في يومٍ (نوفمبريّ)، كان ذلك اليوم فُجائيٌّ من ناحيةِ برده اللاسع وهواءه العاصف جداً.
كُلّ شيء يسير كالعادة: تمطر السماء، وتتحول الشوارع لبرك ماء، وسيول سكنية قذره، وترتفعُ نسبة الحوادث..
وبكل الأحوال مهما كان الوضع، يبقى لأول هطول مطر الذي يَعقب شهور الحرّ والغُبار.. يبقى لذلك الهطول الأول شيءٌ خاص يُشبه "الشعور بالامتنان".
هَطل المطر مُجدداً. مُتقطعٌ هطوله.. لا يعلم إلّا الله متى يحين ومتى ينقطع..
لذلك هَطل غزيراً الآن.. فوق (آية) التي كانت تقف في منطقةٍ لا وجود فيها لمكان قد يحميها من هذا الهطول، في وسط العاصمة على رصيف شارع مُزدحم دائماً.. وقد شاء الله لها أن تقف في ذلك الحيّز المُقفر لتنتظرَ باصا أو تاكسي.
كانت "مُستاءةً" من ذلك الإنتظار الذي طال خمسة دقائق.. والآن وهي ترتدي جاكيتاً خمريّ لم يزل يعبق برائحةِ خزن الملابس الشتوية، قبل الهطول كان الجاكيت يَفي بالغرض من ناحيةِ حمايتها من لَسعات البرد(بعض الشيء)، أما الآن وقد صارت كأنها تقفُ تحت مزراب ماء.. صار الجاكيت قانياً.. غامقاً.. ثقيلاً.. وللحظات في اثناء سماعها ورؤيتها قطرات المطر الهاطلة.. أحسّت كأنها "نُسيت" في هذا المكان من رفقةٍ ما.. ولأنها لو استمرت بالوقوف دقيقةً واحدة لحُممت وغسّلت ملابسها مراتٍ عديدة..
أكيد لم تنتظر، ودون أن تختار أو حتى تنظر أمامها.. راحت تركض يساراً وتميل بجسمها للإمام، لتحمي نفسها من الهطول !!
طالَ وقت الإشارة وهي حمراء.. وهطول المطر زاد الاستعجال والحماس لدى الذين يجلسون خلف المقوّد.. وبين هؤلاء "المُستعجلين" الزوج العائد من أخذ زوجته المُعلمة من عملها.. وكان حواراً مُشتعلا بين الزوجين، عندما لمحت الزوجة خيالا يركضُ في الجهةِ المُقابلة.. وقد كان الزوج مائلاً نحوها يُحاججها كالعادة في نقاشٍ بينهما.. يتكرر كل فترة، دون أن ينتهي.. كأن وجودهما معاً يعني نقاشات وحوارات مُعظمها عقيمٌ وفارغ، وإلّا صمتاً مُطبقاً.. مُحرجٌ ذلك الصمت لهما.. مُحرجٌ جدا.
احسّت بعدما رأت الخيال الراكض، بأن وجه زوجها كريهٌ على غير العادة، مُنفرٌ كأيّ وجه غريب.. وكشعور جديد وهو يحدث عادةً في لحظات خاصة، كيوم فيه مُقابلة لعمل لا أمل فيه.. أو يوم امتحان مصيريّ.. بَزغ فيها هذا الشعور الساحق، والنفس في تلك الحالة لا تثبت على مزاج واحد.. والتفتت للأمام، لترى مجموعة باعة متجولون بين السيارات الواقفة أمام الإشارة الحمراء وكان المطر قد خفَّ هطوله، كأنهم (الباعة) وهم ثلاثةُ أشخاص خرجوا من وسط الشارع!!
يسيرون نحو السيارات ويُعرضون بضاعتهم، أحدهم معه باقات ورود حمراء صناعية.. لكنها تبدو جميلة، وظهرت فتاةٌ قد تجاوزت العشرين من العمر، ترتدي من رأسها إلى قدميها سواداً كَحت لونه.. وتُمسك "ممسحةً" ودون أن تطلب شيئا.. تَمسح زجاج السيارات.. وعندما وصلت سيارة الزوجين، نَطقَ الزوج بأسىً مرير: "شوفي.. شوفي البنت.. يا حرام.. يا رب سترك ورحمتك.."، ومن محفظة الزوجة أُعطيت الفتاة..(نصف دينار)، وأرادت الزوجة وبكامل قواها العقلية أن تُناولها المحفظة كلها.. والزوج أمسكَ في اللحظات الأخيرة على أن يُخرج محفظته التي امتلأت قبل قليل براتب التقاعد(الذي سيندثر أكثر من نصفه بعد أقل من ساعة)، أمسك عن تسليمها للفتاة بنفس مُمتنة بل شاكره..
