عادت.. وهي تكاد تختنق.
نهايات ديسمبر وأجواء وإن كانت أقلُّ صقيعاً من الأعوام الماضية(رُغم إنحسار المطر وهبوب الرياح الشرقية -وما أدراك ما الشرقية- يومياً)، يبقى الشعور بالبرد والقشعريرة أمرٌ لا مَناص منه..
بدأت تختنق. قبل "إختناقها" لحظة وصولها للبيت، كادت أن تستفرغ بسبب غثيان مؤلم إنتابها وهي في مقعد الباص وهي عائدة لبيتها(مرتين جائها ذلك الغثيان الرهيب).
في الصباح وبعد أن تجمدت أصابع يدها وصارَ أنفها قطعة جليد.. جاء الباص (المليء دائماً).
صعدت بعدما توقف بشكل مُفاجئ، وهي تتعرض لوابل من الكلمات تسمعها كطنين الأذن(يلااا.. يا صبيّة.. طالعه ؟؟ يلااا.. وقفف)، جلست مكان أحدهم، وممر الباص مُزدحم، ومع مُضيّ الباص للأمام يتكدس الجالسون فيه.. ولا يعلم إلا الله كيف لثلاثة صبايا أن يجلسن في مقعد لا يكفي لإثنين ؟!.
في المقعد الثالث وراء السائق جلست صاحبتنا، وهي ترزح تحت وطأة انفعال -يتكرر كلّ يوم حتى صار عادياً-، يسارها شباك الباص ذات الوحل الجاف.. وعن يمينها تجلس عجوز.. هذه العجوز تمحورت في ذهن صاحبتنا على أنها كثيرة.. ليست واحدة بل هي مجموعة أشخاص !
المُهم.. وبعد هدوء إنفعالها قليلاً بدأت الأصوات تتصادم في رأسها مع الروائح والمشاهد.. رؤوسٌ تهتزُّ أمامها، ووجهٌ كلّه نظّارة شمسية، يجلس في "مقعد الوساطيّ" تشعر كلما نظرت إليه بأنه يلتهمها.
في البداية كانت أعماقها حادّه.. ومن ثم نما وبَزغ في أعماقها تدريجيا غثيانٌ أبديّ.. يبدأ من أبعد نُقطةٍ في البطن.. وكلّما "قَدحت ولّاعه" تسللت رائحة الدُخان إلى رأسها.. وقد صار الغثيان واضحاً..
سَمعها جيّد، وككل البشر تعتقد بأنها مُعافاة مما قد يُصيب باقي البشر..
فجأةً صارت الأصوات بعيدة.. لها صدىً مكتوم.. ترى أمامها وجهاً يتحدث لأشخاص.. يُحدثهم بأمر ما.. المُتحدث قريبٌ منها !، ترى تفاصيل وجهه جيدا..
المُتحدث هو (كنترول الباص)، لهُ وجهٌ مُميز، يُثير في الناظر إليه شعورا بالعجز وعدم التصديق.. وهو يتلّفت لكل الجهات عندما يتحدث لا يعلم إلا الله لماذا ؟
والذين يستمعون لحديثه ثلاثة أشخاص.. يستمعون له بإنصات.. وكانت صاحبتنا قد شُدّت لهم بإهتمام.. لا تدري لماذا هذا الانشداد؟ ولا لماذا اعتقدت -بيقين- أن المُتحدث يكذب أو يُبالغ في حديثه -شو ما كان- ؟ وبأن الذين يستمعون له لا يُصدقونه.. بل يسخرون منه في دخيلتهم.. حركة فم المُتحدث وصفير أُذنيها، جعلتاها تدخل في حالة من الذهول.. إلى أن حدّق المُتحدث بها.. وهي لم تكن تنظر لهم إنما فقط تختلس نظرات. إلتفتت يمينا، صوتٌ مُبهم يأتي من وراء العجوز الجامدة.. وكان قد توقف الباص أمام بوابة الجامعة.. وكانت آخر النازلين، ولولا رحمة الله لأكملت (رحلتها) نحو آخر محطة للباص.
هاشم عبدالله 2017/12/24
نهايات ديسمبر وأجواء وإن كانت أقلُّ صقيعاً من الأعوام الماضية(رُغم إنحسار المطر وهبوب الرياح الشرقية -وما أدراك ما الشرقية- يومياً)، يبقى الشعور بالبرد والقشعريرة أمرٌ لا مَناص منه..
بدأت تختنق. قبل "إختناقها" لحظة وصولها للبيت، كادت أن تستفرغ بسبب غثيان مؤلم إنتابها وهي في مقعد الباص وهي عائدة لبيتها(مرتين جائها ذلك الغثيان الرهيب).
في الصباح وبعد أن تجمدت أصابع يدها وصارَ أنفها قطعة جليد.. جاء الباص (المليء دائماً).
صعدت بعدما توقف بشكل مُفاجئ، وهي تتعرض لوابل من الكلمات تسمعها كطنين الأذن(يلااا.. يا صبيّة.. طالعه ؟؟ يلااا.. وقفف)، جلست مكان أحدهم، وممر الباص مُزدحم، ومع مُضيّ الباص للأمام يتكدس الجالسون فيه.. ولا يعلم إلا الله كيف لثلاثة صبايا أن يجلسن في مقعد لا يكفي لإثنين ؟!.
في المقعد الثالث وراء السائق جلست صاحبتنا، وهي ترزح تحت وطأة انفعال -يتكرر كلّ يوم حتى صار عادياً-، يسارها شباك الباص ذات الوحل الجاف.. وعن يمينها تجلس عجوز.. هذه العجوز تمحورت في ذهن صاحبتنا على أنها كثيرة.. ليست واحدة بل هي مجموعة أشخاص !
المُهم.. وبعد هدوء إنفعالها قليلاً بدأت الأصوات تتصادم في رأسها مع الروائح والمشاهد.. رؤوسٌ تهتزُّ أمامها، ووجهٌ كلّه نظّارة شمسية، يجلس في "مقعد الوساطيّ" تشعر كلما نظرت إليه بأنه يلتهمها.
في البداية كانت أعماقها حادّه.. ومن ثم نما وبَزغ في أعماقها تدريجيا غثيانٌ أبديّ.. يبدأ من أبعد نُقطةٍ في البطن.. وكلّما "قَدحت ولّاعه" تسللت رائحة الدُخان إلى رأسها.. وقد صار الغثيان واضحاً..
سَمعها جيّد، وككل البشر تعتقد بأنها مُعافاة مما قد يُصيب باقي البشر..
فجأةً صارت الأصوات بعيدة.. لها صدىً مكتوم.. ترى أمامها وجهاً يتحدث لأشخاص.. يُحدثهم بأمر ما.. المُتحدث قريبٌ منها !، ترى تفاصيل وجهه جيدا..
المُتحدث هو (كنترول الباص)، لهُ وجهٌ مُميز، يُثير في الناظر إليه شعورا بالعجز وعدم التصديق.. وهو يتلّفت لكل الجهات عندما يتحدث لا يعلم إلا الله لماذا ؟
والذين يستمعون لحديثه ثلاثة أشخاص.. يستمعون له بإنصات.. وكانت صاحبتنا قد شُدّت لهم بإهتمام.. لا تدري لماذا هذا الانشداد؟ ولا لماذا اعتقدت -بيقين- أن المُتحدث يكذب أو يُبالغ في حديثه -شو ما كان- ؟ وبأن الذين يستمعون له لا يُصدقونه.. بل يسخرون منه في دخيلتهم.. حركة فم المُتحدث وصفير أُذنيها، جعلتاها تدخل في حالة من الذهول.. إلى أن حدّق المُتحدث بها.. وهي لم تكن تنظر لهم إنما فقط تختلس نظرات. إلتفتت يمينا، صوتٌ مُبهم يأتي من وراء العجوز الجامدة.. وكان قد توقف الباص أمام بوابة الجامعة.. وكانت آخر النازلين، ولولا رحمة الله لأكملت (رحلتها) نحو آخر محطة للباص.
هاشم عبدالله 2017/12/24
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق