتدين في هذا الطرح هو كل فرد يُمارس العادات الدينية (أهمها الصلاة في المسجد) 
اليوم أصبح للتدين شكل وتحوّل الدين لظاهرة إجتماعية.
وفي مجتمعاتنا العربية التي تدين بدين الإسلام مع وجود أقليّات دينية معظمها من الدين المسيحي، يُمكن أن نقول بأن مجتمعاتنا اليوم دينية جدًا...
سأتحدث هُنا عن دين المُجتمع الإسلامي، وأجدُ صعوبة في تحديد المحاور التي سأتناولها وعن ماذا بالضبط سأكتب...
ولأنني بدأتُ هذه المقالات بكتابة إنطباعاتي الشخصية حتمًا سأستمر بهذه الطريقة... ولن أسمح لعاطفتي وأفكاري الخاصة بأن تُؤثر على طرحي للمسائل الإجتماعية التي تُشكل أزمتنا الوطنية...
في كل قرية مسجد، بل في بعض الأحيان في المكان الواحد يوجد عدد من المساجد، والمسجد هو مكان للعبادة(إقامة الصلوات المفروضة)، هذا المبنى الأنيق جدًا، والذي يُشبه القصر الفخم، أصبح وجوده ضروريًا، بل يُمكن قبول عدم وجود بقالة أو مخبز أو مكان مُخصص لإنتظار الحافلات... ولكن لا يُمكن قبول مكان بلا مسجد "فخم بالضرورة"، وقد نفهم من هذا الأمر أهمية المسجد للمجتمع، وأهمية الدين مُقابل الخدمات العامة كالمراكز الصحية والمواصلات والمدارس و الخ...
يُولد الفرد ليَدين بدين المجتمع، واليوم مثلما تحدثت صار الدين ظاهرة إجتماعية ونمط حياة مرغوب ومُستحسن، فنجد الجميع يتسابقون في إظهار تدينهم ومُمارسة العبادات التي تُثبت تديّن الفرد بل وتميّزه عن غيره، ولكن هل بالفعل ثمة مُتدينين؟!
وما هي معايير التدين؟ ما هو شكل المُتدين(وهُنا قلت شكل أيّ سطح لأن الجوهر والمضمون مَخفي)؟
الدين أصبح ظاهرة، لأنه قبل عقود لم يكن له هذا الإنتشار الواسع، والأجداد لم يكونوا مُتدينين كما أحفادهم اليوم... 

ما هو الدين؟ 
هل أنا مُسلم لأنني أُصلي وأصوم... هل أنا مُؤمن بالله، لأنني أعتبر التساؤل حول الله وسواس شيطاني، يجب أن أنتهي عنه وأستعيذ بالله منه؟؟ 
الدين جوهر وفكر وإيمان، يأتي كنتيجة لإدراك عقلي... وإذا لم يكن كذلك فهو مُجرد "تقليد أعمى" 
ولو أن الدين بالفعل مُتجذر في مجتمعاتنا لأختلف الواقع تمامًا... والواقع اليوم يُظهر الدين كشكل خارجي ومظهر إجتماعي... وهو أيضًا ملاذ للإنسان الخائف بالضرورة من وجوده وماهيّة هذا الوجود وقيمته، وهو يُخفف من تعاساة الحيّ، ليطمئن بأن هذه الحياة وإن إستطالت مُؤقتة وزائلة وليست ذات أهمية... فالمهم هو اليوم الآخر والحياة الأبدية المُنتظرة(في الجنة)!
صلي وأستغفر وتخيّل وفاتك شيخًا يُمضي معظم وقته في الصلاة والعبادة... 
فالله مثلما هو شديد العذاب، فهو غفورٌ رحيم، والإنسان بطبعه يميل لتبرأة نفسه وبأنه لن يُعاقب على ذنوبه، وبأن الجنة حتمًا هي داره... فهو يُصلي أو سيصلي ويصوم أو سيلتزم بالصيام... الخ 
يفتقد إنسان اليوم للقيمة الحقيقية... فكل شيء بلا قيمة، إلا القيمة المادية/النفعية فهي تتجسد في كل خياراته وتعاملاته... حتى الدين صار كتعاملات مصلحة ما بين العبد وربّه، إعبدني وأطع أوامري ولك جنتي، إعصني ولك عذابي... 
وللدين دوره الكبير في أشكال الإستبداد السياسي/الاجتماعي، والسكوت للواقع والرضا والتسليم به... التربية الدينية اليوم، تُؤسس للعبد الخاضع والمُستكين والمُستسلم للحياة من باب "الإيمان بالقدر خيره و شره"، ولرجال الدين الذين أصبحوا "مُقدسين إجتماعيًا" دورهم في بثّ روح الإنهزامية والسكوت والخنوع... 
وهم كذلك أدوات للنظام السياسي، فتارةً يستخدمهم لمصلحته، وتارةً يقمعهم ويفرض عليهم القيود بإسم "مُكافحة التطرف"، 
من أين نأخذ شريعتنا الدينية؟ 
القرآن كتاب مُقدس وما صحَّ من السنة النبوية كذلك، وللعلماء أيضاً دورهم في التشريع... ولكن هل بالفعل دين اليوم هو دين الأمس القريب والبعيد؟ 
ولماذا نُسلّم بأصحيّة الموروث الديني وبأن الدين بشكل عام لم يتعرض للتزييف والتحريف منذ 1400سنة؟
لماذا نُنكر إحتمالية ذلك، وندّعي بشكل إنكاري لا واقعي حفظ الله لدينه؟ 
لن أخوض في تاريخ الدين وأتناول عصور ما بعد الخلافة الراشدة.. تلك العصور التي كانت فيه السياسة تلعب دورها الكبير في إستخدام الخطاب الديني لصالحها... 
ونحن اليوم نُقدّس الصحابة أولاً وبعد ذلك كل سلفنا، فهم أبطال ونحن نحيا الهزيمة... رسمنا للتاريخ صورة برّاقة وقارنا الماضي "الجميل" بالحاضر، والماضي يتجسد في بلاد إسلامية يحكمها خليفة(أموي، عبّاسي، أيوبي، فاطمي، مملوكي، عثماني...) وشعب يحتكم لدستور إلهي.. ويعيش الحياة الرغيدة، واليوم ليتنا فقط نعود لديننا وشريعتنا... ولو سألت هذا الحالم ما هو الدين ولماذا أنت مُسلم؟ لصفن وتلعثم وأخبرك بأن الدين الإسلامي كذا وكذا.. يأتيك بتلك العبارات السطحية والفارغة إلا من الوهم والخداع... 
الخطاب الديني اليوم هو خطاب عاطفي جامد ومُتخلّف، يجعل من الفرد إنسانًا يفتقد لإنسانيته وقيمتها، ولدافعية التغيير والإصلاح والنهضة، اليوم نفتقد للأصالة والإبداع ونُعاني أزمة إتباع وتقليد وتكرار!

السبت، 24 أغسطس 2019

في إنتظار شيء ما...
أجلسُ تحت الدالية.... في ظلها وتتسلُ إليّ أشعة شمسُ آب اللهاب، وتُداعبني نسمةُ هواء، الصباحُ في آخره، والظهر أَقبل مُتجهمًا وقد يبتسمُ لي...
في داخلي كلماتٌ كثيرة، وأنا مع إزدحام كلماتي أعجز... لا أجدُ عبارات لتكون وليدة مخاضي المُؤلم، لا بأس فقد إعتدتُ هذا الألم!

لا أنتظرُ شيء الآن... الإنتظار عذاب فظيع! 

في السوق المُزدحم، وبين مئات.. آلاف البشر، أشعرُ بالهزيمة والغُربة، لا أدري لماذا يُداهمني هكذا شعور في كل مرة أجيء بها إلى هُنا... وأكرهُ جسدي وكل الأجساد التي تتحرك هُنا وهُناك... أشعرُ بعداوة العيون وشهوانيتها و... أرى في العيون أسباب "تخلّفنا" وبأننا محضُ أجساد بلا عقول ولا قيمة، 
كل شيء غريب ومُثير للدهشة... مع أن كل شيء مألوف ومُعتاد، 

قبل قليل وأنا أسيرُ في السوق بعدما غرقتُ بالعرق والضجر في السيارة بإنتظار "نساء يتسوقن"... 
إستوقفني أحدهم وأنا عائد من أعلى الرصيف، وشدَّ على يدي بعدما صافحني... لثوان أحسستُ بالإهانة، بعدما بدوت مُرتبكًا جدًا، نعم أنا مُرتبك لا لشيء فقط للمُفاجأة ولكن إرتجافي اللعين لأسباب صحية ربما يجعلني أبدو كأحمق أو مطلوب... 
بادرتهُ بعدما سألني عن الهوية التي لم آخذها وجزتاني من السيارة، "وين إثباتك كبحث جنائي وزيح يدك عني ولا تمسك إيدي هيك..." وبعدما اخرج لي إثباته... 
أجروا وهما إثنين لي إختبار وتبيّن لهم بأنني بريء... الغريب في الأمر هو عدم إحساسي بأي غضب وكنت حرفياً أشعر بسعادة داخلية... فهذا الحدث غيّر مزاجي الضجر والقرفان، أنا الآن جدًا سعيد... شكراً لرجُليّ البحث الجنائي أو الأمن الوقائي! 

ما أثقل هذا اليوم، وما أثقل الشعور الشديد...! 

عُدت لمكاني... 
للأريكة والطاولة التي تحمل فوقها منفضة سجائري ودفتري ووصلة كهرباء وشاحن... في الخارج غُربة رهيبة، وفي داخلي خواء وأمتلاء شديديّن،
لن أكتب المزيد، أنا فقط بحاجة نوم ينتشلني من هذا الوعي المُقرف للاوعي لذيذ،! 
في الصباح سألعن يومي هذا... الرابع والعشرين من آب. 

أزمة وطن (واقع عبثي)

في هذه الليلة أنا المثال... مثال لواقع شباب الوطن "المأزوم"، وطن 70% منه شباب من الجنسين، وإذا إعتبرنا بأن الجنس الانثوي في واقعنا هو جنس قاصر ومُهمّش... يُمكننا أن نقول بأن أكثر من نصف شبابنا مقتول مجازيًا طبعًا، ولنكتب عن  النصف الحيّ... الذكور/الرجال، لنكتب عن شباب لا أُبالغ إذ أدّعي بأنه يعيش حالةً من "العَبثية" والضياع!
شباب الوطن، هم جيل من سلسلة أجيال تمتد منذ ما قبل نشأة الوطن إلى اليوم، وبالطبع لكل جيل خصوصيتهُ وتحدياته، ولكنني الآن لا أستطيع كتابة الأفكار التي تحوم وتضطرب في رأسي لكثرتها ولحيرتي إزاءها... وسأحاول، لأن كلّ حياتنا محاولات، والمحاولةُ إذا كانت حقيقية ونابعة من وعي ذاتي ورغبة مُلّحة حتماً ستنجح أو لنقول ستكون محاولة صائبة "بعض الشيء"... 
إنني أكره بأن أكون "مُنتقدًا سلبيًا ومهووسًا بالذم والشتم" وأتمنى أن لا أكون كذلك في طرحي لهذه السلسلة من أزمة وطن... إنني أكتبُ غضبي وثورتي التي تختزنُ في داخلي، إن هذه الحروف تُشبه كلمات أقولها بجسارة في وجه الملك أو أيّ مسؤول حكومي، وهي كأنها فعلي في ثورة شعبية حقيقية تُسقط ما ننتقده ونَسخط عليه، وقبل أن أعود لإكمال كتابتي عن واقع الجيل "العبثي"، أُريد أن أُنوه لشيء: اليوم صباحاً قرأتُ بحث من 34 صفحة يتناول رؤية عبدالرحمن الكواكبي للثورة والحرية، والبحث يتعلق بكتاب "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"... ما قد وقر في ذهني من ما قرأت، بأن الثورة تبدأ بالعقول، وبأن المُستبد لن يسقط إلا بثورة تضحية وشهادة، وبأن الثورة إذا لم تكن فكرية في البداية وتبدأ بتنظيم وفق شروط مثل ما هو بديل المُستبد؟... ستنتهي حتماً بفوضى وخراب بل وربما إمعانٌ في إستبداد قديم جديد...، 
غادر مكانك وأنظر لشباب اليوم، هل تلمح بهم ملامح الثورة والتغيير؟! 
هل لديهم وعي سياسي ولو بشكل سطحي أم أنهم يملكون أوهامًا عاطفية وغضب مكبوت وخائف من نظام الحكم؟! 
وأنظر كذلك لرغباتهم وطموحاتهم ونظرتهم للحياة والواقع... 
ما هي إهتماماتهم؟ وما هي الأشياء التي تستحوذ تمامًا على تفكيرهم؟؟ 
هل ينتمون لوطنهم بالفعل؟ هل يعرفون ما هي هويتهم الوطنية و... الكثير من الأسئلة! 

أزمة جيلنا هذا، هي أزمة تراكمات وتربية لم تُراعي أساليب التربية الصحية، والتربية التي صنعت هذا الجيل، لم تكن سوى "كلام فارغ"... مُجرد تدجين وقولبة جاهزة، هذا الجيل هو فقط صورة لجيل أول تعثّر وما زال يسقط إلى القاع، لم يرتطم بعدُ في القاع، وسيأتي جيل الارتطام قريبًا، جيلٌ سيجد نفسهُ وقد تهشّم من وقع الارتطام وإستقر في ظلام القاع الدامس... ربما سيموتُ ببطئ أو بسرعة، وربما سينهض ويجد وسيلة للنجاة؟؟ لا نتيجة ثالثة! 
غفلة ما بعد التعثّر أعلى الحفرة للإرتطام في قاعها أخيرًا مُستمرة، وربما نحنُ في آخر حالة السقوط وقد نعيش الإرتطام...؟
لا أدري منذ متى بالتحديد بدأتُ أشعر بخطر وجودي مُحدق، وبأن حياتنا اليومية تفتقد للغاية والهدف والمعنى... أرى الغفلة والإنكار ترتسم بوضوح على ملامح الوجوه في الحرم الجامعي وفي باص الخط وفي جلسة عائلية أو أصدقاء في دورات تدريبية أو في إجتماعات العمل والمُبادرات وفي السوق وعلى الأرصفة... في كل مكان ألمحُ العبثية والفراغ واللامعنى، وأتألم... نعم ينتابني ألمٌ صامت وفظيع، وأحزن كثيرًا...! 
وتختلطُ بي مشاعر تفاؤل وإحباط ويأسٌ وإنكار لليأس، بأنني ربما أتوهم، ربما أنا فقط مريض نفسيًا وأهذي وأتخيّل وأُبالغ... لا أدري!، 
وأعتقد مما رأيتُ وأرى... بأننا جيلٌ يُعاني أوج أزمة وطنية، وهذا الجيل يفتقد للدافعية والجرأة والمواجهة، هذا الجيل مُنقسم ومُتشرذم في زوايا العشائرية والإيديولوجية وبقية الأغلال الثقيلة التي قُيدنا بها وأعتدنا القيود... وأكتبُ:"قُيدنا" لأن الطفل اليوم وبالأمس ومنذ نشأة الإنسانية يُولد حُر ومنذ دقائقه الأولى تبدأ الاغلال تلتفُ عليه...



الخميس، 22 أغسطس 2019

وجود (حكاية لم تكتمل) 2

"ما راح ألّحق..."

وعادت للمنزل راكضةً وكادت تتعثر أثناء صعودها الدرج... بعدما توقفت أمام الباب لثوان، شاهدت نفسها تقع... بالطبع بسبب تعثّرها وقعت على وجهها، شاهدتها تتلوى وهي تُمسك رأسها والدم... هُناك لطخة من الدم على البلاط وحتمًا تحطمت واجهة أسنانها الأمامية من هذا السقوط. 
تلاشى المشهد الدموي من ذهنها بعدما فتحت الباب ودخلت مُسرعة نحو غرفتها، وصلت الغرفة وفتحت الباب وأحسّت بأنها فعلت شيء بلا معنى...
لماذا عادت؟ 

أمام المرآة تقف وترغب بأن تُحطم المرآة... لا تدري لماذا لا تستطيع إطالة النظر في المرآة... لماذا تتحاشى رؤيتها؟ 

غادرت غرفتها والمنزل وبدأت تتسارع خطواتها نحو... مكان تقفُ فيه لإنتظار الباص! 
المكان بعيد عن منزلها بعض الشيء، وهي تمشي هكذا في كل مرة تتسائل نفس التساؤل، لماذا عليها المشي كل هذه المسافة لإنتظار الباص؟ 
لماذا لا تنتظر هُنا؟ أو أمام منزلها حتى؟ ما دام الشارع هو نفسه... وتستمر في المشي والاستسلام لشعور غامض باللاإحتمال! 

المساء كان إستثنائيًا، فالهواء صار رطبًا، وأشعة الشمس لم تعد حارّة... خوفها الدائم يخفّ بل يكاد يندثر في مثل هذه الأجواء! 
وهي الآن تمشي على رصيف مُزدحم بعض الشيء بعدما غادرت عملها، ولا ينتابها ذلك الشعور الكريه... شعور بأنها يجب عليها أن تُسرع، أن تنتهي من كل هذا، وأن تصل للمنزل، لتُسخن وجبة الطعام مبدئيًا، وتقوم بأعمالها المنزلية العديدة بعد ذلك... ها هو خوفٌ ما يتسلل إليها، إنها خائفة من نظرات زوجها وأبنائها، نظراتهم حزينة أو غاضبة! 

أسرعت في سَيّرها، هي الآن تقاوم شيء ما جديد وغريب. 
بودّها ويا ليت لو أنها تقدر أو من المُمكن، أن تتوقف عند مقهى لتدخل وتطلب قهوة (مش مهم كيف) ولا تستعجل تحضيرها، وآه لو أن معها علبة دخّان و.... 
وألحان أغنية لفيروز أو لمتعب الصقار، المهم أن تجلس هكذا، ولن تشرب القهوة كلها، وستُدخن الكثير من السجائر! 

... الليل إنتصف، وعندما ينتصف الليل تبدأ الأشياء تتحول... تتغير... لا شيء يبقى كما هو، وقت مُنتصف الليل، هو وقت خاص جدًا، وبطبيعة الحال لا يشعر بهذا الأمر إلا المُستيقظين! 
منذ أقلّ من ساعة دخلت وزوجها غرفة النوم، وزوجها الآن يغطُّ في نوم عميق وشخيره يخرج بشكل موسيقي رتيب، وهي تشعر بأنها "ليست هُنا"... 
هي هُناك حيث الأماكن المجهولة، والوجوه الغائمة والبرد والحر والخوف والسعادة الغامرة والحُزن الشديد... 
يومها كان ككل يوم مُتعب وشاق، تستيقظ قبل شروق الشمس وتُجهز مائدة الإفطار وتستعد للدوام، وجبة الغداء تجهزها في الليل قبل النوم، وفي الصباح فقط تحضّرها وتضعها في الثلاجة أو الفرن(حسب الجو)، وعليها كذلك أن تُساعد الأطفال في الاستعداد للمدرسة وبأن تجد لزوجها قميص أو بنطال أو زوج جوارب ضائع... وعليها أن تتحمل مسؤولية القميص من حيث مظهره وهل هو بحاجة كواء أو لا! 

وهي الآن تجلس في السرير، والظلام يُغرق الغرفة... وشخير الزوج يملأ الغرفة ضجيجًا، ثمة حزن يرتعش في صدرها! 
تشعر بأنها متروكةٌ أو مَنسية! 

تُريد البُكاء.. الصراخ.. تحطيم الأشياء.. الهرب من كل شيء... أو الإمحاء تمامًا عن الوجود! 
ذلك الشعور لا يُمكن وصفه، وهي في تلك الساعتين قبل إستسلامها للنوم الذي تتمناه، تُحاول "الهرب" من أشياء كثيرة لا تعرف ماهيّتها، ولا تُدرك شكلها.. لونها.. هي مُرعبة  وسوداء ومُعتمة، لكنها ليست كذلك!

وجسدها يتعب، يصل حدّ الإعياء ويخذلها، وتنام وهي تُنصت للشخير المُزعج ولأصوات تسمعها جيدًا، تقول لها: ما لا تحتمل سماعه! 

وتستيقظ في كل يوم مُبتسة وتبدو على وجهها علائم كل الذي حدث، وأمام المرآة تُخفي العلامات وتبتسم! 

***
اليوم الخامس من رمضان، وأبو عمر الذي يستيقظ باكرًا في كل أيام السنة، قد إستيقظ اليوم في تمام الساعة السابعة وقد نام بعد أذان الفجر، وقد بدأت محاولاته للنوم منذ الساعة الحادية عشرة...
دخل الفراش "مهدود الحيل" بعد أن أغلق باب الغرفة واطفأ الضوء و"شغّل المُروحة"، وكان قد حذّر زوجته وأبنائه من إزعاجه... وهو في الفراش بدأ يتقلب، وبدأ يُقاوم سيل الأفكار والأشياء المُبهمة التي تهطل في رأسه بالتزامن مع هدوء المكان وصوت المروحة، هواء المروحة يميل للدفء والهواء الذي يسقط عليه من النافذة بارد ومُنعش، أحسّ بالسعادة لأن فراشه هُنا... في هذا المكان تحت النافذة!

يتقلب في فراشه وبدأت عيناه ترفضان الإغماض، وتناوبت عليه المُزعجات، فهذه الحشرات القارصة تهاجم يده التي يضعها فوق اللحاف وتحطُّ كل حين على أنفه، وها هي نتيجة الإسراف في شرب السوائل تحدث الآن... عليه أن يقوم حالًا للحمام!
َيقوم بعد نصف ساعة غاضبًا، ويطمئن لأنه قام... لأنه الآن لا يرغب بالنوم لأنه غاضبٌ من...

بعد ساعة يعود للفراش لأن الإرهاق بلغ أوجه، كان قد دخّن ثلاث سجائر وشرب فنجان قهوة مرّة مع حبتيّ تمر، ولم يتحدث مع زوجته وأبنائه بقيّ جالسًا بينهم كأن على رأسه طير، وكان مُتجهم الوجه... بل كان وجهه مُظلم!

ويتقلب ويحشر ويتعرض لهجمات القارص، ويقوم!
خرج وجلس على عتبة الباب، الحوش فارغ، فالزوجة والأبناء غادروا المكان... الزوجة دخلت للمطبخ أو لإحدى الغرف والأبناء لا يعلم إلا الله أين هم، وأبو عمر يُشاهد الحوش، أشجار زيتون يُداعبها النسيم الربيعي، والهواء رطب ومُنعش، وضوء العامود يسقط على الحوش ليُنيره قليلًا...
أحسّ بوحشة ليست جديدة لكنها في كل مرة تضعه في مكان ضيّق وخانق، هو مُتعبٌ جدًا، وخائف ولا يعلم موضع الألم الذي يعتريه الآن... تنهدّ وندم لأنه دائماً ينسى إصلاح الضوء الخارجي، وسينسى إصلاحه دائمًا... وقفَ وصدرهُ يكاد ينفجر، في عينيه دمعات تجمعن رغمًا عنه، ولن يبكي!

من أين سيأتي بالمال؟ 
لكي يدفع فواتير تراكمت عليه، كهرباء وماء، وديون المحلات وملابس العيد للأطفال ولزوجته وله... هو ليس مهم! 
صار يكره مرأى أشجار الحوش، لأنها شحبت وكلما شاهدها يسمع صوتها تستجديه... والبيت قديم، ماذا لو إنهار البيت؟؟ 
ثمة مؤشرات خطر فجدران البيت إهترئت والسقف الشقوق في كل عام تزداد وتبدو على وشك الإنهيار.... 
وعمر كيف سيدرس بالجامعة؟ بعد أسابيع قليلة سيُنهي إمتحانات الشهادة الثانوية، وهو مُتفوق... وتمنى لو أن عُمر لم يتفوق! لو أنه أصرّ على ترك الدراسة وأتجه للعمل... أيّ عمل! و.... 
طرد الأفكار من رأسه، وسار كأنه يهرب بإتجاه البيت! 

في كل يوم يخرج أبو عمر للعمل، أين يعمل؟ وما هي طبيعة عمله؟ 

ليس له وقت مُحدد للعودة من العمل، اليوم وصل باب البيت الساعة السابعة إلا عشرة، ودائما يعود والغبار يلوّن هيئته، يستقبله أحمد وسُمية يحتضنهم وهو يضحك، وفي كل يوم يتكرر المشهد، سمية ذات الأربعة اعوام وأحمد في الصف الخامس، هم منذ استيقاظهم ينتظرون عودته ويستقبلونه... وهو يحتضنهم كعائد من سفر، يضحك... لكنه هشّ والبُكاء يُحاول الإفلات هذه المرة من سجنه، لكنه يفشل، ويُداري تلك الدمعات، ويُقبّل وجنتيّ سمية وأحمد ويسير معهما للداخل، يُحيي زوجته التي تُحضّر وجبة الإفطار ويسأل عن خديجة وعُمر ويتذكر خالد الذي مات قبل عامين في مثل هذه الأجواء، كان عائدًا من اللعب في الحارة، ودهسته سيارة فخمة، هرب السائق وترك وراءه خالد يحتضر ويبكي... 

بعد المغرب بساعة، أبو عمر مُلثم ويحمل بيده كيسًا كبير، ومعه سمية وأحمد يبحثون عن علب حديدية، وحاويات المدينة كثيرة مُعظمها فائضة... عند حاوية قريبة من مقهى بدأ زبائنه يتوافدون، والشارع مُزدحم بالسيارات والرصيف يحمل فوقه عشرات العابرين، وأبو عمر عند الحاوية الكبيرة والفائضة، ينتقي العُلب ولا يغفل عن مُتابعة ولديه... لا يأتون معه عادةً، لكنه هاليوم لم يستطع منعهما، ولأنه لا يعلم لماذا بحاجة وجودهما معه هُنا...! 


***

وفي لحظة إنهار شيء ما أو تحطم...

كان جالسًا في ظلام الغرفة لأنه لم يستطع النوم، ولأن شيء ما في داخله إستيقظ!
تلك اللحظة ليست جديدة لكنها هذه المرة تبدو... تبدو كأنها نهائية!

هل الإنهيار أو التحطم إستيقاظ؟
أعني، هل الإستيقاظ يقترن وتغيّر مُفاجئ للحال؟!

هو يجلس ويُحاول أن لا...
لأن الإنسان ليس قاسيًا ولا هو شيء ثابت، ربما هذه الخاصية الإنسانية تجعل من ذلك الشعور الرهيب... الشعور بحدوث إنهيار أو سقوط يُؤدي لتحطّم، تجعله مُجرد وهم أو خيال مُضطرب!

لا يفشل ولا ينجح في المُحاولة، إذا وضعنا في الحُسبان خصوصية الشعور، هو الآن يجلس هادئ ومُستقر، وفي ظلام تتخلله الأنوار القادمة من الخارج!

الشعور بالوحدة يزداد، وعندما يُدرك بأن لا أحد يُمكن أن يفهم أو يتفهمّ "حالة الطوارئ" التي يعيشها بين الحين والآخر... يغزوه ذلك الإحساس باللاجدوى وبأن الحياة سيئة ولا تُطاق!
لطالما تجاوز ذلك الشعور، وعاش لحظات السعادة الغامرة، ولكن في كل مرة يعود لتلك النقطة، كأنه لم يُغادرها أبدًا!

والآن وصل حدّ الإمتلاء، ليس هنالك مخرج أو ضوء في نهاية هذا النفق الذي دخله منذ شهر تقريبًا... كيف دخل؟ وكيف إقتنع بأنه في نفق... أقصد ربما هو واهم أو يُبالغ في تصوراته!

ربما هو كذلك من منظورنا الشخصي، ولسنا في داخله، ولن نُدرك حقيقة شعوره!

تتسرب منه اللحظات، ويتحسس زواياه القاسية والبعيدة، ويمدّ يده نحو الأمام وترتد لأعماقه... يتلمس زوايا جدرانه، ويشعر ببرودة لم يعهدها من قبل!
من أين جاء هذا البرد؟ وكيف له بعد إدراكه أن لا دفء هُناك... كيف له أن يتجاوز هذه الحقيقة التي لمسها في هذه الليلة!

سيأتي الصُبح، لابد سيأتي...
والشمسُ ستُرسل أشعتها الدافئة، وستُغادر العصافير أعشاشها، ستُحلق الطيور في السماء، وستزدحم الشوارع، سيبكي الأطفال وغيرهم... سيموت ويولد الكثير، وسيأتي خبر إنتحار شاب في شقته كأيّ خبر يوميّ بات روتينيّ...!

***

غادر الغرفة وبعدما أغلق بابها وراءه أحسَّ بإرهاق شديد، وقف في صالة البيت وكالعادة تخيّل بأنه يبدو على ما يُرام لمن يراه، وهو كذلك بالفعل!

نعم، هو قام بعمل كبير جدًا، عندما نهض من الفراش وأغتسل ونظّف أسنانه!
وقد أنجز حقًا، لأنه رتّب الفراش وأنتبه للفوضى التي تدبُّ في غرفته، وحاول تخفيف هذه الفوضى بأن جمّع النفايات في أكياس، وأعاد ترتيب المكان، الكرسي لم يعد طاولة، والطاولة التي كانت تحمل فوقها كل الأشياء التي ليست ضرورية؛ كأوراق مُمزقة وبروشورات لدورات وأمور ليس مُهتمًا بها، الطاولة عادت طاولة عليها فقط مزهرية صغيرة ومنفضة سجائر كانت تفيض بأعقاب سجائر وغيرها!

ها هو يُغادر المنزل للعمل، واليوم هو الأحد، هذا اليوم الذي يتميّز بالشعور الغامض! شعورٌ لا يُمكن وصفه بشكل مُحدد!
يوم السبت مثلًا، يتميّز بشعور له لون رمادي يميل للسواد!
كيف للذي ينهار من الداخل أن يبقى مُتماسكًا؟
ولن يفهم أحد إطلاقًا، ماهيّة إنهيار أحدهم الداخليّ؟
أو كيف لمن صار لأسباب لن نعرفها نحن يبدو كأنه زُجاج تهشّم أو كمكان كان مُضيئًا وأنطفئ ضوءه... كيف سيحترم العالم الخارجي هزائمنا الداخلية؟!
كيف؟
أعود للذي خرج من منزله للعمل، وهو يستخدم المواصلات العامة، والذي يستخدم هذا الحق الوطني عليه أن يكون صبورًا وإذا لم يكن كذلك سيُصبح كذلك رغمًا عنه، أو سيُقتل أو يُسجن أو يُجن!
تأخر الباص وعلق بالأزمة المرورية.
وكان الباص مُمتلئ بالرُكاب والضجيج والروائح، وكان صاحبنا يجلس في آخر مقعد بجانب النافذة، واضعًا سمّاعة الأذنين غارقًا في كل شيء ليس موجودًا هُنا!

كانت الأغاني الوطنية تنبعث من الراديو وتختلط بأغاني صاحبنا... أغاني ماجد المهندس وراشد الماجد وعبدالله الرويشد وآخرون، ولطالما راوده الشعور القوي بالوَهن والإختناق والرغبة بالبُكاء على كتف الجالس بجانبه!

لماذا يخرج لهذه الحياة؟
وكيف سيستمر في هذا الأمر؟ هذا السؤال تكرر آلاف المرات، ولم يجد جوابًا بالطبع، وكان دائمًا كلما عاد إليه هذا السؤال، يتذكر بأنه ليس سؤالًا جديدًا... وكما إستمر منذ أول مرة تسائل بهكذا تساؤل، سيستمر... لابد أن يستمر!

في العمل يُحاول تضييع الساعات الثمانية التي تتباطئ في سيرها دائمًا... تتوقف الساعة عن المرور، وهو يُحاول تغييب نفسه عن رغبته القوية بأن تمضي الساعة تلو الأخرى!
يُغيّب تلك الرغبة بإستخدام "المُلهيات" كالفيسبوك واليوتيوب وإنستجرام، وإذا كان في مزاج رائق يقرأ رواية ما... لا يدري متى بدأ بقراءة رواية "يا صاحبي السجن"، وعندما يرى الكتاب وقد غطّاه الغبار يشعر بالإمتعاض والسخط الذي يضيع بسرعة في دوامة السأم التي يتواجد بها صاحبنا لثماني ساعات يومياً!

ماذا يعمل؟
يعمل في دائرة حكومية، وعمله إداريّ، وعندما يُشاهد في خياله مُعاناة ألاف الشباب العاطلين عن العمل أو الذين يعملون كعُمّال في القطاع الخاص وحتى الحكومي، يشعر بالسعادة والإحتقار الذاتيّ!

في الليالي بعد النهارات التي يشوبها الوضوح الصارخ والمُؤلم، يكون الليلُ كستار يحمي من الأشعة المؤذية، ينطوي في الغرفة لا يُغادرها إلا للحمام أو ليُغادر المنزل، ووحيدًا خارج المنزل يتجول وقد يدخل لمقهى "الكلاسيكو" في آخر الحي، لا يدخل المقهى في أوقات المُباريات المُهمة أو عندما يكون مُمتلئ في ليالي الشتاء مثلًا... هو يُدرك بأنه ينحدر نحو الظلام؟ ولكن أين النور؟ ونحن كمُشاهدين قد نلوم هكذا شخص بأنه "مُستسلم" فثمة نورٌ أكيد!

لستُ من هواة التنظير والنُصح وتحليل المآسي الشخصية، فلكل إنسان جانبه الخفيّ وهمومة الذاتية!
وماذا لو أنه ليس حزين كما يبدو؟!
أقصد ليس يُعاني ما لا يُعانيه الآخرون بدرجات مُتفاوتة!
فكلّنا كما هو طبيعي نشعر بشتّى المشاعر والأحاسيس التي نعجز عادةً عن فهمها... ونجتهد في جعلها لا تنعكس على سطحنا، حتى لا نُثير شفقة أو نسمع مواساة مُتكلفة!
وكما هو بديهي ليست كل المشاعر والأحاسيس سوداوية وكئيبة!
عندما أكتب أحاول قدر المستطاع أن لا أذهب بعيدًا... فأعتذر عن هذا التشعب والخوض في أمور مُتباعدة!
أعود لصاحبنا، قُلت بأن الليل مُؤنس وليس عدائيًا كالنهار، الليل صديق المُرهقين من وضوح الواقع وسُخرية المشاهد وفظاعة التفاصيل، للذين تُؤلمهم الحياة وتجلدهم بلا رحمة، لا يجدون في الليل سوى هُدنة مُؤقتة يستعيدون فيها قواهم التي أنهكتها ساعات النهار الطويلة!

بعدما عاد من دوام هذا اليوم، وقد كان مُجرد التفكير بأن عليه خلع ملابسه والاستحمام وتناول أي شيء يسدّ جوعه يبعث في نفسه شعورًا بالمُستحيل والإشمئزاز، هو يُريد أن يتحول حالًا لنائم في فراشه!
بعد ساعات من النوم، يستيقظ، ولدقائق يُحاول طرد الشعور بالقرف والرغبة المُلحة بعدم الإستيقاظ مع رغبة النهوض فورًا!
يجلس في سريره، جو الغرفة خانق، وظلامها دامس، بعد لحظات تبدأ الأشياء تتضح... يرى الخزانة والمكتب والطاولة، يراها كأنها وجوه كريهة... كأنها تسخر منه وتُعاديه بصمتها!
يستلقي على ظهره، وتنبجس من عينه اليمنى دمعة، يمسح خده ويفرك عينيه... يضيقُ صدره، ويتناهى لسمعه صوت المُؤذن... كم مضى من الوقت وهو نائم؟ وكم هو مُرهق وحزين؟! كان صوت الأذان قريبًا، وبدأ قلبه ينبض... تسارعت نبضات قلبه، لطالما أزعجه هذا الصوت، وعكّر صفو هدوءه، ها هو الآن يشعر بأن هذا الصوت يُناديه لينهض من هذا الظلام!
ولأول مرة منذ أعوام يتوضأ، ويفرش سجادة صلاة كانت تُطوى دائمًا على يد الكُرسي... صلّا كأنه يُمارس عادةً يألفها منذ أعوام كثيرة، وركع وكانت قوة... ثورة ما، تنبعث من أعماقه، كان يشعر بشيء ما، يسري في عروقه...
وفي السجود لم يتمالك نفسه، بكى كطفل، لم يكن بكاءه حزينًا... ثمة فرح وُلد أو تم إحياءه في تلك الدقائق من ليلة ذلك الأحد!

***
وراء النص،
شجرة عمرها ألفُ عام تقريبًا، وقد سمّاها أبو طه "الغربية".
أما أبو طه فقد تُوفيّ في العام 2004 عن عمر يُناهز التسعين عامًا، والشجرة لم تمت بعد...

الشجرة أو "الغربية" حزينة.

تراها تقفُ بين رفيقاتها في أعلى الوادي، وتبدو حزينة ومكسورة جدًا...!

اليوم السادس من نيسان، وفي الشتاء الماضي وكالعادة منذ أعوام، يقوم عدد من "المُجرمين" بقطع الأشجار لإستخدامها بالتدفئة المنزلية...!

وشجرتنا الغربية تعرضت لمحاولة قطع من الساق، وعندما عجزوا عن قطعها... قطّعوا بعض أغصانها، وتركوها تنزفُ وحدها وتبكي جُرحها...!

منذُ ألف عام لم تتعرض لهكذا شيء، ولماذا لم تستطع ردّهم والدفاع عن نفسها؟؟
وها هي تستحضر ذكرياتها...
على بُعد كيلو مترات قليلة من هُنا، بَنا صلاح الدين الأيوبي قلعته، وقد رأتها منذ بدأوا تشييدها، وليومنا هذا تراها... وقد سمعت ما فعلهُ صاحبها وجيشه، من تحرير أرض فلسطين من المُحتل، وسمعت هدير الطائرات الحربية تتابع في الهجوم، وتطمئن عند عودتها... ومرةً لم تعد طائرة، وسمعت بإستشهاد صاحبها "فراس العجلوني"...!
وطفرت منها دمعة... سالت من غصن مبتور، هل هو دمع أم دم؟!
وما الفرق بينهما، هل هو اللون فقط؟!
وعادت إليها الصور والمشاهد، ولكم واجهت عواصف وخطر التحطم تحت ثقل الثلوج المُتراكمة على الأغصان... حتى قويّت أغصانها وأشتدتْ، وباتت كقطعة من جبل، أو كقالب فولاذيّ غير أن الفولاذ قد يتحطم والجبل قد ينهدم، لكنها اليوم عرفت بأنها تموت...!

***

توقف الباص وأنتبه طه من غفوته وراح يتلفت برأسه هُنا وهُناك، وبعد لحظات تلاشت عنه حالة الفزع...!
نُقطة تفتيش، ويرى من النافذة سيارة الأمن العام وأحد أفرادها يتحاور وسائق الباص، وتأفف معظم الراكبين وراحت همهمات تخرج من أفواه بعض الراكبين، وبعضهم يبدون وكأن الأمر لا يعنيهم فلا فرق بين وقوف الباص وسيره!

طه عبدالله شابٌ في الرابعة والعشرين من العُمر، تخرّج قبل أشهر من الكلية (كلية عجلون الجامعية/جامعة البلقاء التطبيقية) وحصل على شهادة البكالوريوس بعلم الحاسوب...
وها هو طه يُغادر عجلون، ويترك بيته القريب من القلعة، ليعمل في العاصمة عمّان، وهو الآن في الباص الذي يقف بمُحاذاة دورية الأمن للإطلاع على هويات الرُكاب الذكور، وهو لم ينم منذ يومين...!
منذ ساعة وعند الساعة الحادية عشرة صباحًا غادر عجلون مُستقلًا باص عمّان، وقد كان في حالة يُرثى لها، كان حزينًا ويشعر بثقل كبير يجثم فوق صدره، وقد ودّع عائلته وهو يجتهد في الإبتسام وحبس الدموع، بكت أمه وأخته الصغيرة، وقد بكا أخواه الكبيرين... إلا هو لم يبكي، فقد حافظ على الإبسام ومُحاولة إظهار حماسه للسفر... أيُّ سفر؟!
فهو ذاهبٌ لعمّان العاصمة، والتي لا تبعد عن عجلون إلا... على العموم أقلّ من مئة كيلو متر!

فُتح باب الباص، وصعد الشرطي، وقال بصوت آمر ومُرهق:"هوياتكم شباب؟" وأضطرب الباص، ومُدّت الأيدي تُناول الشُرطي الهوايا... وعاد نحو الدورية...
وطه الذي يتلّمس الحقيبة بجانبه، ويمنع نفسه من أن ينظر من خلال النافذة، لا يحتمل رؤية الأشياء خارج الباص، فالأشجار باتت مخلوقات تسخرُ منه وتلومهُ وتشتمهُ والسماء كأنها سقف قريب يكاد ينهارُ عليه... أجالُ نظره في أنحاء الباص، ورأى الوجوه الواجمة والصمت الذي يخترقه صوتٌ هامس!
وبسرعة عاد الشُرطي يتلو الأسماء ويُعطي الهويات لأصحابها... وهزّ طه رأسه، متى لم يكن هُنا؟ كان يسمع الصوت بعيدًا، ويرى الأيدي تمتدُ كأنها في عالم آخر، يُشاهده من بُعد آخر!
"ما تسمع... شو مالك؟"
ورأى وجه الشُرطي الحانق قريبًا منهُ، ولم يردُّ بكلمة، ومدّ يده ليتناول الهوية... وبسرعة تحرك الباص!
عادت نسمات الهواء، وبدأ الراديو يهدر، وأصبحت الرؤية من خلال النافذة مُمكنة... نعم كل شيء ليس ثابت، كل شيء يسير ولا ينتبه!،

وقام من فراشه كملسوع، وجلس بقرب النافذة، الغرفة مُظلمة ومن خلال النافذة يتسلل ضوء خفيف،
منذ ساعة تقريبًا دخل فراشه لينام، لا لأنه يجب أن ينام بل لأنه مُرهقٌ جدًا...!

هو يعمل منذ ثلاثة أشهر في مصنع م.ن، مُسماه الوظيفي "عامل نظافة". يعمل أثنتي عشرة ساعة في اليوم وعطلته يوم الجمعة فقط... والراتب 220 دينار مع ضمان إجتماعي، ويرتفع بعد التثبيت لـ 250، أي بعد ثلاثة أشهر... وبعد أسبوع يُكمل الثلاثة أشهر!

وها هو يجلس في الغرفة والساعة... كم الساعة؟!
كانَ لا يجد أيّ قوة تجعله قادرًا على التحرك... على حمل الهاتف ورؤية كم الساعة؟
وكان لا يقوى حتى على الوقوف!

أمسك رأسه بيديه، وكانت الأفكار والهواجس تتلاطم في رأسه كأمواج بحر هائج، والهدوء... الهدوء في تلك اللحظات يُصبح عدوًا ساخرًا، وأراد أن يصرخ... أن يبكي لعلّه يرتاح من هذا الذي يعتريه الآن...!
فهو ما إن وضع رأسه على الوسادة، حتى تحركت في رأسه التراكمات التي تركد ولا تختفي، تحركت وأضطربت وقاومها لكنه أضعف من أن يواجه تلك... تلك الأشياء التي يمتلأ بها رأسه!
يرى وجوهًا ومشاهد وكلمات...
يراهُ طفلًا يُغادر بيته في أعلى الجبل نزولًا نحو المدرسة، يرى جدّهُ يرعى الأبقار ويرى جدته تُحضّر الإفطار، ويُشاهد هطول الثلج في ليلة ما...!
يرى نُدف الثلج تهطل وضوء الإنارة يُظهر كم هو الهطول غزير أو يكاد يتوقف!
يسمع صوت أمه، يُناديه صوتها ويُنادي إخوته ليتناولوا طعام الغداء، وتتجمع الأسرة حول المائدة، ويُغادر الأب ليغفو... أو يموت!

وتُحاصره الأشياء الجميلة والقبيحة والتي جاهد لنسيانها... ومُحاولة النسيان تعني حفرها على جدار، وجدارُ رأس "طه" مليء بالمخطوطات، وفي أثناء ذلك يُشعل سيجارة وينجح في التحرك والتحرر ولو جُزئيًا من قيود الجسد، ويقفُ ساهمًا يحاول لملمة شتاته ويفشل... لماذا يحدث كل هذا؟
وفكّر بالموت... لأول مرة يُفكر بالموت وقيمته وجدوى الحياة!

لماذا يعيش؟ ولماذا لا يُغادر ما قد فات؟ ولماذا يبقى هُناك في الوراء؟!
ولماذا... لا يعود الآن لبلدته، وليبقى هُناك ويموت؟! ولماذا هو الآن هُنا؟
لماذا غادر البلدة إلى هذه المدينة "الظالمة"؟

وهو في كل لحظة يشعر بالإغتراب والخوف البعيد، هو لا يعرف هذه الأماكن ولا هو قادر على إعتياد وجوده فيها!

غادر بلدته ليعمل، وليجني المال، ولأن الحياة تُطالبه بذلك... وإلّا سيكون عالةً على أسرته!

هو الآن يُحاول التوقف عن الإنجرار وراء أفكاره، وهو مُرهق عادةً تكون أفكاره حادة وغريبة وغير مفهومة!
وها هو يعود للفراش ليُحاول النوم... وبسرعة يغرق في النوم، وبسرعة أيضاً يرن المُنبة في تمام الساعة السادسة صباحاً!،

إستيقظ من نومه وهو يكاد يختنق، والعطش وصل حدّ أمعائه!
نام منذ ساعتين بعدما عاد من عمله، وهذه عادته منذ أن جاء لهذه المدينة التي لا تعرف النوم ولا اليقظة، لا تعرف سوى التجهمّ والإختناق والسرعة وحتى الناس هُنا يُشبهون مدينتهم، فهم مُتجهمّون والغضب يرتسم على ملامحهم، ويسيرون بسرعة سائرين أجسادًا أو عندما يسوقون سيّاراتهم، ويبدون بلا حياة كأنهم آلاتٌ حديدية، تكدُّ وتعمل حتى تفنى، بلا أيّ شعور!

الساعة التاسعة والنصف مساءً، وليلة صيفية أخرى تُشبه كل الليالي الماضية... وفي كل ليلة يجدُ نفسه وحيدًا هُنا ولا يدري كيف سيتعامل مع فداحة الليل والهدوء في هذه الغرفة الضيّقة والتي تزيد من شعوره بالإختناق والخوف وكلّ المشاعر السلبية التي تتجمع في كل ليلة وتجثم في صدره... تخفُّ شيئًا فشيئًا لكنها تعود جديدة وبشكل خاص لا يُشبه سابقاته!
ينهضُ من سريره مُتثاقلًا، ويُجرجر أقدامه ليصل الحمّام ويخرج وقد بلل وجهه، وما زال وجهه مُحتقن وعيناه حمراوين!
يجلس على السرير وينظر بعين حزينة نحو اللاشيء ربما، الخزانة ذات الباب الواحد تبدو وحشًا ذا أنياب أو كهفًا مُظلمًا يحتوي عشرات الوحوش المُفترسة، والتلفاز الذي لم يُحاول تشغيله يبدو وكأنه خارج المكان... كأنه فمٌ يمدُّ لسانه ساخرًا!
والملابس المُلقاة هُنا وهُناك تزيدُ من  شعوره الدائم والثقيل... ورأسه كالعادة مليء بالغضب والاسئلة والرغبة والخوف؟!

قام وجهزّ فُنجان قهوة ووضعه على الطاولة جوار سريره، تناول علبة السجائر، وأستلَّ سيجارة وأشعلها... نفث الدخان، وراح وهو يتمدد فوق سريره، في غياهبه... تتالت كل الأحداث وتداخلت، وجوهٌ وأصوات وأماكن و... أحسَّ بالوَهن، وبأنهُ يستطيع فعل شيء ما، ولكنه يعجز عن ذلك لا يدري لماذا؟
أراد أن يعرف كم الساعة؟ وتمنّع عن معرفتها... أمسكّ الهاتف دون ان يُضيء شاشته، وأعادهُ فورًا فوق الطاولة!
لم تنتهي سيجارته بعد، ورائحة القهوة تملأ المكان... والنافذة المفتوحة تسمح بدخول نسمات الليل المُنعشة مع ما تحملهُ من روائح المدينة...!
أطفأ السيجارة في المنفضة التي تمتلأ وتكاد تفيض بأعقاب السجائر، وأعتدل في جلسته على سريره...!
تنهدّ وقام وفتح باب خزانته، الخزانة مفتوحة على مصراعيها (كون بابها الآخر مخلوع)، وهو يقفُ أمامها كأنه مُتردد أو لا يجرؤ على فعل شيء ما... مدّ يدهُ وتناول صندوق أزرق لونه باهت!
وعاد دون أن يُغلق باب الخزانة، وجلس على سريره واضعًا الصندوق أمامه، لدقائق بقيّ جالسًا يتأمل الصندوق بعين زائغة... وأنتفضّ حاملاً الصندوق عائدًا به للخزانة، وبسرعة غادر الشقة كأنه يهرب من شيء يخاف منه جدًا...!

في صبيحة اليوم التالي وعندما فتح عينيه تمنّى لو أنه ليس هو!
وأحسّ بأنه يفتقد حتى القدرة على النهوض... فكيف سيعيش اليوم؟! وماذا عن الغد والأسابيع بل والسنوات القادمة؟!،

العمل في الشركات الخاصة يُشبه إلى حد بعيد حياة المنفى أو السجن المُؤبد، وهذه ليست مُبالغة، فهي مُجرد وصف لحال العُمال الكادحين في شركات مُعظمها تستخدم العُمال كآلات لا بشر....
كما هو حال صاحبنا طه الذي يعمل في شركة م. ن للصناعات التحويلية.... وكما ذكرت سابقًا فهو يعمل لأثنتي عشرة ساعة يوميًا عدا الجُمعة وهذا مُخالف لقانون العمل بطبيعة الحال ولستُ هُنا بصدد تقييم حال الشركات الخاصة وعدم إلتزامها بالقانون وما إلى ذلك...
أعود لصاحبنا طه الذي يُجاهد في عمله ويُحاول بشكل دائم أن يكون "رجلًا" في العمل!

يعمل في المختبر ويقضي مُعظم ساعات عمله الطويلة جالسًا ومُتأهبًا لأيّ طلب عيّنات.... وهكذا تُصبح ساعات العمل ساعات فراغ يقضيها مُتصفحًا الأنترنت وأحيانًا يُدمن إحدى الألعاب الإلكترونية، وتمضي الأيام وهو يُصارع تلك الحالة من "اللاشيء"!
نعم وجوده في شقته يملأه حُزنًا لا يتبيّن ملامحه، ويغرق هُناك في حالة من العجز والرغبة بأشياء تبدو مُستحيلة وبعيدة... لذلك بدأ يُدرك قيمة العمل المعنوية وإبتعاده عن الشقة والوحدة القسرية التي بدأ يُعاني منها منذ وطأة قدماه هذه المدينة!،

ََأيامه تتشابه ولا تختلف سوى بالتواريخ والأوقات وبعض اللحظات النادرة التي يُغادر بها دائرته التي وجد نفسه بها، لا يدري كيف؟ ولماذا؟

وفي هذا اليوم غادر شقته لعمله... كالعادة لم يشبع من النوم وودَّ لو أنه يبقى نائمًا في فراشه ولا يقوم بأيّ شيء!
وطبعًا لا تحدث الأمنيات ويبقى الواقع مُغايرًا تمامًا لما يُريد ويرغب!
هو يرغب بأن لا يفعل ما يفعله كل يوم، ويفعل أشياء تبدو مُستحيلة أو هي كذلك بالفعل!

بعد إنتظار الباص لنصف ساعة، يأتي الباص كشيء مُستحيل...
صعد وجلس بمُحاذاة النافذة، ويشعر بأنه ثقيل وبأن كل شيء بطيء أو سريع جدًا، وهو فقط يُعاني من كل شيء!
يُعاني من أفكار تتزاحم في ذهنه ومن مخاوف تستبدُّ به ورغبات لا يحتملها و... بإختصار هو "غير مُرتاح" وهذه العبارة كفيلة بالتعبير عن حالة صاحبنا في كل صباح وتمتدّ لكل اليوم مع تلاشي حدتها شيئاً فشيئًا...!

واليوم يشعر بإختلاف طارئ... بشيء لا يفهمه ولا يستطيع إدراكه مع إحساسهُ به!
"وطني... يا جبل الغيم الأزرق"، وأنتبه للأغنية التي يصدح بها الراديو!
وكأنه لم يكن يسمع... "وطني يا قمر النبي والزنبق... يا بيوت اللي بحبونا... يا تراب اللي سبقونا... أنا على بابك قصيدة كتبتها الريح العتيقة... أنا حجرة... أنا سوسنة يا وطني..."

إغرورقت عيناهُ وأقشعرّ بدنه، وأحسّ بفرح غاضب يشتعل في جسده!
ما الذي حدث؟ وكيف لأغنية "تكررت كثيرًا" أن تُؤثر بهِ هكذا؟! كيف؟؟!!

بدأ ينتبه للوجوه والأجساد من حوله، غاب الراديو والضجيج، كان صوت الراديو يأتي كهمهماتٍ بعيدة وغير مفهومة!
كل شيء من حوله يبدو "مُستفزًا"، وكل الوجوه تتشابه كما الأيام... كلّها رمادية ومُرهقة وتبدو خائفة من أشياء كثيرة ومجهولة!

الباص يمضي في أزمة المرور اليومية، ولا يتوقف إلا لنزول راكب وصعود رُكاب... لماذا الصاعدون أكثر؟!
ولماذا هو الآن هكذا؟! ما الذي حدث وتغيّر؟!

عند الإشارة توقف الباص، وصاحبنا لم يعد كما صعد، هو الآن يُعاني شعورًا ما ورغبة إنبجست فيه بعد سماعه أغنية فيروز... أغنية وطني!

ومن النافذة بدت الحياة رتيبة أكثر ومُملة جدًا، الجميع يسيرون... يُسرعون الخُطى والشوارع تزدحم بالمركبات والضجيج يملأ الجو ويُشيعُ إحساسًا غامضًا بالخطر المُحدق...!
وصاحبنا ينظر من النافذة ويُحدّق بكل شيء، اصطدم بمشهد مُعتاد لكنه الآن غريب أو مُثير للإهتمام... رأى مُشردًا يفترش الأرض ويُدخن سيجارة!
واضحٌ مكان الرجل المُشرد في عينيّ صاحبنا، لأن كل شيء عدا ذاك المشهد يبدو ضبابيًا... كأن المُشرد وحده الحقيقي هُنا!

قامَ من مقعده ونزل...! ،

مرور الأيام مُدهش وغريب!

فجأةً تنتبه بأن اليوم يُصادف ذكرى حدثت قبل خمسة أعوام، الذكرى كأنها حدثت أمس أو قبل قليل!
وتُدرك كم هي الأيام سريعة، وكم نحن لحظيون وزائلون؟؟!!

صاحبنا طه الذي لم يتغير عليه شيء خلال عام قضاهُ عاملًا في شركة الصناعات التحويلية، وتغيّر طه كثيرًا، وأجزم بأنه في كل يوم كان يتغير وفي كل صباح يفتح عينيه كشخصًا آخر غير الذي نام قبل سويعات!

وفي ليلة الثالث عشر من ديسمبر، قرر أن يكتب، وهو لم يحاول الكتابة قبل تلك الليلة ولم تخطر له فكرة الكتابة، لأنه كان مشغول جدًا... مشغولٌ باللاشيء!

عن ماذا سيكتب؟
وهو الذي لم يعرف يومًا كيف يتحدث لصديق ما أو كيف يخرج من كهفه المُظلم؟!

وقد بدأ:
أنا طه... أكرهُ أسمي جدًا وأكره وجهي القبيح في المرآة!
أنا... ما هو أسمي؟ لماذا نُسمي الأشياء؟ ونفرض عليها تلك الأسماء؟
لماذا السرير أسمهُ سرير؟! والساعة لماذا ليست... أيُّ عبارة غير الساعة؟!

قبل ساعتين عدت من عملي المُقرف، واليوم أحسستُ بأنني صرتُ آلةً أو أداة!
لماذا نعمل؟ ولماذا نعيشُ هكذا؟! لماذا نعيشُ أصلًا؟! وهل نملك بالفعل خيار حياتنا؟!

الليلة الماضية كدتُ أقتلُ نفسي!
كنت جالسًا كهذه الجلسة، وهذه الجلسة تكررت 347 مرة تقريبًا...!
لم أكن حزينًا وكنتُ أشعر باللاشيء حرفيًا... وفجأة فقدت ترابط أفكاري، وأستولى عليّ إنفعالٌ شديد، الإنفعال يُشبه الفرحة الغامرة، وأعجبتني: فكرة الانتهاء من كل شيء مرةً واحدة!
للحظات كان الإنفعال، ومن ثم هدأ إنفعالي وخمدت تلك الرغبة وبسرعة نمتْ!

وفي الصباح إستيقظتُ كالعادة على رنين مُنبة هاتفي اللعين، وكنتُ في أوج حُلم لا أذكره الآن لكنهُ كان مُثيرًا جدًا، صحوتُ حزينًا وممتلأ النفس بذلك الشعور الكريه والمرير، وكأني ذاهبٌ للإعدام شنقًا أو حرقًا، لا يهم... فالمُهم هو أنني فعلتُ ما أفعله في كل يوم، و....!

لماذا أكتب؟ ولمن؟! مَن سيقرأ هذا الكلام السخيف والمُمل؟! مَن سيهتم لنومي ورغبتي بالموت وتعاستي في العمل والعالم مليء بالتعاسة والبُؤس والموت!،

لم أكتب منذ يومين...
وأنا الآن أحاول الكتابة، ما أصعب المُحاولة! عندما تُحاول فعل شيء يبدو مُستحيلًا، حينها تُصبح المُحاولة مسألة حياة أو موت بلا مُبالغة!

الليل وأنا، أصدقاء وأعداء... بل وأحبُّ الليل بالرغم من انه دائمًا يجعلني أكره وجودي!
في الليل تتضح الصورة أكثر، وتبدو الأشياء قريبة وغريبة ومُستحيلة!

بدأتُ منذ أشهر أتحدث للأشياء من حولي، أخبر الكرسي كم هو بليد وكريه؟ وكم هي الساعةُ مُملة وسخيفة؟ وكم تستفزني بل وتُغضبني هذه الجدران؟ والسقف... اللعنة على السقف!
هذا السقف ألعنه في كل ليلة، وألعن مُديري في العمل وزملائي السامجين والمُشرد الذي يرمقني بنظراته الحادة في كل صباح كأنني مسؤولٌ عن تعاسته ومُعاناته؟!
وألعن حبيبتي السابقة والتي تركتني منذ عام وتلك التي أحببتها بصمت، وألعن كل الرجال والنساء الذين أصادفهم في كل يوم وأرتطم بملامحهم الكئيبة والباردة!
وألعنني وألعن جُدراني وسقفي مُجددًا، اللعنة على السقف دائمًا وأبدًا!

لطالما أحسستُ بالفرح، حتى وأنا في غمرة حُزني وعندما أغرق في تفاصيل مُعاناتي الشخصية، أتنبّه لفرحةٍ تختبأ خلف تراكمات بُؤسي، وأراها كنور وراء جدار مُظلم!

والليل وأرقي من جرّاء نومي بعد عودتي من العمل، يضعني أمامي... أراني قبل الآن.. قبل أشهر وعام وعامين وخمسة، وأندم وأسخر وأقرف وأشمئز وأفرح وأكاد أبكي وأحيانًا أبكي بالفعل... أبكيني وأنام! ،


الوحدة أو العُزلة أو الشعور بأن كل الناس بعيدون أو لا يفهمون أو أنا لا أفهم!

مش حزين صدقوني، ولا أرغب بشيء! لكنني أتوقُ لشيء لا أعيه، وأتمنى لو أستطيع أن أغيّر بعض الأشياء التي ويا للأسف لا أستطيع إدراكها...
اليوم وكعادتي دائمًا، إنتبهتُ لكل شيء... منذ إستيقاظي ينتابني شعورٌ واضح ومُؤلم وسعيد، وشيئًا فشيئًا يغزوني التعب والسأم، وتُصبح الأشياء عِدائية ومُستفزة وخارقة!
والـ"لماذا" ؟ تُحاصرني وتسخرُ مني وتبكي وتضحك... وأخافها وأهرب ولا أعرف لمن أهرب؟ وكيف؟ ولماذا؟
أعي تمامًا بأنني أغرق... بل أحترق ببطئ! ولا أعرف كيف أنجو؟ وما هي مُحاولة النجاة... أشعر بأن كل شيء صار عاديًا وسخيفًا، وحياتي ما هي إلا فشل يتكرر ويصل لفشل حتميّ وهو الموت؟!
إذن لماذا لا أفعلها وأنتهي من هذه اللعبة المجنونة والحقيرة؟!
وتعود إلي ملامح... صوتٌ بل أصوات تقول لي: أنت واهم! وأنت الذي تُغمض عيناك وتمطئن لحالتك... وحتى لو أقدمت على الانتحار ستكون واهمًا أيضًا وستنتحر بجُبن وتردد ورغبة بالحياة تقاومها!

غدًا... غدًا، في التاسعة مساءًا سأفعلها... أو بعد ذلك، لا أدري! المهم سأتوقف عن كتابتي هذه! وربما سأُحرق ما كتبت...! ،

لا تنام المدينة، وإن هدأ ضجيجها لساعات تبقى مُستيفظة... ومن يسكن المدينة يكتسب صفاتها، كل الأماكن تتشابه وسُكانها... السُكان... البشر... يُشبهون الأماكن التي يقطنونها!

المدينة مساحة تمتلأ بالجُدران والضجيج والفوضى والترتيب... هي التناقض الصريح والعادي!
الناس هُنا غائبون أو مُغيّبون، هكذا تبدو ملامحهم...
كثيرون جدًا، ولكنهم يبدون "بلا وجود"!

من هُنا بدأت حكايتي... من النهاية بدأت، ولن أنتهي منها قريبًا، والبداية بعيدة...

من مدينة بلا إسم، ولها كل الاسماء...!
ومن بلاد شرق المتوسط، من مناطق شاسعة تتشابه وتختلف كثيرًا... قسمّتها الحدود والرايات واللاوجود!

تبدأ في كل صباح، يبدأ بياض الأفق مع أصوات الطيور وبسرعة يستيقظ كل شيء!

تبدأ الحكاية في كل يوم....
ولها نهايات عديدة تحدث في كل يوم، وتعاقب الليل والنهار يُظهر لحكايتي ملامح جديدة، كانت موجودة لكنها لم تكن لتظهر لولا مرور الأيام...

ها هي المدينة تستيقظ اليوم، ولا جديد وكل شيء يبدو جديدًا في عيني طه...

صديقي طه لم يتغير، ففي كل يوم يفعل ما فعلهُ في اليوم السابق، في تمام الساعة السابعة يُغادر شقته للعمل ويعود عند الخامسة... وبلا مُبالغة لم يتأخر يومًا عن موعده!

تأخر طه اليوم!
غادر البناية في تمام الثامنة والنصف!

خرج وملامحهُ تَشي بأنه ليس على ما يُرام، وبما أنه اليوم لم يذهب للعمل، وأرتكب مُخالفة للنظام الذي إلتزم به لعام تقريباً... إذن هو ليس على ما يُرام...!

***

6:30ص، يزعق الهاتف بجانب السرير... ويستيقظ النائم كأنه مصعوق بتيار كهريائيّ عنيف، يُطفئ الهاتف ويرتخي فوق السرير وهو مُغمض العينين!

7:36ص، ينتفض النائم، ويجلس فوق السرير، وتبدو عليه ملامح الإشمئزاز والإستغراب والخوف!
الغرفة تحتوي سريرًا، وعلى الجدران وراء السرير برواز كبير ويبدو قديم جدًا، يحتوي البرواز على كلمات مكتوبة بخط غريب... الجُدران دهانها أبيض مُصفّر، وثمة شقوق ليست كثيرة وتتوزع في أماكن مختلفة، ومكتب عليه مجموعة كتب لم تُفتح منذ زمن وأمام المكتب كُرسي لا يحتمل أن تجلس عليه قطة...!

الغرفة حتمًا بحاجة تنظيف وترتيب وحرق!

غادر الحمام وهو يرتدي ملابسه الداخلية، وبسرعة إرتدى بنطال الجينز وجاكيته الخمريّ فوق بلوزته السوداء، وارتدى الحذاء وهَرب من الغرفة!

عندما غادر البناية، تذكر بأته نَسي... نَسي شيء مهم لم يستطع تذكره، وتوقف للحظة مُستغرقًا في التفكير والتخمين، وأخرج الهاتف وأضاء الشاشة... ومشى بإتجاه اليمين...!،


إلى أين يذهب؟

اليوم مُختلف في حياة صاحبنا، هو يومٌ إستثنائيّ بمعنى الكلمة!

راح يمشي بهدوء، وعلى وجهه ترتسم ملامح اللافهم والتردد والتوجس... يمشي وهو يُحدّق بالعابرين ويتفرس في وجوههم كأنه يبحث عن شيء مُهم أضاعه في تلك الوجوه!

وجوه الناس في الصباح تكونُ مُنفرّة وباعثة للكآبة والقرف، ولا أُبالغ إذ أدّعي بأنه يمشي دون أن يرى شيئًا مُحددًا، وهو يتفرسّ ويُحدّق فقط لأنه يفعل ذلك!

وصل باب عمارة سكنية وحيدة في مكان نائي، وصلها بعد مسير نصف ساعة... وها هو يدخل للعمارة بسرعة كأنه أحد سُكّانها، ويصعد الدرج، بعد أن توقف لحظة أمام المصعد...!
وأمام باب الشقة رقم 2، توقف... يبدو مُترددًا أو مرعوب، ويتراجع قليلًا للوراء، ويميلُ برأسه ويمدّه جهة الباب، كأنه يُحاول الإنصات لصوت ما...!
وفجأةً يُخرج هاتفه ويفتحه ويُحدّق في شاشته، وملامح وجهه غاضبة أو خائفة!

أعاد الهاتف لجيبه، وأغمض عينيه وتنفس الصُعداء، ونزل بسرعة مثلما صَعد...!

أمام العمارة توقف وراح ينظر جهة الشارع، الهواء عَليل ومُنعش والإزدحام خفيف... وعاد صاحبنا يمشي على الرصيف، ومشيته هذه المرة أبطئ وملامحه أهدأ... ما الذي حَدث فوق عند باب الشقة رقم 2؟
وما علاقة هذه الأمر بحريق شبَّ في تلك الشقة بعد ساعات وأودى بحياة أصحابها (عائلة مُكونة من أربعة أفراد، زوجين وطفلين ذكر وأنثى)؟!

الحريق حدث بفعل تماس كهربائي، وكان الأب قد عاد للتو من العمل والأسرة بإنتظاره للغداء، وفجأة إنفجر المطبخ وبسرعة إلتهمت النار كل شيء!

وكان صاحبنا في أثناء ذلك، يبحث عن شيء ما... شيء مفقود... لا أدري!
هو بالفعل يبحث ولكن عن ماذا لا أدري!،


الشمس تُوشك على المغيب، وصاحبنا يجلس في مكان ما... مكان يُمكن أن نُسميه "مشروع حديقة لم تكتمل"!
المكان بين شارعيّن، ويحتوي نافورة "خربانة" والكثير من النفايات وبضعة أشجار بلوط وسرو، يجلس ويُشاهد... الناس يسيرون في كل الإتجاهات والشوارع مُزدحمة بالسيارات، وأصوات كل الأشياء تتداخل وتضطرب، وتجعل من الجلوس أمر بالغ الصعوبة، خصوصًا للذين يجلسون وحدهم كصاحبنا تمامًا...!

أين أمضى النهار؟ وكيف وصل إلى هُنا؟
إذا عرفنا بأن هذا المكان يبعد عن مسكنة... تقريبًا ثلاثين كم!
يرى الناس من حوله يتغيرون، يذهبون ويأتون وهو يجلس كصنم، معه قهوة ويُدّخن بشراهة!

والهواء المسائيّ المُثقل بعوادم السيارات ورائحة المدينة النتنة، يُداعبه ويحثّهُ على المشي ولكنه مُتعب جدًا...!

بدأ الظلام يُخيم، والأضواء تسطع وتزيد المشهد غرابة في عينيّ صاحبنا...!

****
"وفاة عائلة مكونة من أربعة أفراد بسبب حريق في شقتهم..."
قرأ الخَبر العاجل والمُؤسف بعدما جلس فوق سريره يتصفح "الفيسبوك"، منذ دقيقتين تقريبًا جلس، وقبل ساعة وصل الشقة بعد يومه الشاق...
نَظر إلى الساعة... كانت العاشرة وسبع دقائق، والخبر نُشر منذ ساعتين، وأستمر في التصفح، وعلينا أن نعلم بأن صاحبنا لا يعرف بأنه قبل ساعات كان يقف أمام الشقة التي احترقت بأصحابها!
في العادة عندما يتصفح الفيسبوك أو أيّ موقع تواصل اجتماعي آخر يشعر بأنه مُستنزف ويقوم بعمل أخرق ومع ذلك يستمر في التصفح إلى أن يرمي الهاتف أو ينعتق منه!

بعد مرور ساعتين، كان صاحبنا يقفُ في ظلام شقته وينظر من خلال النافذة للشارع في الأسفل، الشارع فارغ لولا السيارات التي تتواتر في المرور كل لحظة... والنافذة المفتوحة تسمح لنسمات الهواء الرطبة بأن تقتحم الغرفة من خلال جسد صاحبنا "المُتخشب" في هذه اللحظات...!
كان يقف والهدوء مُزعج وتتزاحم في رأسه مئات بل آلاف الأفكار والهواجس... كم يتمنى لو أنه غيره؟!
لو أنه يفقد وعيه لفترة ليست قليلة! مع ذلك ينتابه شعورٌ آخر، شعور عارم... بسعادة ما أو بأنه غالباً سيحيا سعيدًا... وتمتزج كل المشاعر والأحاسيس المُرهفة لتجعل منه كتلةً من القَلق، الأمر يُشبه صفحة بحر امواجه هادئة ولكن في أعماقه إضطراب شديد!

لكنهُ الآن "سعيد جداً"...!،


في مقهى "البلد"، الذي يقع في وسط العاصمة... والذي يمتلأ في كل يوم بالزبائن الدائمين والعابرين، يجلسُ صاحبنا في ركن منزوٍ، والمقهى قديم، وصاحبنا إعتاد في كل مساء بعد أن ينتهي من "الدوام اللعين"، قد إعتاد أن يأتي لهذا المقهى ويجلس في ذات المكان... ومع مرور الأيام صار صاحبنا كأنه جُزء أساسي من المقهى، يجلسُ لساعتين تقريبًا ويأتيه فنجان القهوة السادة، ويُدّخن مُعظم الوقت ويبدو كصنم بلا حياة!،
واليوم صباحًا جاء للمقهى على غير العادة!،
وصل في تمام الساعة التاسعة والنصف صباحاً، وجلس في ركنه... وطلب القهوة كأنه زبون جديد!،
الصباح مُشرق، والبرد لطيف، ونسمات الهواء ألطف... وإزدحام الشوارع خفيف، والمقهى فارغ إلا من بضعة رجال كبار في السن يتوزعون في النواحي كمجموعات يتناقشون ويعلوا صوتهم أحيانًا وفجأة تُسمع ضحكة مُجلجلة هُنا وهُناك... وصاحبنا، ينظرُ من بعيد، ويُدّخن ويرتشف كل حين من فنجانه، ويتلمظ ويعود للنظر بعين مُندهشة بحُزن غريب!،
لماذا هو هُنا الآن؟
وهو الذي منذ وجوده في هذه المدينة لم يأتي لهذا المكان أو غيره في الصباح!، ففي العُطل الأسبوعية (الجمعة والسبت)، لا يُغادر الشقة إلا نادرًا وفي المساء!،
لكنه منذ يومين مُتغيب عن العمل، واليوم هو الأربعاء،
يرى ويسمع، وكأنه ليس موجود، كأن الذي يحدث لا يعنيه...!،
كأنه في ركنه، لا مرئي وغير موجود، واجهة المقهى زُجاجية... وهو يجلس يرى الرصيف والشارع والمحال التجارية وعبور الناس والأشياء، يرى القطط تهربُ وتختفي ويرى الشحاذين يمضون وهم يستعطون المارة، ويرى المُشرد... هو ذاته؟!
لماذا يبدو هذا الوجه المُرهق والمُجعد، مألوفًا لصاحبنا؟!
أين ومتى إلتقى بهذا الشخص؟
ولماذا تحرك شيء في أعماقه عندما إلتقت نظراتهما؟!
وقف المُشرد ينظر نحو صاحبنا الجالس في زواية المقهى وينظرُ صاحبنا بعيون مُستفهة وخائفة!،
وأحسّ صاحبنا برعب فظيع يجتاحه، وراودته رغبة مُلحة للهرب... للإختفاء... للإندثار!! ،
لا يدري لماذا؟
إلتقاء نظراتهما لم تدم لعشرة ثوان، ولكن حتمًا هُناك شيء حدث في هذه الثواني!، كان المُشرد قد إستدار ومضى يسيرُ مُترنحًا يكاد يسقط، وصاحبنا يراهُ يبتعد بين السائرين القليلين في هذا الوقت من اليوم،!
وأنتبه لشجرة في حوش بعيد، الشجرة خضراء عالية وتتمايل مع الهواء، والهواء في الخارج بدأ يعصف!، وتذكر توقعات النشرة الجوية بأن هُناك حالة من عدم الإستقرار الجوي ستبدأ بعد ظهر اليوم!،
الخبر صادفهُ ليلة البارحة وهو يتصفح الفيسبوك، وقد قرأ التعليقات ولم يستطع مُغادرة "البوست"، قبل قراءة كل التعليقات والدخول لصفحات مُعظم المُعلقين، وكان في كل صفحة يشعر بأنه حزين أو وحيد... وتفاعل مع الخبر أولًا بأعجبني قم وضع أحببته، ثم أعجبني وأخيرًا تراجع عن التفاعل وأكمل التصفح!،
الآن وهو يجلس في المقهى وينظر للشجرة البعيدة والغريبة في هكذا أماكن مليئة بالجُدران والتكنولوجيا... الآن تذكر هذه التفاصيل، ورأى نفسه جالسًا فوق سريره ويتصفح، ولم يعد قادرًا على الجلوس... كان يشعر بحرارة تجتاحهُ وقلق يتفجر في أعماقه،!
لماذا هو هُنا؟ لماذا جاء؟ ولماذا هو هكذا يبدو ليس موجودًا... بعيدًا عن كل شيء وفي داخله حزن وفراغ عظيم يزداد في كل لحظة،!
غادر المقهى، وسار في جهة اليسار... ليست لديه وجهة مُحددة،
في عينيه، كل شيء يبدو غريبًا، ويشعر في قرارة نفسه بغضب... بكراهية... بحزن وبتعاسة قوية!،
ويتخيلهُ مُشردًا أو مُتسولًا... أو ذلك العامل المُرهق الذي يكاد يهرول على الرصيف، أو ذلك الرجل الكهل الذي يجلس بجانب باب بقالته، ويُدّخن بهدوء... هل هو هادئ بالفعل كما يبدو؟ هل لا تهزّه ذكريات عمره وكل الأشياء التي تغيّرت وتبدلت؟! أم أنه قد إعتاد الحياة ولم يعد كصاحبنا، غُرٌ ووغد وبائس وتافهٌ... ربما!،
ربما هو وكل الناس كصاحبنا... لطالما عذبته تلك الأفكار والهواجس، ولطالما أحسّ بالضعف أو النقص من فرضية قوة الآخرين وضعفه!،
ويتسائل كلما حانت فرصة، لماذا أنا هكذا؟ ويستشعر ضعفه كطفل لم يكبر بعد!!،

12:23م، وقف يتحين فرصة عبور الشارع نحو الرصيف الآخر... الشارع مُزدحم وجسر المُشاة قريب، ولكنه عندما قرر العبور ووقف ورأى الجسر القريب لكنه بعيد، طرد من رأسه فكرة العودة وإستخدام الجسر للعبور!،
وها هو يسير على الرصيف الآخر، وفي رأسه تزدحم الأفكار، كأن إزدحام رأسه هو إنعكاس لإزدحام شوارع عاصمتنا الحبيبة في ذروة اليوم!،
أبطأ السير، وصار يتلّفت في كل الإتجاهات، وبعد مسير طويل وصل "دوار الداخلية"، إلى أين سيذهب؟ ولماذا يزداد شعوره بالغُربة والكره كلما مشى... أقصد هو من زمان يُعاني من حالة مزاجية صعبة تنتابه عندما يسير على الأرصفة في هكذا مناطق مزدحمة بالبشر والتكنولوجيا والمباني و... ربما هو لم ولن يعتاد هذه الأماكن! هو يُحب بل يعشق جدًا الجبال والهواء العليل وهدوء القرية العزيز!،
هوينتمي للحجارة الضخمة وغطاء الأعشاب وقمم الجبال والأشجار المُعمرة والفتيّة!
، فكيف سيتقبل كل هذا التغيير؟! مرور عام هنا لم يُغير في صاحبنا شيء... وربما لو أمضى بقية حياته هُنا، سيبقى يشعر بالغربة وذلك الإحساس الغريب والقويّ،!
في البداية كان يشعر بعداوة الأماكن والوجوه وكل شيء... واليوم يشعر بالكراهية والخوف فقط!!
عند دوار الداخلية وقف بالتحديد جهة مبنى المحافظة... يرى الحركة الدائمة للبشر والآلات، وأغمض عينيه، ورأى وجه المُشرد... وفتح عينيه، وأحسَّ بفزع وسَخط شديديّن...!،
كم يتمنى الآن لو أنه في شقته مُستلقي على سريره ويتصفح الفيسبوك اللعين... ويستسلم للاشيء،!
ولكنه الآن هُنا... لماذا وما الغاية؟! لا أدري!
في النهاية نحن محض مُشاهدين لهذا الشخص الذي يبدو... على الأقل "لا يدري أين يذهب أو عن ماذا يبحث"!،

***
بين السطور، "أنا مُحارب..."، هذه العبارة التي يقولها صاحبنا في كل "لقاء شبابي" يتناول النشاطات الإجتماعية، ويقولها بغضب ويأس...!،
في مجتمعاتنا التي تمتلأ بالضحايا المعنويين، بضحايا "الواقع السيء"... يعيش الشباب وهم الناشطين في حالة من الإحباط العام، ولسنا هُنا في تحليل إجتماعي لحالة مجتمعنا العزيز، وصديقنا المُحارب وبعد سنوات قليلة من النشاط أصبح "يائسًا"... أيّ تحوّل مُسماه الإجتماعي من "ناشط" لـ "يائس" وهذا التحوّل المُؤسف... فصاحبنا هو واحد من آلاف الحالات المُشابهة...!،
هذا التحول يحدث فقط بسبب التقدم في العمر، ولا نعني هُنا بالتقدم بالعمر الشيخوخة أو الكهولة، إنما مرور الأيام وإتضاح الأمور أكثر... وعودة للسطور...

والمُحاربون في هذه الحياة يتعبون... نعم يتعبون وقد يستسلمون، خصوصًا عندما يكون خصمهم "حياتهم التي يعيشونها" فكيف ستحيا في عدوك؟
.... كانت الأيام القليلة مليئة بالتطورات، حدث ما لم يكن في الحُسبان، ونتيجة لذلك تربّع "الإحباط" فوق رُكام الأحلام والطموحات. جَلس مُنتشيًا بإنتصاره... أيُّ إنتصار؟ هُناك إنتصار حدث لكنه ليس واضح... ليس محسوس... هو إنتصارُ الهزيمة..!

الساحةُ تمتلأ بالطُلاب الهاتفين بأعلى صوتهم والذين يرددون هُتافات الغضب والسَخط والثورة، ولكن الإجساد تتعب كما الصوت...!
ينتهي الإعتصام... بفضّ الإعتصام، وإعتقال العشرات من الطُلاب!،
الصُحف لا تتحدث عن الحَدث الهام جدًا إلا بزوايا بعيدة، لا تتحدث عن تداعيات الإجتياح الصهيوني للبنان وحصاره لبيروت... ولا عن مجازر القوات اللبنانية والكتائب بحق المُخيمات ولا عن كل الذي يحدث هُناك... قريبًا من هُنا،
هُناك حيث الموت سيد الموقف والدمار خادمه المُطيع، حيث القتل آلةٌ تُمارس عملها بإتقان شديد... تعداد الضحايا وأخبار الإنسحابات والإقتحامات والتغيّر في إسترتيجيات المعارك والتحالفات... باتت كل تلك الأخبار عاديّة وروتينية، وهُنا ليس كهُناك، ثمة فرقٌ شاسع.... لكن ما حدث في الأمس، في فضّ الإعتصام الذي بدأ قبل ثلاثة أيام، في التاسع عشر من أيلول، واليوم الثاني والعشرين من أيلول...

لحُسن الحظ لم يُعتقل، وها هو يُغادر المكان الذي إختبأ فيه بعد نجاته من الإعتقال أو... القتل، نعم القتل!
كانت وحشية القوات الأمنية في فضّ الإعتصام تَشي برغبة جامحة لإرتكاب مجزرة بحق... بحق مجموعة طلاب وطالبات غاضبون من كل الذي يحدث في لبنان... والذي حدث في مُخيمي صبرا وشاتيلا قبل أيام كان يستدعي إنفجار كل الغضب الذي تراكم وأمتلأت به الصدور،
لم يُعتقل ولم يُقتل، لكنه تعرض لضربات متفرقة في جسده... ويده كادت تُكسر تحت ضربة هراوة "أمنية"!،
لم ينم في الليلة الماضية... كيف ينام الهارب؟ كيف يرتاح المقهور؟!
الليل مضى ثقيلًا ومُظلمًا، كان في الغرفة وحيدًا والغرفة فارغة إلا من بضعة وسائد وأوراق ومليئة بالغبار ورائحة كريهة... جلس على البلاط تحت النافذة المفتوحة، ونسائم الهواء الليليّ تُخفف من وحشة المكان والشعور... كان مُرهقًا ويتألم ويشعر بضوضاء بيضاء وثقل يملأ رأسه... وكان يرى ويسمع...
كيف بدأت الأشياء، وكيف تسارعت الأحداث..؟؟

كيف...؟!
ولماذا.....؟؟
بلا ساعة... بلا نور... بلا رفيق... بلا مكان وبلا رغبة... كان بلا شيء!!
ولم يكن كذلك... كان يودّ لو انه يُقاتل في سبيل فكرة، أو يُقتل قبل ان يُقتل إنسان... كان غاضبًا منه... غاضبًا من التخاذل والنُكران... غاضبًا منه كعربيّ تمنعه السُلطة وتستعبده وتقتلهُ ربما لأنه غاضب!
وجاء الصباح...
كانت ليلة "فظيعة"، لم ينم فيها ولم يتحرك... كان فقط "مُستسلمًا"!
وذلك الصباح كماء سُكب فوق رأس نائم، وصاحبنا الذي تفاجئ بمرور الوقت، وبكيف أمضى الليلة؟!
نعم... لم يستطع فهم كيف لم يفعل شيء في كل تلك الساعات؟!
كان "مُستسلمًا" فقط!
كانت كل الأشياء تصفعه... تغرس أشواكها بجسده الممدود، ورأسه ساحةُ صراعٍ عنيف لم يهدأ، بل كان كلما أمعن الليل في ظلامه، يزداد إضطرابهُ وقَلقهُ وشعوره الشديد بالحزن والخوف واليأس...
والـ"لماذا"؟ تَلُحُّ عليه وتجرّهُ كلما إبتعد بصعوبة عن حرارة الفكر... تجرّه نحو ذروة الحرارة ولهيبها!
وفي الصباح إتضح الشعور والإحساس بالخطر والخوف واللاجدوى والأمل الشحيح وراء كل ذلك... إتضحت المخاوف والتساؤلات، والنور يفضح ويُعرّي...
أحسّ بوهن شديد يستولي عليه، تمنى لو أنه ليس هو... لو أنه أيّ إنسان إلا هو!
وتراجعت الأصوات، خفت الضجيج وإنزاحت الصور والمشاهد... عندما نهض تألم... كاد يصرخ لكنه أمسكَ صرخته، ردّها قبل أن تتحرر من صدره، وغادر المكان هو يعرج، وهو يكاد ينهار...

لماضٍ بعيد وقريب، في كل يوم "يهبط"فيه نحو قمة المدينة، تتداعى في رأسه الاف الذكريات...
ويمتلأ بضجيج أبيض... تسخرُ منه أوراق شجرة البلوط التي إنحنت بأغصانها فوق جدار يدور حول قصر قديم... قصر مهجور، وهو مرتع للمُنحرفين، يختبئون فيه ويُمارسون رذائلهم.. من رذائلهم كتابة منشورات تدعو لإعتصامات وتجهيز لافتات،
بعد أعوام وفي منتصف شهر مارس عام 88، إنهار الجدار... كأن غصن البلوط هو السبب، قد طال إتكائهُ عليه، والجدار يهرم... ويضعف...،

وهو يتداعى نحو القمة... القمة البعيدة والمَنسية،
في الطريق إلى القمة، هبوطٌ مستمر، وكان يراقبُ بإهتمام كثيف كل شيء، يرى كم التغيّر الذي حدث؟
في الأمس هبط كذلك، لم تكن الأشياء هكذا؟ نعم تغيّر كل شيء تقريبًا... في الأمس؟ أم قبل خمسة أعوام أو عشرة أو قبل ثلاثين عاماً...!
بيته لا يحتوي "رزنامة" وساعة الحائط ديكور قديم، والهواتف الذكية ليست ذكية بما يكفي لتتحدث عن الأمس، مثلاً عن صبيحة يوم العاشر من أكتوبر عام الواحد والسبعين،
بالمناسبة هو يهبط في كل يوم منذ... منذ سكن هذه المدينة، وقد جائها طالبًا ولم يُغادرها منذُ ذلك الحين...
منذ ذلك الحين، إعتاد الهبوط نحو القمة، وإعتاد التغيّر اليوميّ الذي يحدث، وصحيفة الأنباء بين يدي العم أبو تحسين الذي يجلس في كل صُبح عند باب المقهى وأمامه طاولة عليها فنجان قهوة وعلبة سجائر، ومن داخل المقهى تأتي أنغام فيروزية...!
وأعتاد أيضاً زيادة عدد المُتسولين والمُشردين، ولم يستغرب تسوّل أحدهم وهو يرتدي بذلة أنيقة وحذاء يلمع، بل كان يلحُّ في الطلب... ويتعلق بثياب العابرين، ويتملصون منه كأنه حيوان أليف...،
على ظهر الصحيفة مكتوب: بعد ثماني سنين عجاف، الحرب الإيرانية العراقية تضع أوزارها...
وتذكّر شجرة البلوط الضخمة، والقصر المهجور، ونظارة أبو تحسين وأغنية فيروز التي تقول في مطلعها: يا حبيبي كلما هب الهوا...،
وعيني حبيبتهُ تُصادفانه عند كل زواية ومكان، وقد رحلت قبل أن يُقبل شفتيها ويحتضن جسدها الغضّ....
وهو يهبط، لا ينسى المرور من عند المخبز، ليشتري رغيفا خبز مشروح، ويقتطع أطرافهما، ويعجن تلك الأطراف... ويرمي كرة العجين، لعلها تلتصق على جبين المُرشح النيابي، صوّر المُرشح سليمان المُر توجد في كل مكان تقريبا على إمتداد الشارع الهابط نحو القمة... على حاوية القمامة وعلى عمدان الكهرباء والهاتف وعلى ماسورة المياه الصدئة والمثقوبة أمام منزل المُحافظ السابق...
وعلى مُؤخرة فتاة تسيرُ وتكاد تسقط من إرتفاع حذائها مكتوبٌ: No Crystal ...,
كاد يتعثر من حفرة في الرصيف، وكاد يرتطم بأنف رجل مُتجهم جدًا،
وتعثر من حفرة، ونهض بسرعة، وهو يكتّ ملابسه وينظر بعيون مذعورة نحو كل الجهات، وعندما أدرك بأنه شوهد وهو يتعثر... سار مُسرعًا ولعن مُؤخرة الفتاة وسليمان المُر ومنزل المحافظ السابق...!

وعندما يصلُ إلى القمة بعد هبوطٍ مُرهق وطويل، يتسائل وهو يمسح حبات العرق التي ملأت جبينه: لماذا هبطت...؟
كلّما وصل إلى هُنا يُرهقه هذا التساؤل ولا يجد له جوابا ولم يبحث عن جواب أصلا... كانت تلك اللماذا كأنها تحية للقمة... للقمة المُزدحمة باللاشيء، ففيها مكاتب ومقاهي ومطاعم ومحلات بيع ملابس وما إلى ذلك، والناس هُنا يزدادون حتى يفيضُ المكان بهم...
ولكن كل شيء في عينيه يبدو غريبًا أو كحلم... كشيء ليس حقيقي، ككابوس مُزعج يعيشه بالتفصيل،
لماذا لا يُغادر... وأصلًا لماذا في كل يوم يهبط إلى هُنا؟؟
ثمة شيء ما يربطهُ في هذا المكان، شيءٌ ما هُنا يُناديه ويبكيه... وهو لا يحتمل بُكاء الأحبة... نعم هو يحب هذا المكان جدًا، ولكن المكان تغيّر لم يعد كما كان، مُحبًا شغوفًا... صارَ باردًا وتغيّر كثيرًا، ولكن... لماذا يبكي ويُنادي؟؟!!

وبعد القمة،
ماذا بعد؟ ليس اللاشيء طبعًا، ربما القمةُ بداية...!
السوقُ مُزدحم، والأصوات تحجب حتى الرؤية، والإضاءةُ ساطعة... والليل ليس موجودٌ هُنا، الليلُ بعيدٌ جدًا....
هُنا إستمرارٌ للنهار، هُنا شموسٌ مُزيفة وكثيرة!
الأرصفة تعجُّ بالعابرين والشوارع تزدحم بقليل من السيارات وعابرين وباعة مُتجولين...!
ولا يعلم لماذا هو هُنا الآن؟ لماذا جاء إلى هذا المكان الموبوء بالناس...؟ ضجيجٌ فظيع ووضوحٌ ساطع، وكلُّ الأجساد تتحاشى شيء ما، والوجوه واجمةٌ مُكفهرة...!
بدأ الهروب من أعلى الرصيف نحو مُجمع الباصات، عليه أن يجتاز هذه الحواجز البشرية، دون أن يتلوّث أو يصطدم بها... هذه الحواجز مُتنافرة ومُتشابهة جدًا،

وفي الباص عالمٌ خاص، في كل باص لا يُغادر المُجمّع إلا عندما يمتلأ وأحيانًا يقفُ أربعة أو خمسة من الذكور طبعاً ونادرًا ما يكون عدد الواقفون كعدد الجالسين... في كل صباح عالم وحياة تبدأ عند الإنطلاق من المُجمّع نحو نهاية "الخط"، يقفُ الباص كثيرًا، ينزلُ الركاب ويصعد آخرون، تتبدل الهيئات الجالسة وثمة ثابتون... الثابتون هم النازلون في آخر الخط،
الطريقُ طويل، وصاحبنا جالسٌ في آخر مقعد بجانب النافذة... ينظر للمدى البعيد، الخارجُ يتحرك أم الباص؟ مَن الذي يمضي الوقت أم الجسد...؟
كان مُرهقًا جدًا، ويشعر بأنه يكاد يختنق يودُّ لو يبكي أو يصرخ أو يحتضن الجالس بجانبه أو يُحطّم وجههُ... والباصُ يُسرعُ على الطريق الخارجي نحو القُرى البعيدة، وبالرغم من الجو الخانق هُنا، إلا أن نسمة هواء باردة تتسلل من النوافذ نصف المُغلقة، النسمة تُداعب الوجوه وتغسلُ عنها الإرهاق وتدعوها للإغفاء...
وصوت الراديو بعيد... حزينٌ ومُرتبك، وللصمت هُنا ضجيجٌ و... للصمت رائحة أحيانًا مُنتنة،
وأصواتٌ تهمس و"الكنترول" يقطعُ الصمت بصوته العالي: "حدا نازل على مثلث السعادة..." وبعد الوصول للقرى تبدأ عمليات الإنزال والصعود... ويُنادي الكنترول:"يا شب بالله قوم قعدلنا هالصبية..."،
ويقوم الشب لتجلس الصبية، وتنزل الصبية وينزل الشب... وصاحبنا غارقٌ في عالمه،
ويصل إلى نهاية الخط، ويُناديه الكنترول بوجه ساخر (هكذا يبدو في عيني صاحبنا):"وين نازل شب...؟"
"هون... هون... نزّل..."
وينزل... ويُلتفُّ الباص، ويُسرع كأنهُ يهرب... إلى أين يهرب؟ ولماذا كُلُّ هذا الإسراع؟؟
.... ماذا تقرأ؟
-اقرأ الوجوه... الوجوه تتحدث... تُخبر... تبكي الملامح وتضحك العيون مثلًا.. الوجوه يا صديقي مرآة حياة صاحبها... وجوه الأطفال والمُراهقين والفتيات والنساء والرجال وكبار السن... لو أنك تقرأ الوجوه لعرفت الكثير، ولأدركت حال أصحابها، التجاعيدُ مثلاً على وجوه كبار السن... دليلُ تشوهات وكأنها ندوب باقية من مُجريات الحياة، مما حدث خلال سنوات العُمر، منذ نعومة الطفولة للخشونة التالية... للخشونة بفعل العامل الخارجي والداخلي، والتي تحدث بشكل تدريجي بطيء وسريع في نفس الوقت...!

لم يأتي بعد،

.... يومُ جُمعة، التاسع من شباط/فبراير، صباحًا وفي تمام الساعة التاسعة، يبثُ التلفاز بيان قوى التغيير والثورة،
خلال الليلة الماضية، بدأت ثورة إجتثاث... بلا إحتجاجات وتطورات بطيئة للأحداث، خلال ساعات الليل المُتأخر "تمّ إسقاط النظام"... دبابات تجوبُ العاصمة ومنع تجوّل، وإعتقال رموز النظام ومنع كلّ مَن له علاقة بالحكم خلال العقود الماضية من السفر،
البيان مُقتضب، ولم يتجاوز العشرة دقائق... وأثناء إلقاء البيان من قِبل أحد قيادات الثورة، ظهر خبر عاجل عن تبادل لإطلاق النار قُرب قصور العائلة المالكة... العائلة المالكة قبل ساعات!،
ذلك يومٌ مشهود، يومُ جمعة لن يتكرر...
تحوّل الوطن لمكان مهجور، وكل شيء كان كئيبًا خائفًا، وكل الوجوه تترقب بقلق، وتتهامس الألسن عن الكثير والكثير...
وفي مكان ما، كان ذلك الصباح الباكر مُميز لعائلة ما، ففي حدود الساعة الثامنة والنصف، نُقل الشاب ك للمُستشفى لأنه وُجد "مَرميًا" بجانب منزل عائلته...
هو شاب عمره واحد وعشرين عامًا، ولا يُعاني من أيّ عوارض لأمراض أو إعتلالات نفسية، بل كان في تلك الأيام مَرحًا على غير العادة... وفي ليلة ما قبل ذلك الصباح من تلك الجمعة، كان قد خرج من المنزل للقاء أحد أصدقائه وأمضى وقته جالسًا وذلك الرفيق.. وعندما عاد للمنزل بعد منتصف الليل وقد قَرر النوم "فوق المنزل" ولأن الجو بارد جدًا في هذا الشهر من السنة قَرر أن يرتدي أثقل ثيابه ويُجهز فراش ببطانيتين ولحاف وينام في غرفة الدرج لا يعلم إلا الله لماذا... ونام في حدود الساعة الثالثة والنصف فجرًا، ولا يدري كيف ذهب ورمى بنفسه من فوق المنزل فور إستيقاظه!،
والغريب في الأمر ولله الحمد طبعاً هو أنه لم يُصب الا بخدوش في وجهه وظهره، وفي نفس اليوم كان يجلس في المستشفى ويبتسم للقادمين لزيارته...!
يبتسم ببلاهة وبملامح تَشي بعدم الفهم، والتلفاز المُعلّق على الجدار يُظهر أخبار عاجلة عن حدث جَلل هزّ الوطن بالأمس،
ينتبه للتلفاز ويكاد لا يرى سوى مشهد مُشوش لدبابات تجوبُ الشوارع ورجل أنيق يقف أمام منصة ويتحدث عن تغيير سياسي تمَّ وإسقاط لنظام فاشل ورجعي وتَبعي... والوجوه من حوله تتكلم وتتكلم، ولساعات وهو مُستسلم ويشعر بعجز يستولي عليه شيئًا فشيئًا... ويأتي الليل ليهدأ كل شيء،


كان لا يفهم ذلك الشعور الغامض الذي يعتريه كلّما وجد نفسهُ في مكان مُزدحم بالناس ومُمتلئ بالضجيج...
وأكتبُ "وجد نفسه" لأنه بالفعل وكأنه كان فاقدًا للإرادة قبل الذهاب لهكذا أماكن، مما يجعلهُ وهو هُناك وكأن وعيهُ عاد إليه فجأة "مُضطرب... مش طبيعي"!
ويعودُ لشقته، ويُحاول "الفهم"... فهم كل الذي جرى ويجري ويضيقُ ذرعًا بنفسه ويتمنى لو أنه شيءٌ غير حي!
ها هو يجلس فوق سريره والليل مُطبق في الخارج والساعةُ لم تتجاوز العاشرة مساءً، يجلس وتلتهمه الأفكار وتمضغه ولا تبتلعه... إنه يرى جوف الأفكار مُظلمًا جدًا، ويمتلأ بالخوف... الخوف من اللاشيء الذي يُحاصره ويستنزفهُ تمامًا والـ"لماذا"؟ تلّحُ عليه!
وبدأ ينظر لنفسه، يراهُ كيف تغيّر خلال الأيام الماضية وكيف ضاع وفقد الرغبة في كل شيء إلا... لا يدري!
منذُ ذلك الصباح الذي كسر فيه روتينهُ اليوميّ، منذ أن غادر الشقة للامكان بدلًا من الذهاب إلى العمل... منذُ أن جاء إلى هذه المدينة وهو يُصارع... ويُقاتل... ويُعاني من أشياء لا يُدركها ولا يَعيها...!
والآن يرى بوضوح، ويضيعُ في الماضي في مسيرة حياته لما قبل عام... قبل المجيء إلى هذه المدينة، حياته الخاليةُ الآن من أيّ معنى... إذ ما معنى "مُشكلات الماضي" أمام هذا الحاضر الـ...
ومضى الليلُ بطيئًا... مضى والثقلُ الذي يجثمُ فوق صاحبنا يتراوح في وزنه... فمرةً يبدو كجبل ومرةً كنسمة هواء، وحاول النوم مرارًا ولم يستطيعهُ... وضلّ مُؤرقًا من حُمّى التفكير والإرهاق والقَلق... ونام أخيرًا كأنه يموت...!
تمت، الخميس 2018/8/22




الأربعاء، 21 أغسطس 2019

بطل من هذا الزمان...

ميخائيل ليرمنتوف(1814-1841)

"ألا ليت الناس يبذلون مزيدًا من الجهد في التفكير، إذن لأدركوا أنّ الحياة لا تستحق أن نُعنىٰ بها كل هذه العناية... 
إنّ مَن سيُتاح له، كما أُتيح لي، أن يجتاز الجبال المنعزلة، وأن يتأمّل مناظرها الساحرة طويلًا طويلًا، ىأن يتنشّق هواء الفجاج المنعش في نهم، سيفهم من غير شك رغبتي هذه في الحديث عن تلك المشاهد الخلّابة وفي وصفها والكلام عنها... 
إنّي لأعترف بأنّ هذا الشعور شعور طفل، ولكنّ الإنسان حين يبتعد عن المواضعات الاجتماعية، ويقترب من الطبيعة يغدو طفلًا رغم أنفه. فالنفس تتحرّر من المعاني التي اكتسبتها، وتعود إلى ما كانت عليه من قبل، وما قد تصير إليه يومًا ما... 
فإنّ ذكرى الحزن أو الفرح لتترجع في نفسي ترجعاً أليماً، وتخرج منها دائماً نفس الأصوات . . . هكذا شاءت الأقدار أن أكون. لا أنسى شئياً، لا أنسى شيئاً... "
تلك إقتباسات من رواية "بطلٌ من هذا الزمان" للكاتب الروسي ميخائيل ليرمنتوف(1814-1841)، الرواية التي قال كاتبها عن بطلها بأنه تجسيد لكل ما يُعاني منه شباب العصر من رذائل في أوج تفاعلاتها، الرواية التي تتناول تفاصيل من حياة "بتشورين" وتبدأ بالفصل الأول (بيلا) وتنتهي بالجبري... وتحتوي على فصل (يوميات بتشورين) يوميات لبطل ذلك الزمان...
ترجم الرواية الأديب السوري سامي الدروبي وله فضل أكيد في روعة الصياغة والأسلوب، والرواية التي قرأتها في أقلَّ من عام مرتين، تأخذ القارئ لنفسية البطل الرئيسي(بتشورين).. بتشورينٌ شابٌ وضابط روسيّ وجد نفسه في بلاد القوقاز، وكان هناك كما منذ لا نعلم متى، يُعاني من إنطفاء في الرغبة ويعيش في لامُبالاة رهيبة... فهو لا يستمتع في حياته أو لا يستطيع ذلك، ويعيشُ أيامهُ ضجرًا لا مسؤولًا، ويُعاني من فراغ وجداني ضاع فيه وتاه... إلى أن ينتهي ذلك الشاب بموت غامض وهو عائدٌ من أو ذاهبٌ إلى بلاد فارس، 
الحكاية ليست مُجرد تفاصيل مُملة، بل تجسيد لمُعاناة سيكولوجية وحالة إجتماعية، عانى منها الشباب الروسي في فترة حكم القيصر نيقولاي الأول، 
وليرمنتوف في هذه الرواية جسّد الواقع، وربما ليرمنتوف كان كبطله... ليرمنتوف الشاعر الذي وُلد في الرابع عشر من أكتوبر عام 1814، وكتب الشعر في سن مُبكرة وكان إستمرارًا لإبداع الشاعر بوشكين الذي قضى نحبه في مُبارزة وهو في الثلاثين من عمره... وكذا كان مصيرُ بطلنا ليرمنتوف، والذي أبدع في الشعر كدواوين الشاعر والشيطان وغيرها، ولم يكتب في الرواية إلا "بطل من هذا الزمان"، ولم يستمر... لم يعيش ليكتب ويُبدع المزيد، ففي السابع والعشرين من يوليو عام 1841 مات بمبارزة مع صديق... وموت المبارزة هو كخسارة مُقامرة بحياة، ورحل تاركًا وراءه بطل من هذا الزمان وبضعة أشعار، بتشورين بطل ليرمنتوف وبطل ذلك الزمان وربما في كل زمان ثمة أبطال كبتشورين، أبطال عاشوا وماتوا وهم "أحرار"... أبطال رفضوا الواقع المُمل والمكرور والذي يمتلأ بالسطحية والتقليد والجُبن، وهل بتشورين بطل بالفعل أم أنه مُجرد إنسان مُعتل إجتماعيًا ونفسيًا؟ ومن البطل وكيف تكون البطولة؟ والإنسان مُعرض لأن يكون تحت رحمة حكم إستبدادي ومجتمع مليء بكل أنواع الرذائل والعُهر والعبودية التي تستتر تحت عباءة الفضيلة والأخلاق والشرف! 






الثلاثاء، 20 أغسطس 2019

إعزف لي... نشازًا

إعزف لي الموسيقى يا رفيق، ودعني والنجومُ أمامي ثابتات والقمرُ شرقيّنا جاء مُتأخرًا،
إعزف لي ولا تُغني لا تقلّ شيئًا... إعزف ودعني والنجوم... والليلُ والضوء الشحيح من مصباح بعيد، يُنير المكان، ولكن المكان مُعتم وأرى أُصص الأزهار البعيدة، 
إعزف لي يا رفيق... واللعنةُ على كل شيء، وعلينا لعنة نحن الجالسون هُنا، 
إعزف لي نشازًا... لا تُحاول إتقان اللحن، وأنا لن أتحدث بما يجولُ في نفسي... لن أقول لك بأني "حزينٌ جدًا"! لذلك إعزف ولا تُبالي.. لا تُبالي بكل شيء... 
***
تريّث قليلًا... وأخبرني عنك، 
يا رفيق لن ينالوا من جوهرك ولن يلوّنوك بألوانهم الكريهة، صدّقني أعزُّ ما تملك جوهرك لذلك، دعهم وأحفظ جوهرك، 
إحمي تلك القطعة المخفية منك، إحمها وراعها ودافع عنها، ومُتّ دونها... أنت شهيد، شهيدٌ في زمن قلّ فيه الشهداء وصار الموت عادةً إجتماعية سخيفة،
سيرحلون تباعًا ويدعوك وأنت... وستذهب باحثًا عنك الذي ضاع أو أضعتهُ، في تماهيك مع الخارج، ورحت تبحث في متاهات، وبعد بحث مُرهق وجدتَ بعضك، وفقدت مُعظمك، وبتَّ أجزاء قليلة يبدو عليها الإلتصاق الجديد ومليء بالثغرات... مليء بالفراغات، وتؤلمك تلك الفراغات جدًا، وتؤلمك أكثر مشاهد تراها من بعيد... تراها بشكل جديد، وترى كمّ تغيّرت دون أن تعلم!،
إعزف لي نشازًا جديدًا، لا... لا تُحاول تجميل العزف أنقر الأوتار بلا نظام بلا ترتيب، ودعني أخبرك بصمت، إقرأ من صمتي كلماتي: لا يعنيني الخارج، في الخارج "لا حياةٌ" مُستمرة، في الخارج تكرار مُستمر ومُمل... وعيون زائغة وقسوة مريرة، وتباهي باللاشيء...
في الخارج خراء كثير، وخواء كبير، وأنا يا صديقي ملعونٌ بالتركيز والتحليل وتساؤل مُلّح حول الجدوى والقيمة والغاية وماذا بعد؟
لا تتوقف عن العزف، ودع صمتنا يتحدث عن: هذا الليل الطويل والمُعتم والبدر الخجول والنجوم البعيدات... عن وطن نكرهه بقدر عشقنا لهُ، عن أُناسٍ رحلوا وتركونا نجترّ الذكريات البعيدة ونُلامس بقاياهم... كم نحنُ حمقى يا رفيق؟ 
ففي عالمنا هذا، الويلُ للمُستيقظ للذي يَعي افعالهُ ويُدرك الواقع... "واقعٌ" واقعنا يا رفيق، ولكننا نأبى الإعتراف والتسليم بالأمر الواقع...! 
نعيشُ أوهامًا... وهل لنا سلوى سوى الوهم اللذيذ، وعذابٌ هو الإستيقاظ من وهمٍ لذيذ...!
لا تعنيني مخاوفهم وعُقدهم، وهُم قطيعٌ من الحمقى والمُغفلين والمُدّعين... وقلوبهم تنبضُ بالموت، وعيونهم لا تتوقف أمام وردة أو مشهد غروب أو شروق، عيونهم تبحثُ عن شيء ما ليس موجود، وعقولهم مُمتلئة بالفراغ والسُخف والأحكام المُسبقة والصور النمطية... ويخافون القُبل والحُب والحُضن والله والغد والأمس وبعد قليل... يخافون من كل شيء، ويموتون ألف مرة، ويعيشون كثيرًا، هل الملل يعرفهم؟ أم أنهم يهربون منه دائمًا ويجدونهُ في كل شيء، لذلك تجدهم نوّامون ويكرهون الجلوس والمشي وحدهم، هل انا أكرههم؟ انا أكرههم كقطيع ويُحزونني أفرادًا... ولا يعنيني أمرهم! 






أزمة وطن 3(تربية وتعليم)

أزمة الفرد هي صورة مُصّغرة لأزمة الوطن، الفرد الذي يُعاني في مراحل حياته المُختلفة من شتّى أنواع الأزمات (النفسية، الاقتصادية، الفكرية...) هو والأفراد الآخرين (المأزومين بالضرورة) هُم الوطن...
وللفرد في بلادنا وضع يستحق الدراسة والتحليل، وهو الذي يعيش في واقع مليء... بالفراغ والبطالة وإنعدام الأمن المجتمعي والوظيفي وهشاشة الفِكر وفُقدان الشغف والرغبة وتفشي العصبية والمادية والتنافس المُضني ومواكبة التكنولوجيا الحديثة مما يُؤدي للإنعزال الاجتماعي وتحوّل الفرد لشخص إفتراضي موسوس بالمثالية ونظرة الآخرين الإفتراضيين... الخ
يُولد الفرد ليجد نفسهُ في أسرة تتوقع منه الكثير ويفقتد للرعاية المعنوية، فمسؤولية الأبوين تتعلق بالماديات(التغذية... اللباس والمصروف...الخ)، ويكبر الصغير مُحاولًا إرضاء توقعات الوالدين مُنافسًا أقرانه في أن يكون أفضلهم وأكثرهم نجاحًا وأحسنهم تربية وأخلاق... وتنافس الصغار هو تنافس كبار، فالأب والأم يزرعون في وجدان صغيرهم الغيرة والحَسد وحتى البغضاء والكراهية... ولستُ هُنا مُبالغًا، ولا أقول بعدم وجود تربية جيدة... ولكن ويا للأسف ومع أن البيوت أسرار فنحن نلمس هذا الواقع ونتحسسهُ في حياتنا اليومية مع وجود إختلافات ثانوية، أما بشكل عام فالتربية الأسرية لدينا هي جذور أزمتنا الوطنية، والأزمة موجودة بل وظاهرة بقوّة والسبب ربما ما ذكرته بشكل سطحي قبل قليل،
ومن المدرسة تبدأ مرحلة جديدة من تشكيل الطفل وصنعهُ، المدرسة الحكومية التي يُمارس فيها الأساتذة خبراتهم العلمية التي أكتسبوها من تعليم جامعي سيء بشكل عام أيضاً...
المناهج الدراسية تُعزز روح التنافسية بين الأقران في حيازة المركز الأول والعلامات المُرتفعة، والجُهد يتمحور في حفظ الدروس وحلّ الواجبات المدرسية... حفظ الكلمات وإفراغها في ورق الامتحانات وإنتظار النتيجة النهائية المُرتفعة وإلا فالطالب قصّر في الحفظ والتركيز... ويا له من تقصير، في أحسن الأحوال يتم توبيخهُ وزجرة وهُناك من يُعاقب الطالب الطفل بعقوبات قاسية وعنيفة، وكل هذا لأن ابن فلان "أشطر" وإبن علّان "يفهم وذكي.."!،
العملية التربوية والتعليمية لدينا تُعاني من حالة موت سريري، فالمناهج تلقينية ومُملة ومليئة بالحشو الفارغ، والحصة الدراسية غالبًا ما تكون أشبه بسجن مُؤقت والفرج عندما يرن الجرس..
مواد دراسية تتكرر في مراحل المدرسة المختلفة، والإمتياز لمن يحفظ أكثر، وتمتد الأزمة للدراسة العُليا؛ ولنأخذ مرحلة البكالوريوس على سبيل المثال، ففي هذه المرحلة التي تلي المدرسة وضجرها القاتل، والتي تبدأ عند نهاية "التوجيهي" وهو حالة طوارئ وضغط نفسي وعَصبي يعانيها الطالب خلال عام، وتُحدد أهليّته في دخول الجامعة أم لا... وتخضع لسياسة وزارة التربية وتعاملها مع هذه السنة بين التشديد والتراخي، في مرحلة البكالوريوس والتي قد يدخلها الطالب وفق خيارات الاهل وتقديره في التوجيهي، ليدرس تخصص ما...
وما بين الرغبة الذاتية ورغبة العائلة والمجتمع أحيانًا، يجد الطالب نفسه في ذات الدائرة، ولكنه الآن في دائرة أوسع وأضيق... كيف؟
الجامعات تحولنّ لشركات ربحية، والقبول الجامعي بنوعيه التنافسي والموازي يُحتّم على الطالب أن يختار تخصصه وفق المُعدل والقدرة المادية ويا لحسن الحظ لو انه يستطيع الدراسة بمنحة أو "مكرمة"!،
وفي الجامعة يتحول الأستاذ لدكتور، ويبدأ التميّز وقطع الساعات بجهد الحفظ والتركيز بما يُلقنه الدكتور في كل محاضرة، والتنافس في سرعة التخرج وقطع الساعات... ويعيش الطالب قَلق البطالة المُستقبلية مع القلق الآنيّ من مصروفاته اليومية وتماهيه مع الطلاب والرغبة المُلحة في إثبات الذات ومواجهة مزاجيات الأساتذة الجامعيين ونظرتهم الدونية للطالب،
الطالب الذي يفتقد في حياته لمعنى جوهري غير مادي، فكل ما حوله مادي وسطحي، والتحزبات العشائرية وعقدة الجنس الآخر وإستبداد عمادات الشؤون الطلابية وقمع أي فكر جديد أو مُعارض للسلطة، وتفشّي المصالح الشخصية والتمحور حول الأنا وفقدان الذاتية والثقة بالنفس، كلها ظواهر حية تُشكل أزمة الفرد/الوطن تعليميًا... نعم أنا هُنا مرآة تعكس قُبح، وهذا القُبح صار عاديًا للأسف، ولستُ هنا سوى مرآة تعكس الظاهر وما خفي أعظم، الأزمة موجودة وحريٌ بنا مواجهتها بدلًا من إنكارها أو التقليل من شأنها...

السبت، 17 أغسطس 2019

أزمة وطن2... أشجان صباحية



وأجلسُ والهشاشةُ تملأني، وأحسّها تنسربُ مني تُبلل مقعدي، وعواطفي تجيشُ وتضطرب... في هذا الصباح الآبيّ، وكلُّ صباح أشعرُ بروحي نشيطة... غاضبة... حزينة... تنتشي فرحًا وهي تذهبُ بي نحو أراضٍ شهدت بطولة ما... تضحية ما... إنتصارٌ ما... وأنظرُ في عينيّ حبيبتي البعيدة، أرى في عينيها كلامًا لا تقوله... ربما هي خجلى وأنا أحمقٌ في الحب،
هذا الصباح يُشبهك... يُشبه عينيك عندما تضحكين والخجل يرتسم على مُحياك،
لماذا الآن... أشتاقُ وأرغب بإحتضانك وتقبيل وجنتيك الحارتان، لماذا تبدين وكأنك ترحلين وتودعين كإنهزام... لماذا وأنا مفتونٌ بالنصر، برايات النصر... بجنوب لبنان ورايات حزب الله وصوت الرصاص وإندحار المُحتل، بأسماء الأبطال، كسناء محيدلي ووجدي الصايغ ودلال المغربي ولولا إلياس...
"وحدن بيبقوا..." نعم وحدهم... وحدهم أقدموا وتركونا لحياة مليئةٌ بالخُذلان والخوف والهزيمة،
ووطني يا حبيبتي مسروق، وطني الكبيرُ مسروق، وأنا لا أريد الذُل، كما لا أحتملُ حزنكِ وخوفكِ...
وطني، يا وطن الناهضين من الرماد، يا ليل المُحتل الغاصب، يا وطن باعوك وثملوا من أثمانك، اللعنةُ عليهم في هذا الصباح وفي كل صباح...!

حكومة تتلو حكومة، ونهج ثابت ومُتغيّر، ثابت: نهج الإستقراض وأخذ المنح، مُتغيّر في الشخوص فقط!
حكومة من نظام كامل قائم على "اللاوضوح" وعلى "البركة"...!
حلفائنا، من يمدون لنا يد العون، ويُملون علينا سياستنا الداخلية قبل الخارجية!
تأمر أمريكا ونُطيع، ويأمرنا مشايخ الخليج ونقول: حاضرين، ويُملي علينا صندوق النقد الدولي ولا نملك سوى الطاعة!
أيُّ شرعية يمتلكها نظامنا السياسي، وهو نظام شمولي تَبعيّ، ليس واضح في توجهاته السياسية والاقتصادية... 
كأن تعيش عالةً على من حولك،
 ما أسمك؟ من أنت؟ أنت عالةً وعبئٌ ثقيل!

حكومات بإرادات ملكية تصفع أيّ إرادة شعبية، ومجلس أمة نصفهُ مُعيّن ونصفهُ يُنتخب بقانون إنتخابي فاشل، ومجتمع عشائري مُتخلف وعُنصري، ووطن بات فُندقًا وخندق للإيواء...!
وطنٌ أصبح بديلًا، للذين تم إحتلال وطنهم وكإمتداد للرضوخ في وجه الإمبريالية الصهيونية، وُقعت مُعاهدة في بنودها تقرأ سطور الإستسلام والذُل!
ونظام لا يخجل من "نفاقه وجُبنه الدولي" ويصفون هذا النفاق والجُبن بكل وقاحة ب"الدبلوماسية"... هذا النظام يستقبل اللاجئين السوريين وهو الذي ساهم بشكل خفي في دعم الجماعات الإرهابية التي تفتك في بُنية الدولة السورية وتُقاتل الجيش السوري! 
وفي كل تصريح للملك يشكو من الوضع الاقتصادي ويستعطي الدعم، الدعم الذي ينعكس في مديونية تتضخم في كل عام، وفي بلد تحوّل لسجن كبير وشباب يائس وخائف من مُستقبل مجهول ومُرعب...! 
شباب تم تجهيله وحَشو رأسهُ بوطنيات تتجسد في صور القائد ونشيد ملكي..! 
شباب ضائع وتائه وفارغ، شباب لا مُنتمي ويعيشُ بوهم الوطنية... الوطنية التي لا تتجاوز العلم والقائد وخريطة وطن رُسمت بيدي سايكس وبيكو الملعونين... ملعونٌ مَن باع الوطن ومَن خان قوميته وتاريخه، ملعونٌ مَن زوّر الحقيقة وباعَ الوهم، مَن يملأ خزائنه بثمن الكرامة والإستقلال...! 
أنا يا وطني حائرٌ وحزين، أنا يا وطني لم أبلغ بعدُ سن الرابعة والعشرين، لكنني يائسٌ ككهل إنحنت رقبته وتساقطت أسنانه،
ولكنني أملك أرادة الموت، لا أخاف الموت... لذلك سأحيا حُرًا... واليأسُ أعرفُ جيدًا كيف أقتله... أنا يا وطني الكبير ثائر وسأموتُ كذلك، 

الجمعة، 16 أغسطس 2019

نص مُتطرف...

في ليلة واحدة ينتابني ألف شعور، وتستقيظ في رأسي ذكرياتي البعيدة والقريبة، وأبدأ مُحاكمتي لذاتي، أُدينها... أوبخها... ألعنها... لكنني أنسى لحظاتي الجميلة، لا تحضرني سعادتي القديمة... كأن الأشياء الرائعة التي تحدث تختفي، وراء القبح الذي حدث...

أنا مُتطرف... في كل أفعالي مُتطرف،



خطيئتي هي أنني أشعر جيدًا... أشعر بشكل ممتاز، وأُعاني من تكرار خطيئة الشعور، تكرار مُحاولة تجميل القبيح،
لا أملك أداة تجميل... لا أحمل رأسًا مليئًا بالتُرّهات والأوهام والسخافات... لا أملك خبرة الوحش أو المُهان، ولا أعرف سوى "المثاليات النظرية" التي امتلأ رأسي بها...
والواقع... الواقعُ كريهٌ وموبوء، وأنا لستُ أستسيغُ الركون والتسليم... لا أستسلم، دائماً أبحثُ عن نصر ما... عن شيء ما،
شيء ما، يُحزنني ويُسعدني، شيءٌ ما يدعوني للأسف للغضب للثورة وللإنسحاب والهرب... شيء ما يبكي في داخلي وفجأة يضحك... يصرخ... يُنادي ويُدينني ويلعنني و... هو الشيء لطالما كان معي، وفي أوقات مُحددة يبدو أوضح... لكنني لا أراه ولا ألمسه،
شيء ما في داخلي...
لا أفهمهُ رغم محاولاتي الجاهدة، شيء ما في داخلي يرفضُ كل شيء، ويقول لي: لماذا...؟؟
شيء ما، يُحاصرني... يستنزفُ قواي حتى آخر رمق، وعند الرمق الأخير ينهزم... يتراجع...!
أعرفني، لطالما واجهتُ أشباح... ولم أنهزم، لأنني الآن أكتب... وغدًا سأكتب، إلى آخر رمق سأكتب، سيأتي يوم، أتركُ فيه قلمي، وأغضب بيدي... بسلاحي...!
أغضب لأنني لا أحتملُ هذا الكم من الإنهزام والإستغلال والنهب والهدر... لا أحتملُ... موت الورود وإقتلاع الشجر، وخنق الوطن وسجن الطير،
لا أحتمل هذه الإنسانية الطاغية،

وحدي مع الليل...
وأتذكر، لكم أتذكر وأتذكر؟!
وتُصرُّ ذكرى بعيدة وقريبة على الوضوح... على المجيء لحاضري الآن، ذكرى حماقة إرتكبتها وكأنني أرتكبها الآن، لا أندم إنما أشمئز... وأتمنى لو أنني.... لا أعلم، الحماقات دروس وعُقد كندبات ترتسم علينا، وتبقى كعلامات تُذّكرنا... تُدمينا مُجددًا، هل يُمكن للإنسان أن يتصالح مع الماضي، ومع كل الذي حدث...؟!


أزمة وطن 1

خُطبة الجُمعة كعادة إجتماعية!

الصلاة بجوهرها هي ركن أساسي من أركان الدين الإسلامي، والمسجد هو بيت "فخم" تُؤدى فيه الصلاة؛ الصلوات المفروضة(الفجر، الظهر، العصر، المغرب، العشاء) والسُنن والنوافل، وصلاة الجُمعة...
يومُ الجمعة، يوم إجازة وعيد إسبوعي للمُسلمين، وفي هذا اليوم وفي صلاة الظهر تُقام صلاة الجُمعة وهي صلاة يُنادى لها بأذانين، ويصعد الإمام وهو الخطيب بعد الأذان الأول ويُسلم على المُصلين من خلال الميكرفون الذي يبثُ الخُطبة للناس في الخارج للنساء في بيوتهن وللذين لم يستطيعوا الحضور للصلاة لعذر قاهر...
الخُطبة قسمين وتُختتم بالدعاء وصلاة ركعتين يجهرُ بهما الإمام...
لن أتناول الخُطبة من منظور فقهي وكيف تطورت وواكبت الحداثة... ومن رأيي هي لم تتطور سوى في الشكليات، وموضوعاتها تتناول ما هو مُكرر ومُمل جدًا، وبالطبع توجد إستثنائات نادرة،
نعم أصبحت عادة وعادة تُفقد العبادة جوهرها، باتت واجب أخلاقي/إجتماعي ثقيل... يصعد الخطيب وترمقهُ العيون الناعسة، وتنتظر الأجساد بفارغ الصبر إنتهاء "الضجيج"، ولو أنك سألت مُعظم الحاضرين ما أبرز ما تناوله الخطيب في كلامه، لصفن وفكّر قبل أن يخبرك الجواب!
قد أظهر كمُعمم لتجربتي وبأنني أحكم على الأمور بسطحية وسذاجة... ولكنني أعتقد بأن هذه العادات الاجتماعية هي التي تُدّعم حالة "الخمول الاجتماعي"... وهي التي جعلت من الناس مُجرد مُتلقين ومُستمعين وخاضعين، ولا يملكون حق المُسائلة والحوار البنّاء، نعم للخطبة خصوصية دينية، لكنها تُؤثر شئنا ذلك أم أبينا في عقول الناس ووعيهم...
وفي حاضرنا معظم الخُطب مثلما أسلفت تتناول موضوعات مكرورة ومُملة وبديهية، وأحيانًا تكون "بهدلة وتوبيخ" للناس على خطاياهم وما يحدث من ذنوب وتجاوزات...الخ
مثلًا يذكر الخطيب بصوت غاضب، بأن لباس النساء وتبرجهنّ من أسباب فساد المُجتمعات، ولا يتناول حقائق وفرضيات إجتماعية بل مجرد كلام عاطفي سطحي... وبأن الابتعاد عن الدين ومظاهر الانحلال الأخلاقي الذي يتمحور حول الاختلاط واللباس غير المُحتشم للنساء مثلاً هو سبب تردي الاقتصاد وحتى هزائمنا على المستوى السياسي... وهذا غيض من فيض ما يتحدث به الخطباء، والبعض يُرجع ذلك للتضييق من الدولة عليهم، فهم "مجبورين" على عدم تخطي الحدود، وهُنا نلمس واقع القمع المُمارس والذي يتم بشكل طبيعي وعادي...!
والدين في جوهره ليس مُجرد شكليات ومظاهر، والله ليس بحاجة مُمارستنا الروتينية للعبادات، ولكن يخطر على بالي سؤال: هل نحنُ نُصلي لله بالفعل؟!
وهل "الله" صار في مُخيلتنا مُجرد ساذج وينخدع بما نفعل؟؟ هل بالفعل نحنُ نعرف خالقنا ونَعي عظمتهُ وجلالته؟؟
وأعود لموضوعي الأساسي بتساؤل بسيط: ما هي شروط الخطيب؟
لماذا لا يتناول مشاكل المجتمع ويُحللها بصورة علمية لا تتعارض مع الخطاب الديني، وفي النهاية يطرح حلول لهذه المشكلة أو تلك... ليس بالضرورة أن يُسهب في الحديث ويستطرد، فقط يتحدث برؤوس الأفكار، ليُحرك ويستفز ذهن المُستمع!
لتكون بالفعل خطبة الجمعة فرصة للتفكر والوعي... ليس ضروريًا أن تصبح جلسة حوارية، لكنها بشكلها الحالي باتت واجب ثقيل ومُزعج، ومجرد عادة قديمة تحولت لروتين إسبوعي... ولا بأس، لتبقى المُقدمة ذاتها ولتنتهي بالدعاء،
 لا أدعو لتغيير بنية الخطبة ولكن الشيء الذي لا يواكب العصر يموت...! 

الأربعاء، 14 أغسطس 2019

أزمة وطن (مُقدمة)

قبل أن أبدأ عليّ أن أوضح بعض الأمور؛ أولها: لستُ هُنا كعالم أو باحث أو مُتخصص، ما سأكتبه هو مُشاهداتي وأرائي الشخصية... ثانيها: لن أستطيع الكتابة بطريقة إحترافية تُراعي "قواعد كتابة المقال" وغير ذلك... لذلك قد تبدو مقالاتي "فوضوية" أو تفتقد للنظام، وهذا بسبب عدم تخصصي وعلمي الكبير في كتابة المقالات ولأنني لا أستطيع الإلتزام بقواعد لا أدري من وضعها... بإختصار أكتب كما أُريد، وكبداية أودُّ أن أبدأ بمُقدمة:
في هذه هذا النص وما سيتبعه من نصوص، لن أتعرض لقضية أو مُشكلة مُحددة، وسأتناول العديد من الأمور المُترابطة، والتي تبدو كأسباب تتضافر لتُنتج أزمة...
أزمة مجتمع... وطن... أوطان... أمة...
 نعم نحنُ كشرق أوسطيين وكأردنيين تحديدًا، نُعاني أزمات كثيرة ومُتشعبة وغارقة في القدم ومُستمرة وتتأزم وتظهر أزمات جديدة، وهذا ما يضعنا أمام واجبنا تجاه... أنفسنا قبل كل شيء، فما هو الوطن؟ وما هي الأمة؟
نحنُ الوطن ونحن الأمة، لستُ هُنا بصدد كتابة كلمات مُنمقة ومُختارة بعناية، ولا أكتب لصحيفة أو موقع... أكتبُ لأنني أشعر بواجبي تجاه وطني وأمتي، ولا سقوف فوقي ولا جُدران تُحاصرني، سأكتبُ ما يُمليه عليّ عقلي وتحضني عليه تجربتي وعلمي القليل...
لستُ مُنظرًا ولا مُحللًا ولا أدّعي المعرفة والفهم، أنا فقط إنسان يغضب... دائماً يغضب من حاله وحال وطنه، ولا يرضى التسليم والقبول ولا يُؤمن بقاعدة "ليش أتّعب رأسي؟"
والكتابة هي نوع من التعبير عن الغضب... عن الرأي المخنوق والمكتوم والمقموع...

في البداية:
من أنا؟ ومن نحنُ؟؟
وهذا الوطن هل وطن فعلًا؟
هل نحنُ مواطنون بالفعل نخضع لدستور "عادل" ويرأسنا رئيس إخترناهُ ونثق برئاسته؟
هل نعرف ونُدرك ونعي ما هو نظامنا السياسيّ ومَن يحكمنا...؟
اليوم وفي الأمس والغد... الملك وديوان المُلك وأجهزة الدولة الأمنية(المخابرات، الجيش...) والمَدنية(المؤسسات والهيئات الحكومية، الجامعات الحكومية، الشركات الحكومية..) مجلس الأمة (النواب، الأعيان)، المجالس البلدية ومجالس المُحافظات... كل تلك الأسماء لا نعرف حقيقتها وما هي صلاحياتها ومن يتحكم بمن ولصالح من؟ نحن ننتخب مجلس النواب ولا نثق به بل ونلعنه... إذن نحن نلعن النظام ككل، نلعن الملك وأجهزة الدولة ومؤسساتها،
الواقع الذي يتمحور حول "الأزمة الاقتصادية" التي نُعاني منها كأردنيين، ونحن ندرك مَن المسؤول عن هذه الأزمة... ببساطة هو النظام من رأسه حتى أخمص قدميه، وللمُطلع بسطحية على تاريخنا السياسي خلال القرن الماضي يُدرك الأسباب التي تضافرت وأنتجت ما نُعانيه اليوم، وسنُعانيه غدًا وبعده بشكل أكبر وأسوأ، لأننا نلمس إنكار وغض طرف عن حلّ الأزمة... بل ونرى إمعانًا في السقوط المُستمر،
"الثورة العربية الكبرى"
تلك التي بدأت حكاية تقسيم الكل وإهدار الموارد والعقول والثروات، وتقديم البلاد للمُستعمر وجعل الشعوب مُجرد أرقام و"رُعاع" من الجهلة والمُتعصبين والمخدوعين والمأزومين والمقهورين...
وهذا لا يعني "أفضلية الدولة العثمانية"، ولا أبالغ إذ اقول بأن الحُكم العثماني وعلى مدى قرون أسس لواقع "الأزمة التي نعيشها اليوم"!
منذ سقوط الخلافة العباسية (آخر حكم عربي لبلاد العرب) بدأت هويتنا تضيع وتُمحى وتُستبدل...
وها نحن اليوم، بلا هوية ولا نعرف مَن نحن ولا نثق بتاريخنا القريب والبعيد وينتابنا شعور جَمعي طاغٍ ومُستبد بأننا خُدعنا وتم سجننا وإخضاعنا وتدمير إرادتنا الحُرة... تلك الإرادة التي لم تُحرك "ثورتنا" ضد الأتراك ولم تتحرك للم أجزائنا في وطن يمتد من ديار بكر لعدن ومن الحدود العراقية- الإيرانية والخليج العربي لضفاف البحر المتوسط والأحمر...
تم التقسيم، وتم نفي زعيم الثورة (الحسين بن علي) الذي ربما خُدع من حلفائه...
فلسطين للصهاينه وسورية الطبيعية تحولت للبنان وسوريا وأردن...
والعراق والخليج تم تقسيمه حسب المشيخات، وهكذا صار الوطن أوطان... ولن أستمر في الخوض بهذا التاريخ وتلك الحقبة السوداء والحزينة،
إلامارة الأردنية صارت مملكة،
مملكة وقعت معاهدة مع المُستعمر،
المُستعمر يُغادر ويبقى... تمضي السنين ونحن مُستَعمرين وراضين، ونضع أنفسنا مُجددًا تحت مقصلة مُستعمر جديد "صندوق النقد والبنك الدولي" ونحنُ بحاجة المانحين والمُقرضين، دول الخليج النفطية والغرب...
في هذه الأيام أرى سنوات الأردن من عام1989 نزولا حتى شهر يونيو عام 1957، عندما حُلّت حكومة سليمان النابلسي (أول وآخر حكومة برلمانية)، بعد ذلك تم خنق العمل السياسي في الأردن وقُمعت الأحزاب وبدأ الحُكم العُرفي ومرت السنون، لنتسائل اليوم: ما هو دور الأحزاب وما هي فائدتها؟ لماذا العشائرية الجهوية و"التسحيجية" أو "الهمجية" هي التي تحكم ويطلب النظام السياسي رضاها؟!
لماذا المديونية تزداد وتتفاقم حالة "الموت السريري للإقتصاد الوطني"؟ لماذا نستورد القمح من امريكا؟ لماذا لم نستخرج النفط والغاز؟ ولماذا لم نستغل مواردنا الطبيعية كالفوسفات والبوتاس...؟ ولماذا ملفات الفساد تُطوى وتُنسى؟ ولماذا تستمر نفس الطبقة الفاسدة والفاقدة للشرعية "أخلاقيًا ومنطقيًا" بالحُكم؟؟

لستُ بطلًا...



 لستُ بطلًا...
ولستُ صبورًا، ولا أحتملُ أتفه الصعاب وأجدني في يومي ضعيفًا... حائرًا... وخائفًا جدًا، أحيانًا أشعرُ بأنني أملك قوة خارقة، وأعي تمامًا ضعفي وقلّة تحمّلي...!
لكنني لستُ راضيًا ولا أستسيغُ الأشياء... لا أرغب في أن أعيش أيامي "غائبًا" وأهربُ مني لأطمئن للضجيج... لعاديّة الأشياء وتكرارها المُمل... والحياةُ مُؤلمة ومليئة بالتحديات التي تحتاج قوة... ربما هي قوة "اللاوعي... الهروب... والرضى والتسليم... وعدم التفكير"!،
لا... لستُ بطلًا أو ضحية أو... شخصٌ يعيشُ أيامهُ حالمًا ومُستغرقًا في روتينه اليوميّ ولا تُلفت إنتباهه... لا يحتار ولا يَقلق، إزاء تناقضات الحياة وجدواها ومعناها وقيمتها!
لن أكون عبدًا لسيّد... لإله... لشيء ما،
لن أكرهني وأبحث عن سلوايّ في مآسي البُؤساء والتعساء... لن أكون مهزومًا وطريدًا ومُستضعف، لا لن أدّعي مثالية زائفة وبطولة خيالية، فأنا أبكي لتفاصيل حزينة تُصادفني أو تتعلقُ بي وأضحك أمام كوميديا الواقع... وأحزن وأفرح لمشاهد الحياة اليومية، وليس الوجود هُنا سوى تساؤلات... 
وأجوبة ضائعة أُحاول إيجادها... وتيهٌ مُستمر... الحياةُ تيه،
والموت... حقيقة ومنارة نستهدي بها.... لعلّ الميناء هُناك حيث الضوء، هل هو ضوء أم خيال؟!
هُنا موجٌ يتلاطم ويضطرب، هُنا سفينٌ لا ندري متى صعدناه ومن الرُبان؟!
هُنا إظلامٌ يبدو أبديّ... وإشراقٌ لا يستمر... يبدو أحيانًا أبديًا أيضاً... لكنه عادةً ينتهي بسرعة!
لكنني هُنا الآن...
والآن أنا بحاجة وهم ما... بحاجة كذبةٌ تُخبرني بأنني سأنجو، وسأصل الميناء وأبقى فيه للأبد، والميناءُ بعيد...!
سطرٌ جديد:
لستُ "مثاليًا" ولا أرتدي تلك القشور والزخارف والألوان الزاهية...
المثاليةُ(أرى بأنها تلك الأفعال والمشاعر وكل شيء غير أصيل.. كل شيء يتم لأرضاء الخارج إجتماعيًا)... هي مرض مُزمن وله درجات أشدّها أن يتحول الإنسان لدُمية لا تملك أيّ إرادة حُرة،
نعم أرتكب الأخطاء والحماقات وأعيها وأبكيها في ظلام ليلي وبعيدًا عن العيون أجلس لأُحاكمني وأُدينني، ولا أنسى عفوي عني وفخري بأنني أعيشُ بشكل حقيقيّ،
أنا أأسف لكل الذي حدث... أحيا أتألم لألم الوجود ومُعاناة الموجودين، وأفرح كثيرا بأشيائي البسيطة وأنتشي لإنتصاراتي وحتى هزائمي لا تهزمني إنما تجعلني أكثر حياةً وشعور ووعي...
أكره التمحور حول الذات وأكره (قليلًا) ما أحسبه خلل إجتماعي أُعاني منه، وأسعد لأنني أعي ذاتي وأعرفني... كم يجهل الإنسانُ ذاته؟
لا أطلب الراحة ولا الطمأنينة... أنا حيٌ لأقلق وأثور وأغضب وأُعيد المُحاولة!
إكتشفت الله والأخلاق والحياة وما زلت أكتشف... أرى الله ولا أخافه... لا أعبده... لا أطلب جنته... لا أهرب من الجحيم، لا أرضى بجحيمي الأرضي لأن الجنة بعد الموت ستكون بيتي الأبديّ... ليس ثمة أبد! اللحظات تتسرب منا، علينا أن لا ننسى الآن... أن لا أعيش مُحتضرين ونموت نادمين على كل شيء!،
في الخارج ألمسُ "اللاحياة" وأتحسسُ برودة الأماكن وضجيجها الحزين وأنينَ الأرض... الأرضُ تبكينا، الأرض حزينةٌ علينا، ونحنُ غافلون... غائبون... ميتون ونُسرع في خطانا نحو اللاشيء... نحو الظلام الدامس والغياب الأبدي!
كم سنبكي أيامنا... ومتى سنعرف بأننا مسروقون وتم إهدارنا حتى النهاية؟؟!!

الأحد، 11 أغسطس 2019

ليلة عيد جديد..

وفي هذه الليلة... الحادي عشر من آب، ليلة العيد...
في صدري حُزنٌ شديد... ليس كالذي أصابني قبل عامين!
قبل عامين كنتُ وحيد ومُتعب لكنني قوي... اليوم أنا ضعيف ولا أفهمني... وبدأت أفقد ثقتي بالجميع حتى بي!
لطالما تسائلت لماذا أنا هكذا؟
أنا مريض... نعم أعترف بأنني مريضٌ بالمثالية والإرتياب والشكّ...!
لا أحتملُ شعوري بأنني مُنتهك أو عاجز أو مُستغفل أو... لا أدري!
أنا في معركة دائمة مع نفسي والآخرين لن يُدركون ذلك طبعاً... ولستُ بحاجة إدراكهم... لستُ بحاجتهم أبدًا، أنا بحاجتي فقط!
سأعدُ نفسي بأنني لن أستسلم، لن أموت باكرًا... لن أدع شعوري بالموت يهزمني، سأهزم الموت... وأضحك أخيرًا،
مُشكلتي هي أنني أتعامل مع الناس بإحترام وتقدير وأدعهم يقتربون ويعبثون لأنهم أحرار وفي النهاية أكتشف بأنهم طُفيليات تُحب العبودية...!
مُشكلتي هي أنني انا بكاملي لستُ إجتماعيًا أكره الناس وأجتماعاتهم وزيفهم المُتقن! 

السبت، 10 أغسطس 2019

العام الأول لغرفتي المهجورة...



الثانية عشر ودقيقة بعد منتصف الليل... أصبحت ودقيقتان... اليوم العاشر من آب/أغسطس، ومرّ عام على إنشائي لهذه المُدونة التي إمتلئت بالـ... بكلماتي وهذياني وغضبي وفَرحي وحُزني وخوفي...
أذكر قبل عام من الآن، لم أنم لأنه كان عليّ أن أذهب لـ"سوق الحلال" فجرًا...
مع ابن عمي لنبيع ونقبض الثمن لأجل تسجيلي بالجامعة، كنت قد إنسحبت من الكلية الجامعية(كلية عجلون) بعد فصل من الدراسة...
كان خيار الإنسحاب خيارًا لابُدَّ منه على الصعيد الشخصي والعائلي... وحدث ما أُريد، تقدمتُ للجامعة الهاشمية لأدرس تخصص الإرشاد النفسي، وانتظرت طويلاً ليتم قبولي ونشر قبولي بالبرنامج الموازي ولحسن الحظ أدرس على حساب منحة عسكرية... وبسبب هذه المنحة أنا مُقيد عن أي نشاط لا يتوافق مع السُلطة،
لستُ بصدد كتابة سيرتي وأحداثي المُملة... لكنني وبعد عام، أنا مُمتنٌ جدًا لكل شيء... لأنني كبرت مع مدونتي وسنكبرُ معًا، لأنني هُنا حُر وأكتبُ ما أُريد، أشكركِ يا غرفتي المهجورة والمليئة بأشيائي الثمينة... المليئة بكلماتي وهذياني وأنا... نعم هي أنا، وأنا الذي كبرتُ في هذا العام كثيراً! 

الثلاثاء، 6 أغسطس 2019

قبل دقيقتين من دخولي في اليوم التاسع عشر من شهر يوليو عام 2019... أشعر بإمتلاء فظيع، أنا مُشبع تمامًا...
ما فائدة الدقيقتين ومعرفتي بأنني اليوم في التاسع عشر من يوليو أو الخمسين من زيفتوليو!

ثمة شيء يُؤلمني دائمًا...
هُناك رغبة بعيدة تُلاحقني وتتشبثُ بي ولا تُفلتني، ولا أستطيع إدراكها... في أعماقي صرخة تضطرب، ودمع لا ينسكب!

وأنا... في هذا المنفى كغريب!
في قريتي... في وطني... بين أحبتي غريب!

وكل شيء فارغ ومغشوش ورماديّ!

الجُدران والأسقف وحتى حوض الشجرة ومقود السيارة... كلها تُشبه الوجوه، فيها بريقٌ خافت وخوف وغش وكذب!

لكنني سأقاوم هذا الزيف...!
لن أدعني في هذه التيه خائفًا يهربُ للأضواء وللأصوات...!
لا أحتمل الزيف الذي يُحيطُ بي، جدران وأسقف واطئة من الزيف... الجُدران كثيرة والاسقف ليست عالية، تكاد ترتطم برأسي... تكاد تسقط فوقي!

***
تُعذبني الأفكار التي تغلي وتصرخ في رأسي...!
تُؤلمني الأحداث والمشاهد والسيناريوهات ووعيي بكل ما يحدث... وعيي لتفاصيل ومُبالغات ذهني المُنهك والمملوء، والناس اللعنة عليهم وعليّ معهم!
وتعلّقي وعاداتي ومخاوفي وآمالي وكل شيء... في هذه الحياة عليك أن تموت فقط لترتاح!
كل شيء كريه....
كل شيء ينتهي بسخافات وغباء، وكل حياتنا فشل وإمعانٌ في الحُمق... ليتني حيوان يعيش في صحراء الربع الخالي أو دب قطبي!، 
**
هل جربت الخطأ؟
هل ذقت طعمه ومرارته... بالمُناسبة له مذاق حلو ولذيذ!

الخطأ هو تناقض بينك وبينك... بين وهمك وحقيقتك...! 
 ليس ثمة حقيقة مُطلقة!
الحقيقة، ما هي؟ وكيف شكلها؟

هل جربت الخوف والقَلق وبأنك مَنسيّ ومتروك؟! 
هل عشت مخاوفك؟ وهل تجرأت بأن تتجاوز دائرتك الضيّقة؟! 
بأن تُنسى وتتحول لغيرك تمامًا...! 
وفجأة تحنُّ لك...!
تستيقظ مخاوفك ويتبدد الهدوء، ويُحاصرك الضجيج وتعبر... ينتهي كل شيء،
 ولم تمت...!
 لم تمت... نجوت، بإعجوبة؟ أم لأن قدرك مكتوب؟ أم لأنك محظوظ؟؟
نجوتْ لأنك... لم تمت! 

واحدٌ من مليارات العقول... العقول التي قد تضطرب لسبب ما...! 
المليارات وأنت... كم أنت لا شيء؟! 
والمليارات... وهم! مُجرد رقم، من أوجد الرقم؟ مَن قَرر بإنه مليار وليس لاناو أو مالار؟!