عادا (سعدٌ وعبد الله)، من ما قد جعلهما خفيفيّ العقل.. زائغيّ النظرات.. وفي جبهات الرؤوس ارتخاءٌ حاد.. سعدٌ وموضع في من أسنانه لا يُؤلمه إلا في ايام تتشابه وهذا اليوم، حتى صار يُدرك من هذا الألم أنه تأخر عن شيء ما.. كالتدخين أو الأكل.
وكان هطول المطر خفيف جداً، والغروب قد يحين بعد بضعة دقائق.. عندما رَكنا السيارة كأنما تخلصا منها، في مُجمع الباصات المُزدحم غالباً.. عَقدا العزم بلا كلام على تناول شيئا.. كحلويات(الجو يدعو لذلك) أو صحن فول ساخن مع كم حبة فلافل إذا لم يُريدا تناول الشاورما أو البروستد، بعد خطوات من مشيهما أحسَّ عبد الله ببرد لا يتناسب مع لبسه الشتويّ الكامل.. لم "يُدقق" ومَضى ورفيقه نحو "مطعم الإخلاص"، تخرج من "نفق الروائح العطره"، وتمشي بالطبع جهة الغرب في شارع "السعادة".. وفي أول دخلةٍ على يمينك.. وبعد خطوات قليلة وعلى جهة اليسار يوجد المطعم.. إفترسَّا صحنيّ فول وحمص وصحن فلافل(سبعة حبات)، أحترم (جداً) اولائك الذين يأكلون بغضب، الذين ترتجفُ أطرافهم من الجوع، وتستغيث بطونهم وتَفرغ رؤوسهم الاّ من طنين.. بعد "الافتراس" الارتجاف يتحول لخدر والرأس يُصبح محموما.. خصوصاً إذا ما توجه الآكلون نحو.. وقد توجه صاحبيّنا نحو "القاضي" ومَن لا يعرف القاضي ؟
كانا قبل الوصول للقاضي في "نصف الأحسن حال"، والنصف هو خيرُ الأمور، لكننا في شؤوننا الجسمانية لا نرضى بانصاف الأمور.. فحُطت أمامهما أنصاف بل اوقيتيّن من الكنافة الناعمه.. الساخنة.. الغارقة في قطرها.. ومذاقها "القاضي" الذي يحتوي نكهة سمنٍ خفيفه.
حاذرَ الرفيقين من المُبالغة، لأن النتيجة كارثية، فغثيان الكنافة كانتظراها لتأتي.. صعبٌ جداً.
وقد بالغَ سعدٌ، ولأنه كان قد وصل حدا تحت الصفر من فقدان الطاقة.. كان الأثر خفيفاً عليه، غادرا القاضي.. يمينا سارا في زحمة رصيف السعادة.. الذي صار زاهياً ومُتلئلئاً باضواء ساطعة.. وصرّح سعدٌ بأن شعور البرد الذي هاجمه قبل كل الذي صار قد زال الآن.. وفهم عبد الله قصد سعد.
وهما يصعدان الدرج بعد عبور النفق.. لم يكونا قد لاحظا عندما نزلا قبل نصف الساعة.. لم ينتبها أبدا لرجل يبدو قد تجاوز الخمسين من العمر، مُنكمشٌ بطريقةٍ مُثيرة للإنتباه.. يجلسُ على الدرجات وإلى يمينه عُلبةُ علك (أبو القرشين ونص).
ومن عينيّ عبد الله الذي يصعد الدرج وعن يمينه سعدٌ المُنطلق.. يُشاهد أحد العابرين بعد أن تجاوز "بائع العلك" كأن ذلك العابر تذكر شيئا فجأة.. عاد وناول البائع الذي بقيّ مُنكمشا بـ "وضع غير طبيعي"، لعلّه بردان ؟!
هُناك لحظات عَجز لا يستطيع الإنسان إدراكها في حينها أو التعامل معها.
أراد عبد الله إعطاء البائع.. لم يتوقف.. لم تتحرك يده لإخراج "ايّ فراطه".. كانا كأنهما يهربان نحو سيارتهما.. وبعد أن صعد عبد الله أعلى درج النفق المُفضي إلى المُجمع.. وكان مُمسكا بيده علبة ماء صغيرة.. أحسّ بأنها (العلبة) تمنعه.. أراد وضعها على رف أحد محلات العطور.. ليعود ادراجه ويُعطي بائع العلك أي شيء.. أكمل مسيرهُ كمشدود.. وللحظةٍ أحس بأنه يمكنه الرجوع.. وقد حانت منه التفاته للوراء، وقد رأى في عيون كُل الذين يصعدون.. رأى في عيونهم تأثراً بل وشيء يشبه الغضب.. وتذكر (لا يدري لماذا) تلك الفتاة ذات الرداء الخمريّ التي رآها تركض تحت هطول المطر الغزير.. وهو في السيارة ينتظر الفرج.. في إخضرار لون الإشارة قبل ساعةٍ ونصف.
هاشم عبدالله 2017/11/22
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق