الأربعاء، 29 أغسطس 2018

مُجرد شعور (قصة قصيرة)

كان "م" يمضي نحو.. غايته. إلى أن أشرقت في نفسهِ فكرةً لعلّها راودته قبل أن يمضي.. قبل أن يخطو خطواته الأولى..!
ككُل الذين يخرجون من بيوتهم لأجل القيام بأمر "بالغ الأهمية"، كانَ صاحبنا "مشحوناً"، يكاد يَطير من ما يشعر به من إحساس بالإستعجال.. برغبةٍ مُؤلمةٍ للوصول.. 
في قَرارة نفسه، بَزغ شيءٌ مُتوقد.. وقد كان مزاجه في أول الأمر (وهو ينتظر الباص)، كان مزاجهُ كئيباً.. كارهاً لكل شيء، إمتزجت تلك المشاعر، مع شعور يقترن بالصباح عادةً.. إحساسٌ بالوضوح والجمال.

وعندما إستقلَّ الحافلة "المُكتظة"، وجلس في مقعد مزدوج، خلف السائق الذي لا يَظهرُ منه سوى صَلعة رأسه وجاكيته الأسود واهتزازه من جرّاء مطبات الطريق (الصناعية والطبيعية)..
بسرعةٍ حاصرته أصواتٌ مُبهمه وهمهمات، يتميّز عنها صوت الراديو بوضوحه.. كان وهو ينتظر الباص قد تجمدت أطرافه من البرد.. بل من الصقيع الذي يترافق مع هبوب رياح (الشرقية) الديسمبرية والآن يكاد يختنق من حرارة المكان ودُخان السجائر المُقرف..

عن يساره نافذة الباص وعن يمينه يجلس شيخٌ كهل، يُمسك بيديه عُكّازاً ويُحدّق إلى الأمام بذهول.. وإلى يمين الشيخ في المقعد الفردي، تجلس فتاةً تحتضن أوراق وتميلُ بوجهها نحو النافذة إلى يمينها، كأنها تتقي شيءُ ما !
وعلى مقعد يُسمى "الوساطي"، هذا المقعد "المُميز"، فهو بين السائق والكُرسي الأول.. الجالس عليه يكشف كل الباص وكل الوجوه تنظر إليه، وعادةً من يجلس على الوساطي "يرتبك" قليلاً أو كثيرا حسب شخصية الجالس، ولكن لابدَّ له من أن يرتبك.. ويُحاول أن يبدو الناظرين إليه بأنه بوضع طبيعي، فلذلك يُخرج هاتفه ويتصفح.. كما هو حال الشاب الجالس على الوساطي في هذا الباص الذي يركبه صاحبنا.. صاحبنا الذي وبعد دقائق قليلة من جلوسه، أحسَّ بوخزةٍ في صدره.. وانتابهُ غثيانٌ خارق.. فتزحزح عن مقعده قليلاً وسَعل.
صُراخ مُذيع برنامج الصباح، وإنبعاث الاغاني الصباحية (الفيروزية والوطنية)، وقطعها بشكل مُفاجئ بعويلٍ مُدويّ لإعلانات تبعث في الأنفس السأم الشديد..
كلَّ هذا بثّ في نفس صاحبنا شيءٌ من العجز والحنق الذي يتلّون على وجهه بإبتسامة اشمئزاز تشدُّ وجهه.. 
تلاحقت في ذهنه مخاوفٌ وآمال ويأس يُخالطه عزمٌ وقوة مُندفعة.. وعَلا الباص وهَبط من على مطب مُعتنىً به جيدا.. وإلتفت صاحبنا نحو النافذة على يساره.. رأى الرصيف المُزدحم بعض الشيء.. ووراء الرصيف سورٌ مُتداعي.. مُتطاول، وراءه أشجار ضخمة ومبنى قديم على ما يبدو..
وانتبه لإمراة تجلس على الرصيف، ترتدي خماراً أسود بَهت لونه وصار رمادياً.. وفي حضنها ينامُ طفلٌ لم يتجاوز الخامسة على ما يبدو.. ومن خلفها يسير العابرون.. يُسرعون الخُطى.. كُل شيء يُرى سريعا، بعيدا من خلال نافذة الباص المُسرع.

نَزل صاحبنا عند تقاطع م.ن، وصَعد نحو "دائرة ق" التي صار صاحبنا من زبائنها الدائمين، الدائرة تقع في الأعلى.. لذلك من أراد الوصول إليها سيرا على الأقدام، عليه أن يصعد رصيف مُقفر، فالمحلات مُعظمها مُغلقة والناس منذ ساعة تقريبا خرجوا ليومهم.. والشارع خفيف الحركة، ولا يعلم إلا الله كيف تظهر السيارات بشكل مفاجئ عندما يهمُّ أحد الماره بالعبور ! كما حدث لصاحبنا الذي كاد أن يُدهس أثناء عبوره الشارع للجهة الأخرى..
قُلت أن فكرةً أشرقت في نفسه وهو يمضي.. بل يصعد. والفكرة هي أن كل شيء إستوى.. وبأن الأمور قاربت على الإنتهاء، وبأن هذا المكان جميلٌ بعض الشيء، بالرغم من شعور بالإغتراب استولى عليه.. والمزاج الذي يتأثر من جوّ الصباح ورياح الشرقية التي تجعل المكان يبدو مُتجهما رافضاً.. 
ها هو قد عاد مُجددا لهذا المكان ! وعاوده الشعور ذاته كُلما مرَّ من هذا المكان.. الشعور بعدم القبول والرغبة القوية بالإمّحاء والتبدد. وَصل للمبنى.. وما أن دخل حتى فُوجئ ككل مرة بإزدحام الناس.. وفي كل مرة يشعر بفقدان السيطرة.. وبأنه صار خفيفاً (أهبل).
خَرج مثلما دَخل، فقد أُعطي موعدٌ مُؤجل لإسبوعين أراد أن يحتجّ على ذلك.. لكنه أمسك.. فقد كان مُنهكاً تماما، فقد أمضى نصف ساعة وهو ينتظر أن يَحين دوره.. إلى أن حان وقد تبددت قواهُ تماماً.. فلم يملك إلا أن يهزّ رأسه أمام الموظف المُكفهر الوجه ويختم بـ "الله يعطيك العافية".. ويُغادر.  وما أن تجاوز الباب حتى هاجمه الهواء البارد.. وأحسَّ بوهن يتغلغلُ فيه.. ونزل الدرج وهو يشعر باليأس اللذيذ.. ودون أن يدري أين يتوجه ؟ عقد يديه وراء ظهره وتوجه لليسار كآلي مُسيّر، وتذكر لا يدري لماذا تلك المرأة التي كانت تجلس على الرصيف وتحتضن طفلها.. تَذكرها كأن كُل الذي جرى يعنيها !!.
هاشم عبدالله 2017/12/18

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق