إسمي رؤى. وهذه كلماتي.. كلماتي القليلة.
قبل ثلاثة أيام دُفنت في قبري، وعمري ثمانية عشر عاماً وثمانية شهور.. وخمسة عشر يوماً.
كُنتُ قد وصلتُ للتو لـ "مُجمع الباصات"، لم أقم بعادتي اليومية، وهي شراء قهوة وحبتيّ شوكولاته، والصعود بباص يُوصلني حيثُ "مُجمع الباصات" الآخر، ومنه أصعد لباص الجامعة.. بل أردت مشي المسافة بين المُجمعيّن على قدميّ وقبل أن اُغادر المُجمع، صدمتني سيارةٌ مُسرعة، جائت من ورائي وارتطمت بجسدي وقذفتني للأعلى لأموت.. قبل إسعافي للمستشفى (القريب)،
وكنت أُفكر (قبل موتي.. أثناء نزولي من الباص وسيري على الطريق) بالامتحان وبأحدهم الذي تجرأت وأعطيتهُ سريّ ليقرأني، ويُعريّني، بل حاولت لأول مرةٍ أن أكون "شُجاعة" لا اخافني، وكان ذلك بالأمس (بعد انتهاء الدوام قبل الغروب بنصف ساعة).
اتفقنا على المُضي قُدماً جنباً إلى جنب، وها أنا أحنث بالاتفاق الذي أُبرم (بيني وبينهُ) قبل ساعاتٍ قليلة، ها أنا ذا أُغادر قبل أن يبدأ أيُّ شيء.. كم أنا جبانه ؟!
كُنت شُجاعة في تنفيذ كل شيء خططتُ له، أرسلت له في ساعةٍ مُتأخرة، ولم أكن من صديقاته، كانت الرسالة "غبيّةً" جدا ! ومع ذلك لم أشعر بالخوف منها او منه.. توقيت الرسالة كان في، 2:43ص.. "مرحبا.. كيفك ؟" وبضعة كلمات سطحيّة فارغة، وقد حذفت في آخر لحظة، كلمات اعتذار عن إزعاج مُحتمل.. لماذا أتحدث عن نفسي وأموري الشخصية الآن ؟ أنا مُحض جثةٍ، لفتاة في زهرة العمر، اختطفها الموت.. وها هو جسدها الجميل، الممشوق يتفسخ ويتحلل تحت التراب، ورائحتي.. أنا ميتة، هل تفهمون ؟
اقرئوني جيداً.. هذا ما بقيّ مني على قيد الحياة.
وفاتي كانت في يوم الخميس، 2018/5/3م.. أنا "فتاة البرزخ"..
(ماتت رؤى قبل عشرة أيام. قبل وفاتها بيوم عرفتها، وأصبحنا صديقيّن، وصاحبيّ مشروع خططا لهُ ولم يتمّ. قدمت لي أوراق تحتوي "كتاباتها السريّة".. كلماتها القليلة حسب وصفها.. كلماتها التي لم تعترف بوجودها لأحد غيري.. كان مشروعنا صفحة على فيسبوك بإسم "كتابات فتاةٍ عربية"، تنشرُ عليها كتاباتها دون خوف او خجل من كلماتها الصريحة.. وأنا لا أقوم سوى بما يتوجب عليّ القيامُ به، إتمام المشروع وبعثُ كلماتها من الورق إلى العالم.. وما زلت أراها تُغادر المكان الذي جلسنا به أنا وهيّ لأول وآخر مرة.. تُغادر المكان وتترك معي جزءً منها، وتمشي بين السائرين نحو البعيد.. كانت الشمس توشكُّ على المغيب، وكنت أرى وجهها الذي تبدّل لونه من الرماديّ القَلق إلى الورديّ الخجول، بعدما إطمئنت لكوني سأقرأ "خرابيشها" مثلما قالت ساخرةً من كونها لم تدخل عالم الكتابةُ بعد..
الراوي 2018/5/13)2017/12/4
الساعة: 10:30م
رأسي يكاد ينفجر، تقيأتُ مرتين منذ وصولي للبيت، لكنني الآن أشعر بالتحسن ولا أرغب في النوم الذي بدأ يُهاجمني ويشلًّ أركاني. لماذا لا أُخبر والديّ بأنني مريضة ؟
*****
11:23م
قبل قليل فرغتُ من قراءة آخر صفحات رواية "كبرت ونسيتُ أن أنسى".. لماذا قرأتها بهذه السرعة ؟ لا لم استعجل نهايتها.. بل كنت أُعيد قراءة صفحاتها مراتٍ عديدة، بدأتُ قرآءتها في الأمس، لماذا تنتهي الأشياء التي نُريدها/نستبطئ نهايتها، بهذه السرعة ؟ كم كانت "فاطمةُ" تُشبهني.. كم من فتيات يُشبهنّ فاطمة بإختلاف التفاصيل والأسماء ؟!
ليلُ الشتاء طويل، وأنا في غرفتي أُفكر.. وأُفكر.. وأكتب..
ليش أكتب ؟ وليش لم أعدّ أستمتع بتصفح مواقع التواصل ؟ بل أصبحتُ لا أحتمل صوت نغمة الإشعارات.. تكّ تك،ّ وكم هي نغمة الماسنجر مُقرفة والواتس آب كذلك. ليش ما أحذف تلك "المُزعجات" من حياتي ؟ لا أستطيع.. حسناً، سأبقى جبانةً لا أملك الّا... وجهٌ مُدور وعينين ذابلتين واتخيل كلما نظرت في المرآة وابتسمت بأنني أملك غمازتيّن..
رائحةُ أقدامي تفوح في الأرجاء (مع أنني غسلّتهما بالصابون أكثر من مرة)، كم مرةً حلفتُ بأنني سأمتنع عن ارتداء الجوارب النايلون ؟ بصراحة رائحتي (كُليّ) مُقرفة.. مُقززة.. أنا بحاجة حمّامٌ ساخن فقط !! والجو صقيع، وجسدي يرتعش من الحُمّى.. وعقلي لا يرغب في النوم..!!
لأعترف بأنني اليوم، ارهقتُ جسدي.. بل عذبته، في الجامعة وحدها مشيت عشرات الكيلو مترات بلا مُبالغة، وفي السوق تتضاعف الكمية، وأستيقظتُ في الصباح مع أذان الفجر.. واوشك اليوم على النهاية وأنا لم أنم.. إذن مرضي معذورٌ ! ليش أستمتع بلفظ "مرضي"؟ وهل أنا مريضةٌ أصلا؟
لأنام الآن واكفّ عن هذه الثرثرة، فغداً عندي دوام.. لماذا لا يمرض الدوام ؟ سأرتدي في الغد جرابات قطن.. صوف.. أذهب حافيةً أحسن لي !! والآن إلى النوم..
***
2017/12/5
الساعة: 8:56ص.
لم أعد أحتمل ثرثراتهنّ، وابتساماتهنّ. هديلٌ هي واحدة من "الشياطين" لا أشك في ذلك إطلاقاً، وجهها جميل.. عيناها واسعتان.. وانفها مُتقن التشكيل.. وجسدها رائعٌ ومُتناسق، لكنها.. لا تُطاق أبداً، لو أنني أستطيع تقييدها، وربط حبة بصل على فمها، وجلدها بخيزران او صفعها كل حين..!! لو أنني أستطيع ذلك ؟بدلاً من الابتسام في وجهها كُلما نظرت إليّ..!!
هل أنا مُفترسةٌ.. مُتوحشة.. داعشية.. لولا الظروف ؟
وراما أيضاً تُثير في نفسي الغثيان، كُلما تحدثت، خصوصاً عندما تقول:"إميي.. وااافئت أعمل.. هااا هااا أعمل تاتو عند كعبي.." وأبوها ما هو رأيه؟ ، وانظر لقدمها وفعلا أرى "تاتو" وخلخالٌ ذهبيّ.. أعتقد بأنها أرادت منا أن نرى خلخالها قبل كل شيء! راما لا ترتدي "جرابات"، وأنا ما زلت أرتدي تلك الجرابات اللعينة..!
الجو في القاعات خانق، خصوصا عندما يجتمعن الطالبات ويبدأن بالثرثرة.. تفوح روائح العرق.. والعطور.. و.. عدم الطهارة.. والافواه الكريهة. لذلك صرتُ أُغادر تلك القاعات فور انتهاء المُحاضرة، ولا ادخل للقاعة إلا بعد دخول الدكتور/ة.. !!
1:03م
صديقتي رنا غادرت قبل قليل، لم تُنهي مُحاضراتها، لكنها قررت أن "تُطنش" آخر مُحاضرة، لتعود للبيت.. لم أصدقها ! ولماذا قد -تكذب- عليّ ؟!
هل ذهبتْ مع.. أحد الطلاب !!
لا أدري.. وشو دخلي أنا !! بس هي صاحبتي لازم ما تخبي عليي شي؟ طيب ليش أنا ما حكيتلها عن.. كتاباتاي هذه!! ؟ طيب ليش أنا افكّر هيك ؟ آه دورتي الشهرية هي السبب !!
****
7:51م
قبل قليل رجعت من الجامعة، لأول مرة أعود وحيدة!! دائما معي رنا، عرفتها من أول يوم واصبحنا أكثر من صديقتيّن، مع ذلك لم أشعر يوماً بأننا صديقات.. او أخوات.. أشعر بأن ما جمعنا كان حاجةً او خوف.. لا صداقة او أخوّة كما نعتقد !
لا أدري لماذا أجعل من الحبّة قُبة؟
أمي تقول لي: وجهك أصفر يا رؤى.. فيكِ شي ؟ تعبانه ؟؟ أخبرتها بأنني اتضوّر جوعاً فحسب، مع أنني تناولت قبل ساعة تقريباً وجبة شاورما سوبر وكأس كوكتيل.. لماذا أكذب كل يوم على أمي ؟ كُلما سألتني عن حالي وانتبهتْ للون وجهي الأصفر أو الازرق لا يهمّ.. لماذا أكذب وادفع ثمن ذلك قيء يُعذبني وحدي في الحمام ؟ أستحق أن اتقيأ خمس مرات كلما كذبت..!
10:15م
للتو أنهيتُ اتصالي مع رنا، رنا تغيّرت كثيراً ؟ لماذا الآن أدركتُ ذلك ؟ لا لم تتغير رنا.. أنا التي.. حتى أنا لم اتغيّر، أنا فقط صرتُ أرى أكثر مما يجب..
***
2017/12/6
12:43ص
قبل ساعة دخلت فراشي لأنام.. او لأُنهي يومي فحسب. لم استطع النوم، تقلّبتُ كثيراً، أغمضتُ عينيّ وتخيّلت الأشياء الجميلة.. الفظيعة.. التي أتمنى حدوثها في حياتي.. موتي المُفاجئ للجميع، يدي تُمسك بيد حبيبي/زوجي/صديقي.. المُهم يدي تُمسك بيد لا أخاف صاحبها.. إصابتي بالسرطان وتعرضي لإغتصاب.. نجاحي في عملي، في كتابة عدة أعمال أدبية لاقت اهتماماً كبيراً من القُراء.. كتاباتي الجريئة الثائرة على كل شيء، وتعرضي للقمع او مُحاولة إغتيال.. كلّ تلك الأشياء لم تُفلح في "رميي" في سديم النوم.
منذُ شهر تقريباً، تغيّر كل شيء في حياتي. لا أدري هل كانت ولادةً جديدة ام.. لا أدري ؟!
ما هو التغيير الذي حدث ؟
فجأةً وبلا مُقدمات، مددتُ يدي والتقطتُّ الثمرة.. المُحرمة، تناولتها دون تفكير..!
في تلك الليلة (السابع عشر من نوفمبر)، كانت ولادتي الثانية.. ولادتي من رحم قضيتُ فيه ثماني عشر عاماً، وُلدت بلا مَخاض، ولم أصرخ عندما لفظتني أمي خارجها.. لم أكن عاريةً، كنتُ خاسرةً إن صح التعبير..!
حينها كنتُ وحيدةً جداً، غاضبةً.. غير راضية.. توقفت عن البحث والاستمرار في ما أنا عليه.. فقررت الإنعطاف مئة وثمانون درجة، هل كان الأمر مُجرد "نُضجٌ" مُبكر ؟ هل هو الإنسلاخ عن الطفولة والتماهي مع الكبار وعالمهم.. القذر ! لا أدري.. لا أدري.. يجب أن أنام وحسب.
6:17ص
لماذا لا يموت الدوام ؟ ليش لازم أذهب كلّ يوم لمكان، التقي فيهِ بأشخاص لا أرغب بلقائهم ؟ واحضر مُحاضرات مُملة.. راكدة.. وأقاوم رغبتي بالصراخ والنوم والضحك والبكاء و... "التطعيم" على كل ما أرى بعينيّ ؟ أرفع يدي واهمس بـ "نعم"، ليتم تسجيلي حاضرةً، حتى لا اُحرم.. وأُريد أن اسخر/انتقد/أُناقش الأفكار التي يصرخ بها الدكتور، ولا اجرئ الّا على هزّ رأسي والتمثيل بأني فاهمة أو حافظة لا يُهم المُهم حضوري..
هذا النُعاس الذي يُداهمني حالياً، ويحتلّني حتى آخر شبر مني، هو ثمن سهري ليلة البارحة.. جوّ الباص خانق وحار، التدفئة مُبالغٌ فيها، والرائحة هُنا تُثير الغثيان والصُداع، وبجانبي تجلس بنت من جيلي، تفوح منها رائحة عطر لطالما اسكرتني وكنت لا أجرؤ على سؤالها عنها..
2018/9/1
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق